نص سردي من رواية “قتر” للكاتبة لطيفة حليم
لطيفة حليمة
1
تَبْدُو خطواتها مضطربة، لا من هَوْلِ الرحلة، بل من هول الحليب المُنْقَطِع من حَلَمَةِ ثَدْيَيْهَا. أطلقت تنهيدَةً عالية زَعْزَعَتْ فَرَائِصَها، وهي ترى بَعْلَها بين المهاجرين الذين يَرْهَقُ وجوههم قَتَرٌ من تعب البحث عن عَرِيشٍ يَسْتَرِيحُونَ تحت ظلّة. تَنَاهَى الى سمعها حديثهم عن قطعة أرض قريبة من منطقة فِيكِيكْ، لضريح ولية صالحة. أسرعت الخطوات تريد أن تصغي لحديثهم، تَعَثَرَتْ قدمها اليمنى بعود يبس ماؤه، هَوَتْ الْتَوَى كَاحِلُهَا، اهتزت الرضيع من فوق صدرها، انتبه إليها هَرْوَلَ مسرعا، أمسك بِمِعْصَمِ يدها اليسرى وقد بدت أَسَاِورَ الذهب لامعة. أخبرها أنهم قريبون من ضريح لَلَّا صْفِيَّة ذات الكَرامات.
حَطَّتْ لَلاالزّين تحت عَرِيشٍ. أدرك بعلها عجبها من جُحُوظِ عَيْنَيْهَا لأنها تريد أن تعرف أخبار الوليَّة لَلَّاصْفِيَّه، رأى دم قَاتم يَسْكن حَذَقَتَيْها من أثر الرِّحلة، قال لها وكأنه أحمد بن يحيى بن محمد الونشريسي التلمساني أبو العباس مهاجرا إلى فاس:
– لَلَّا صْفِيَّة زاهدة عابدة متصوفة، أخذت عن والدها سيدي سليمان الطريقة الشَاذِلِيَّة، وتعلمت خط الحروف العربية، وحفظت ما تيسر لها من القرآن الكريم.
اتسعت حَذَقَة عينيها مستغربة. هي لا تحفظ إلا السور القصيرة لأداء صلاة الفجر والمغرب. تابع حديثة:
–ولدت الولية الصالحة لَلَّا صْفِيَّة قرب منطقة فِيكِيكْ، والعجيب في امرها أنها دفنت مرتين، مرة بمسقط رأسها، ومرة نقل جثمانها إلى قطعة أرض متجاورة بالقرب من العين الصفراء غير البعيد عن فِيكِيكْ، والسبب في ذلك أنه حصل نزاع بين ساكنة القطعتين من الارض، كل من الساكنتين تريد ان تحظى ببركة للا صْفية.
قالت له:
–الله ينفعنا بركتها.
انبطحت تحت عَرِيشٍ وَارِفِ الظِلِّ، بالقرب من زوجها، وقد بدت متألمة من أثر التواء كاحلها، التفتت إليه وقد أَغْرَقَ رَقَبَته وسط يَاقَة سِلْهَامِهِ البني، أطرافه مُتَدَليّة على كتفيه، نزعته وألقت به فوق عشب يابس. تمتمت وهي ترى على وجهه صَرَّة ُحَرٍّ:
–باسم الله الرحمن الرحيم. يا رب احفظه من هذه الحرارة المرتفعة.
بيدها اليسرى مروحة تروح بها على وجهه، وتمرر راحة كفها اليمنى على وجنتيه، إلى أن أصبح وجهه غضًا ناعمًا، ابتسم ابتسامة عريضة، نزع من يدها المروحة، وبدا يخبرها أن الملك تأخر في الرد على رسالة الباشا فأجابه إجابة أَغَاضَتْه وأَغْضَبَتْه، وكانت بيد الباشا مِرْوَحَة، فَلَطَمَ بها وجه القنصل، وثار لهذه الإهانة الملك. همس في اذنها:
–المروحة علامة على احتلال ارض اجدادي من طرف الكفار.
أعاد المروحة إليها وهو يغني قصيدة الملحون لشيخ محمد بن مسايب بصوت شجي:
يا اهل الله غـيـثـو الـمـلـهـوف من قبل ما تشعـل نـار الـجـــوف
كيف يهنى من سكنو خــــوف وانــزحّــم طــول بـــــو لـحـقـــوه
وايــن اًهــل الـلـّـه كـلـتـهــــم وعـسـى تـحـضــر بـركـتـهــــــم
تحـضـر لـنــا غـايــتــهـــــــم نــــدرك شـــــي اًلــي دركــــــوه
واين اًهـل الـلـّـه بـالـجـمـلـــة شرق وغــرب جــوف وقـبـلــــة
***
تفقدت لَلاالزّين بيدها اليمني جُوهَر الأغْصان الملصق بشعر راسها، تأكدت من رَبْطِ الخَيْطِ المَفْتُولِ بِالزَّعْفَرانِ والمَلْفُوفِ بِفُتَاتِ الذَّهَبِ، قلبته اعادت ربط الخيط بحركة أحدثت على إثرها صوتا انبعث من الاساور بمِعْصَمَيْ يديها اليمنى واليسرى. التفت إليها و ذكرها أن الأساورهدايا عقْدِ قَرَانِها اشتراهم من مدينة وجدة، وجَوهر الأغْصان اشتراه من مدينة تلمسان. فَكَّت رَبْطَ خيط جوهر الاغصان بحذر من بين لفيف شعر رأسها، واخفته في صُرَّةٍ اثبتتها داخل حزام خِصْرِها. غَمَّضت مُقْلَتَيْهَا اصابتها سِنة نوم خفيفة.. في لحظة يقظة اتستبقت سنها وقد أصبحت تحترف مهنة مَاشْطَة تُزَيِّنُ الشَدَّة واللَّوْحَ للعروس، وتُلَقِّنها درسا في الصَّبْرِ، من خلال علامة الشَدَّةِ التي تَدُكُّ رأسها، والَّلوْحِ الذي يُثْقِلُ صدرها، لأن الذهب والجواهر وزنهما أكثر من ثلاثين كيلو كرام. تغرق في اسْتِبَاقَاتِها تتماثل لها صورتها وقد أصبحت ماشطة بيدها مروحة. ادرك بعلها استباقاتها وهو بجانبها أيقضها من أحلام يقظتها ، وقد ارتفع صوته:
– يا اهَلْ الله غِيثُو المَلْهُوف
– كِيفْ يَهْنَى مَنْ سَكْنُو الخُوف
تتظاهر باعجابها بصوته الشجي، وما هو كذلك، تتمايل بحركات دائرية، تتناغم مع تحريك أساور الذهب بمعصم يدها اليسرى واليمنى. استرخى بَعْلُها على نغم الأساور، تَمَطَّطَ منتشيا، استوى ارتمى على كتفها، أخفى شهوته، وبدأ ينقل لها نُكْتة، سمعها قبل لحظات من رفاق الرحلة، عندما كانوا يبحثون عن عَرِيشٍ وَارِفِ الظل، لم تضحك لِسَماجَةِ النكتة، ابتسمت ابتسامة باردة، كشمس المدينة التي ذهب إليها ابن فَضْلَان زمن العَبَّاسِيين. أعاد النكتة بشكل آخر لعلها تجد في النكتة شيء من دفء الحب يسري لهبا في جسدها. ضحكت ملء فِيهَا ضحكة كاذبة لتخفي ثقل النكتة.
تحرك يديها حركات دائرية على إيقاع أساور الذهب وهو يغني:
–بالله يا ابن الورشان
ادي سلامي لغصن البان
تتابع معه الأغنية بلكنة تلمسانية
سقسي وسال اعليها
والدار حين تعرفها
انجي نسال قبالتها
كون لبيب و سيساني
سقسي وسال على الاسم
و قول لها تلمساني
يرتل آية من سورة الرعد:
-.. وفي الأرض قِطَعٌ مُتَجاورات…
بَسَطُ كفيه، ورفعهما إلى السماء، طلب من الله بركة لَلَّا صْفِيّة.
(من رواية قيد النشر)
