نص سردي من رواية “قتر” للكاتبة لطيفة حليم (2)
لطيفة حليم
2
في الطريق الى مدينة تازة، أصيبت الرضيع فُلَّة بالحُمَّى، وارتفع صوت للَْازّين يُوَلْوِلُ:
– الله، الله. بنتي غادي تموت قبل ما نواصلو لْتَازة.
وصل الركب يوم الخميس إلى مدينة تازة، صادف جحافل من البشر، وسط السوق الذي يقع بين باب القصبة في الجنوب، وباب الجمعة في الشمال. اتجه عبد القادر ورفاقه إلى مسجد الأندلس لصلاة العصر، بينما اتجهت زوجته لَلاالزّين برفقة أخيها إلى زنقة البَقَالِين وهي تحضن الرضيع فلٌة، لا تستطيع أن تسرع لألم ينزغ كاحِلِها، تمشي ببطءٍ، تسأل عن بقَّال يبيع ماء الورد. بين حين وآخر تتفقد داخل حزامها جَوْهَرْ َالاغْصَان، تخبرأخاها الذي يكبرها بسنة، أنها حملت معها حِلِيِّها الثمينة، تُنبهه إلى أن جُوهَرْ الاغْصَان بداخل صُرَّة شُدَّتْ بِحزام بلوزتها. يرمقها وقد تَعَرَّى طَرَف من ساقها، عجلت بِسَتْرِهِ، وأعادت لَفَّ الحَايَكْ من نوع العَشْعَاشِي، غلفت رأسها إلى أخمص قدميها، شكلت من جسدها قطعة صنم تتحرّك فوق أرض الجيران. تحمد الله، تخبره أنها حملت معها رزمة بداخلها الحايَكْ من نوع المَرْمَة، منسوج من حرير ناصع البياض. تهمس:
– أنا خائفة على أخي الصغيرمُراد، تركته في تلمسان عازما على ركوب البحر مع زمرة من المهاجرين.
يسمع أخوها همسها و يتعجب من انصرافها عن لمس حرارة ابنتها فُلّة، وانشغالها بالحايك الذي يغلفها. تمشي تبحث وسط دروب أزقة تازة عن بقال يبيع ماء الورد، توقفت حين اشارأخوها بسبابته إلى زوجها وهو يمسك بيده قِنِّينَة ماء الورد، وقد لحق بهما إلى السوق، بعد أذائه صلاة العصر في مسجد الأندلس. سلم القنينة لزوجته، واتجه إلى المسجد الأعظم لصلاة المغرب.
مع الآذان أضاءت ثُرَيَّا كبيرة يسع نورها مدينة تازة، ركنت لَلاالزّين ركنا خاصا بالنساء، وانبهرت من لمعان النحاس الخالص الذي صنعت منه ثرَيَّا مزينة بكؤوس الزجاج ومضاءة بالشموع، وقد نقش على حافاتها بخط مغربي جميل آيات القرآن من سورة النور*الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ * ، * وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً *، * إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم *. لاعلم لها أن هذه الثّريا هي في الأصل ناقوس جُلِبَ من كنيسة إسبانية زمن حكم المرينيين، سيدة بجوارها لم تسألها عن الناقوس، سألتها عن الثريا:
– كيف رفعت هذه الثريا الكبيرة؟
أخبرتها أن يوم تعليقها ذبح عجل كبير، وسال دم غزير. هَمْهَمَت للازّين:
-كل شيء مرتبط في بلدنا بالدم. فض البكرة، تعليق الثريا.
رُفِعت الثُّرَيا مع الدم. الرجال يرددون بأصوات عالية الله أكبر، الله أكبر، النساء يصلون على النبي ويزغردن، الصلاة والسلام على رسول الله.
تَعصر لَلاالزّين حلمة ثديها، لم تنزل منه أي قطرة، تأكدت أن الحليب انقطع يوم دخل الكفار تلمسان. عندما شاهدت السيدة التي بجوارها الرضيع تمتص حلمة فارغة، وقد ارتفع صراخها، نبهتها إلى أنها تحتاج إلى مرضعة، في مثل ابنة عمها خديجة البَرِيشِية التي أرضعت مولاي سليمان ابن السلطان، وأمر السلطان كاتبه عبد السلام السلوي، أن يرتب لها خمس عشرة اوقية في كل شهر، وان يتعهدها بالإحسان المرة بعد الاخرى، ولا يغفل عنها لأنها أرضعت ولده الذي يحمل اسم عمه السلطان مولاي سليمان. يمتد بهما الحديث إلى أن ابن عمها نزل بمدينة تطوان وبنى بها دارا عرفت باسمه بريشة.
يرتفع صوت الرضيع فلّة. لا تستطيع السيدة التي بجوارها ان ترضعها لأنها من قواعد النساء، خرجت بسرعة إلى دارها، عادت وهي تحمل معها صُرَّة صغيرة بِحَشو طحين القمح المُحَمَّص وقنينة عسل مصفى، افرغت قليلا منهما وسط قطعة قماش شفاف ابيض، جمعت أطرافها بحجم يسع فم الرضيع على شكل مِسْكَبة، وبدأت الصبية تمتص حَلَمَة اصطناعية، هدأ صراخها والحرارة مازالت مُتقدة على جبينها. أمسكت السيدة بالرضيع فُلّة، نزعت لَلاالزّين درة بيضاء شفافة من فوق رأسها، صَبَّتْ فوقها ماء الورد، وربطت الدرة بَلْسَما فوق جبين الرضيع، قرأت على رأسها آية الكرسي والمعوذتين، خفت حرارتها، انتبهت إليها وقالت:
-لماذا نزعت الدرة من فوق رأسك هذا حرام.
أجابت لَلاالزّين:
-الله يرانا، والرجال لا يرونا، هم في جناح ونحن في جناح.
يتابع الركب طريقه إلى مدينة فاس، وقد خفت الحرارة على جبين فُلة، وبدت لَلاالزّين هادئة.
