في القراءة والكتابة
عز الدين العلام
… والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن،
ومن أمة إلى أمّة، فهو أبدا جديد،
والناظر فيه مستفيد،
وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير.
الجاحظ: المحاسن والأضداد
كلّ معارض الكتب والملتقيات الفكرية هي مناسبة للإعلاء من شأن الكتاب الذي يجمع في آن واحد بين قارئه ومؤلّفه. وقد لا أغالي إن قلت إنّ فعل القراءة، هو اليوم، وبشكل من الأشكال، أعدل الأشياء قسمة بين الناس. وأقصد بذلك أنّ المجتمع الحديث الذي عرف الغرب بوادره الأولى، بقيمه الجديدة ومؤسّساته الحديثة، كان أوّل من عمّم هذا الفعل، وجعل منه حقّا عاديا مثل سائر الحقوق.
لم يكن الأمر دائما كذلك. ففيما مضى من عصور، وكما أكّد ذلك العديد من الباحثين، كانت الدولة تجعل من تقنية القراءة والكتابة “نشاطا سرّيا”، فكان تعلّمها يقتصر على عدد محدود من كتَبتها، ومن بينهم أساسا رجال دين كانوا من بين موظّفيها. لقد كانت اللغة في مثل هذه العصور، كما لاحظ ذلك “كلود ليفي ستراوس”، تُستعمل، أوّلا وقبل كلّ شيء، كأداة استغلال وعلامة جاه، وكانت بالتالي موضوع تقديس أمام أُناس عاديين، عاجزين عن فكّ رموزها. وهل نذكّر هنا أنّ عبارة “هيروغليفيا” تعني “اللغة المقدّسة”!
في العصور الوسطى المسيحية، كان تعلّم اللغة اللاتينية من نصيب فئة محصورة تحتكر مختلف العلوم الدينية، ولم تكن لها علاقة بلغة الناس اليومية. واستمرّ الحال على ما عليه إلى أن حلّ مسلسل تحرّر اللغات الوطنية الأوروبية من أسْر اللغة اللاتينية، وانبرى عدد من الكتّاب والمفكّرين، نظير “دانتي” بل و”ديكارت”، لصياغة مؤلفاتهم بلغاتهم المحلية التي يتداولها مواطنوهم
أمّا في العصور العربية – الإسلامية، فقد كان للتقسيم أو للتراتبية الاجتماعية ما بين “خاصة” و”عامة” أثرها في حصر فعل القراءة والكتابة لدى عدد محدود يشمل موظّفي الدولة خاصة، وبعض ممتهني حرفة الأدب… وهل نذكّر هنا بعنوان كتاب الغزالي، رغم اختلاف السياق، الموسوم ب”إلجام العوام عن علم الكلام” !
أمّا اليوم، فإنّ أساس المجتمع الحديث يقوم إلى حدّ كبير على تعميم فعلي القراءة والكتابة.
أسئلة كثيرة يطرحها موضوع القراءة والكتابة في المغرب الراهن. نعم بالإمكان تناول هذا الموضوع من وجهة كمّية وإحصائية:
كم عدد المنشورات وما هي أصنافها؟ كم عدد التلاميذ والطلبة، وما هي نسبة الأمّية؟ كم عدد مبيعات الجرائد والمجلات والكتب؟ كم عدد الخزانات العمومية، وكم عدد المكتبات؟ كم عدد المعارض والملتقيات الثقافية؟ … وإن بدا للبعض أنّ مثل هذه المقاربة الكمية والوضعية أمر بسيط، فإنّي أتصوّر أننا لا زلنا في حاجة إليها لمعرفة حدود المغرب وطاقاته، والعمل على تقويم اعوجاجه، ومعالجة أحواله.
وفيما عدا ذلك، فإنّ الأمور تصبح أكثر تعقيدا فيما لو طرحنا أسئلة نوعية تتطلّب شيئا من التحليل والتفكير.
تاريخيا، وإلى حدود استقلال المغرب، كان الوضع تقليديا بل وتراتبيا… كانت القراءة والكتابة في ارتباط بدولة السلطان وحاشيته، أمّا عامة الناس، فلها حرفها وزراعتها ومراعيها. ومع بداية الاستقلال، وفي سياق بناء أجهزة وقواعد الدّولة الوليدة، أصبح لمن يعرف شيئا من القراءة والكتابة (بالمعنى الحرفي للكلمة) دورا أساسيا في تعميم سلطة الدّولة (إدارات، تعليم، مؤسّسات، مراسلات…) غير أنّ هذا الاستيعاب الدّولتي لمن يعرف القراءة والكتابة أدّى ما أرادت له الدولة من أدوار، وانتهى اليوم زمانه وامّحى دوره. لم يعد لمن يعرف القراءة والكتابة اليوم أي امتياز كما كان الشأن في فجر الاستقلال. وبالمقابل، أصبح الامتياز اليوم لمجالات بعينها من “القراءة والكتابة” بدلا عن تلك المجالات التقليدية التي فقدت أهمّيتها… ومن هنا أعتقد أنّ القراءة في مغرب اليوم، لم تعد قراءة بصيغة المفرد، بل أصبحت قراءات بصيغة الجمع، لكلّ مرتبة قراءتها، ولكلّ فئة لغتها…
وأخيرا، إذا كان المجال الطبيعي للقراءة والكتابة وتداول الكتب، هو بالأساس، المدارس والثانويات والجامعات، فإنّ أكبر نقيصة عاينتها تكمن في الضعف اللغوي، وهزالة زاد التلاميذ والطلبة (حتى لا أقول بعض المعلمين والأساتذة) من الكلمات. وهي نقيصة تتجلّى بوضوح في مناقشاتهم، وفي العديد من عروضهم ورسائلهم الجامعية. أمّا السبب، فلا شيء آخر غير قلّة “القراءة”. إذ كيف لأيّ كان أن يكتسب لغة، أن يحرّر عرضا جامعيا، أن يكتب مقالا دون قراءات مسبقة. فقبل أيّ كتابة، تُطرح بداهة ضرورة القراءة وأسبقيتها.