لماذا ترك غورباتشوف حصان الاتحاد السوفييتي وحيدا؟ّ!
د. عارف دليلة
أزعم أني أمتلك معرفة، إلى حد ما، بالنظام السوفييتي، فقد عشت في جامعة موسكو خمس سنوات بين 67 و72 أثناء دراسة الدكتوراة في الاقتصاد السياسي، وهو العلم الأكثر أهمية في دراسة وتقييم التجربة السوفييتية، وعدت بدعوة من رئيس الاكاديمية المالية في موسكو آللا غريزنوفا، التي كانت أيضا مستشارة للرئيس ميخائيل غورباتشوف لزيارة موسكو، أثناء فترة ممارستي لوظيفة عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، لمدة شهر ونصف في كل من عامي 88 و89 أيام قيادة غورباتشوف، ويمكنني قول الكثير سواء عن تطور الاتحاد السوفييتي وعن تجربة غورباتشوف في قيادته والتي ساقته إلى الانهيار، بدلا من التصدي الجدي لمعالجة مشكلاته، والتي بالتأكيد ليس هو وحده وإن كان الأخير المسؤول عنها، وبالأخص أنه قام بوظيفة حفار قبر النظام السوفييتي، وهي الخدمة الأعظم التي يشكره عليها بالإجماع أرباب الاستعمار والامبريالية والاستغلال المؤبد، وإن كان قد تحدث باسمهم الكثيرون، حتى من”اليساريين والشيوعيين”، وكذلك من حملة لواء الحرية والديمقراطية، وكثير مما قالوه فيها كان حقا ومستحقا ربما، لكنه كثيرا ما أريد به باطل! فالمآل الأسود للنظام السوفييتي كان نتيجة أكثر من سبعة عقود من الديكتاتورية وعبادة الفرد والحزب والايديولوجيا المقفلة على الحرية العقلية، ومن سوء وفساد الإدارة السياسية والاقتصادية… الخ، طبعا دون أن ننسى الإنجازات الاشتراكية الحقيقية التي تعتبر عظيمة حقا، وإن كانت مكلفة جدا للأسباب المذكورة آنفا، وأخذا بالاعتبار الظروف الدولية المعادية جدا، بما فيها الحرب العالمية الثانية التي كان الاتحاد السوفييتي بنتيجتها بعد تضحيات هائلة، أكبر المنتصرين على النازية، وقد كانت جميع هذه الأمور موضع دراسات من مواقع مختلفة ومفكرين كثيرين، لا يتسع المجال للخوض فيها الآن .
إننا الآن بصدد شخص غورباتشوف بمناسبة وفاته، وقد تابعت قبل اأام فيلما مطولا يعرض الحالة الصعبة التي وصل إليها الرجل في أيامه الأخيرة جسميا وعقليا، والفيلم مصور في احتفاله برأس السنة المنقضية، وتوقعت وفاته السريعة.
بحكم اختصاصي واهتمامي تابعت حكم وأفكار غورباتشوف منذ وصوله إلى زعامة الحزب الشيوعي السوفييتي ورئاسته للدولة العظمى الثانية في العالم، كواحد من أصغر الزعماء السوفييت عمرا، إن لم يكن الأصغر ، وفي فترة كانت حاسمة للدولة العظمى وهي بين الحياة والموت، لا تسندها إلا الترسانة النووية المكافئة للترسانة النووية الأميريكية _ الاوروبية، ولكن رغم إدراكي لبلوغ النظام السوفييتي مرحلة الشيخوخة المتاخرة ، مثلما كان زعماؤه السابقون، فإن غورباتشوف الشاب، نسبيا، أثبت بأنه الأقل أهلية وقدرة على وعي المشاكل والأمراض التي يعانيها النظام، وعلى المعالجة المناسبة لأي منها، وبالأحرى إنقاذ النظام وتطويره، بدءا من صدور “خطة الطريق” التي تفرغ غورباتشوف الرئيس في سوتشي شهرا كاملا لوضعها، وهي كتابه “البيريسترويكا ـــــ إعادة البناء”، مرورا بالكثير مما قال أو اتخذ من القرارات وطريقة تنفيذها، مثل قرار منع أو تقنين بيع الكحول، بغاية معالجة واحدة من أكبر العلل في الحياة العامة والخاصة، والذي أدى بالطريقة التي طبق بها إلى نتائج اقتصادية وصحية أسوأ بكثير من نتائج آفة الإدمان على الكحول، أو مشكلة التفاوتات والتناقضات الهائلة بين الجمهوريات والشعوب السوفييتية (ونحن نلاحظ الآن أن عددا من هذه الجمهوريات انكشفت للعالم بعد تحررها من السلطة السوفييتية التي حكمتها أكثر من سبعين عاما، بعد قرون من السيطرة عليها من قبل القيصرية الروسية الشديدة التخلف، لتبدو أنها كأكثر دول وشعوب لعالم فقرا وتخلفا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، رغم أن بعضها سرعان ما اكتشف أنه من أغنى مناطق العالم بالثروات الطبيعية، وهو الأمر الذي لم يجر اكتشافه، أو استثماره أيام السلطة السوفييتية)، أو في معالجة مشكلات السوق الاشتراكي التي كانت من أكبر اسباب تضعضع الاشتراكية الواقعية أمام النظام الرأسمالي الذي كان على مدى أكثر من ثلاثة قرون قبل ظهور الاتحاد السوفييتي، يستمتع بثمار النهب الاستعماري الوحشي للعالم كله خارج حدوده، وهو المصدر الأكبر لتفوقه الهائل في الإمكانات والمقدرات على حساب إفقار وتدمير العالم وإعاقة تقدمه خارج حدوده، بما في ذلك النظام الاشتراكي السوفييتي، والأنظمة الاشتراكية الأخرى الدائرة في فلكه، الذين لم يكن لهم مثل هذا التاريخ الاستعماري ومكتسباته، بل دفعوا غاليا ثمن هذا السبق قي التفوق، ولكن الأسباب الأبرز لإخفاقات الإتحاد السوفييتي الكبرى ولانهياره ومعه بقية الأنظمة الاشتراكية كانت من منشإ داخلي بالأساس.
لكن لنأخذ جزئية واحدة، أصبحت بارزة جدا هذه الأيام، ولنتساءل: كيف كان الاتحاد السوفييتي بجميع جمهورياته الخمس عشرة غير قادر على تأمين حاجة سكانه لأهم سلعة غذائية وهي القمح، إضافة إلى أشياء أخرى كثيرة، مما سهل على عدوته الولايات المتحدة صاحبة الفوائض الغذائية الأكبر عالميا، أن تستخدم القمح كورقة ضغط سياسية عقابية لا تقاوم، لإجباره على قبول شروطها، والتي كان من أهمها مطالبته بإلغاء القيود على هجرة اليهود السوفييت إلى اسرائيل، هذا بعد قطيعة حلف وارسو مع إسرائيل بنتيجة حربها العدوانية على العرب في الخامس من حزيران عام 1967، أو للاضطرار لشراء القمح أحيانا من دول اخرى، كالأرجنتين التي حكمتها في السبعينات أبشع الديكتاتوريات العسكرية، بينما بعد سقوط الاتحاد السوفيينتي استطاع الاتحاد الفدرالي الروسي لوحده، دون الجمهوريات السوفييتية الأخرى أن يصبح المنتج والمصدر الأول للقمح في العالم، من إنتاج سنوي يبلغ حوالي 80 مليون طن، وأن تصبح إحدى الجمهوريات السوفييتية السابقة، وهي أوكرانيا، المصدر الثاني الأكبر للقمح في العالم، وقد أصبح العالم الثالث، وبالأخص العربي (بل وسورية خلال العشرية الكارثية الاخيرة) بعد بدء الحرب الروسية ـــ الأوكرانية قبل ستة أشهر، والتي يبدو أنها غير قابلة للتوقف بكل فظائعها، أخذا بالاعتبار إنها الحرب الأولى التي تخاض بأحدث التقنيات العسكرية من الطرفين، أصبح العالم معرضا لمجاعة شاملة بسبب توقف صارات القمح الروسية والأوكرانية بعد بدء الحرب.
إنها جزئية واحدة فقط، وهي داخلية بحتة، ويبدو أن غورباتشوف لم يستطع إحداث أي تحسن فيها ولا في غيرها، بل أدت إدارته الفاشلة الى تفاقمها، وهناك آلاف الجزئيات الأخرى، وبالتأكيد لن أرجع الفضل في تجاوز هذه المشكلة السوفييتية العظمى (نقص الاكتفاء الذاتي من القمح) إلى الرأسمالية كنظام، بدليل أن الصين ذات المليار وأربعمائة مليون إنسان قد تجاوزتها دون قبر نظامها الاشتراكي والانتقال إلى النظام الرأسمالي، وإنما يرجع سببها إلى تهلهل النظام السوفييتي إداريا واقتصاديا وتكنولوجيا، وسوء السياسات والإدارات وفساد وقصور القائمين عليها .
أخشى أن الموضوع يأخذني إلى كتابة كتاب، رغم أنه يحتاج أكثر من كتاب، وقد كتب الكثيرون فيه آلاف الكتب والدراسات!
خلاصة هي أني كنت ليس فقط عديم الإعجاب بالرجل الراحل غورباتشوف، لا فكرا ولا ممارسة، لا بالنيات أو الافكار، ولا بالنتائج العملية، بل أعتبر أنه مع رفيق دربه وزير خارجيته شيفرنادزه لم يكونا يضمران الإصلاح، ولن أصفهما الآن بمتآمرين، وقد قالا بلسانهما، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إنهما كانا مقتنعين بوجوب سقوطه، مع قناعتي بأن الاتحاد السوفييتي كان قد اقتيد إلى حالة من التدمير الذاتي يصعب معها جدا الإصلاح، لكن بالنسبة لهما لم تكن النية بالإصلاح موجودة أصلا، بدليل عدم تحقق أدنى نجاح في إصلاح أي مشكلة في مرحلة غورباتشوف وشيفرنادزه، بل حصل التردي المتسارع، وإذا كان غورباتشوف “لم يكن يدرك أن الديكتاتوريات المتكلسة غير قابلة للاصلاح”، كما يقال، فهذا يعني أحد شيئين أو كلاهما معا، وهما انه إما لم يكن يمتلك النية والوعي والكفاءة للإصلاح والغاء الاستبداد والفساد وسوء الإدارة، أو إنه كان يضمر قيادة البلاد الميؤوس من إصلاحها إلى الانهيار، وهذا ما يفسر الحفاوة البالغة التي كان يستقبل بها في الغرب، بالأخص من قبل الرئيس الاميريكي رونالد ريغان، أو رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، وكانت تتكرر، مثلما تتكرر اليوم بمناسبة وفاته عبارات من نوع: “إنه شخصية تاريخية، ورجل السلام العالمي العظيم، الذي أنهى الحرب الباردة، وأزال جدار برلين، مما سمح بإعادة توحيد ألمانيا وخلص العالم، بعد تخليصه الشعوب في الأنظمة التي كانت تتسمى بالاشتراكية من الاستبداد الذي كان قد أصبح السمة المميزة لجميع هذه الدول، هذا بينما يبرهن الواقع خلال العقود الثلاثة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي أن الشعوب المتحررة من النظام السوفييتي لم تصبح أكثر رفاهة وديمقراطية، وأن العالم لم يصبح أكثر سلاما وأمنا وسعادة، رغم إزالة صورة العدو من أمام الغرب وإنهاء الحرب الباردة، إذ استمر حلف الاطلسي بالانتفاخ وتصعيد سياساته العدوانية وشن الحروب الفتاكة دون أي حساب، بعد أن فرغت أمامه الساحة العالمية، واختفت الوعود الوردية التي ملأت الإعلام السوفييتي والعالمي أيام غورباتشوف بأن الحروب ستنتهي وإلى الأبد وأن مصانع الأسلحة ستتحول إلى مصانع لألعاب الأطفال، وستتحول النفقات العالمية الهائلة من تمويل سباق التسلح وخوض الحروب وأحداث الدمار والمجاعات إلى التعاون على تمويل التنمية الشاملة وإشاعة الديمقراطية والحرية وإعلاء حقوق الانسان وتعميم التقدم العلمي التكنولوجي وإزالة التخلف والفقر في العالم ، وغير ذلك مما أصبح يسمى “أهداف الألفية الجديدة ” التي أقرها المؤتمر العالمي الذي انعقد في العاصمة الفنلندية هلسنكي مطلع عام 2000، وشارك فيه أكبر عدد من قادة دول العالم مع بدء هذه الألفية، لكن العقود الثلاثة التي أعقبت غياب الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، بما لهم وما عليهم، لم تعرف غير عكس هذه الأهداف تماما، إذ ازدادت الحروب والنفقات العسكرية والفقر والبطالة والبؤس والأوبئة والمجاعات في ظل الهيمنة الامبريالية الأحادية، التي اعتبرها المنظر الأميريكي، الياباني الأصل، فوكوياما “نهاية التاريخ”، وإن كان سرعان ما تراجع عن هذه النظرية بعد أن فضحته الوقائع الدامغة المضادة، وأصبح أطفال العالم الجديد، أحادي القطب ليسوا أقل، بل أكثر بكثير تعاسة وبؤسا من سابقيهم، إلى حد دفع واحدا من أشد المعادين للاشتراكية وللنظام السوفييتي، وهو هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميريكي أيام رئاسة نيكسون للولايات المتحدة في السبعينات، أن يكون بعد غياب الاتحاد السوفييتي “أصدق المتباكين” على زوال الاتحاد السوفييتي لدرجه اعتبار غيابه عن الساحة العالمية خسارة كبرى للبشرية!
وأخيرا، أروي انموذجا عن استغلال البعض لدينا أفعال غورباتشوف التمثيلية لتغطية سوءآتهم، ففي عام 1987، أيام عز غورباتشوف ألقى مسؤول اقتصادي سوري محاضرة في قاعة اتحاد العمال بدمشق في ذكرى 8 اذار، استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، وكان عنوان المحاضرة “التحولات الاجتماعية والاقتصادية في سورية بعد ثورة الثامن من آذار”، وأتوقف هنا عند قوله: “الدكتور عارف يتهمنا دائما بالفساد الاقتصادي، الفساد موجود في كل الدول، فمنذ فترة أقدم رئيس بلد الشيوعية الأول غورباتشوف باعتقال ومحاكمة عدد من المسؤولين والوزراء، بل وأعدموا بعضهم بتهمة الفساد”. فعلقت على محاضرته مطولا، ومما قلت: “إنكم تقلدون الاتحاد السوفييتي الصديق في كل شيء، فلماذا لا تقلدوا الرئيس غورباتشوف في محاربة الفساد وتعاقبوا بنفس العقوبة أرباب الفساد في سورية؟”.
وكان حضرته واحدا من أرباب الفساد هؤلاء، فأصيب ببعض الحرج والارتباك، وإن كان استدرك كالعادة وبرر عدم إيذاء الفاسدين الكبار بالأخطار الخارجية التي تهدد سورية الثورية!
صحيح القول، بأن النظام السوفييتي كان قد اقتيد إلى حتفه بقوة جميع من امتطوه، منذ ولادته على مدى سبعين عاما ونيف، وأن غورباتشوف لم يكن إلا حفار قبره بعد أن أوصلوه إلى حالة جثة تتنفس وحسب، لينطبق عليه القول “إكرام الميت دفنه”، ولم يكن غورباتشوف إلها يحيي الموتى حتى لو كان صافي النية، ولكنه كما قلت لم يكن صافي النية أصلا، وإنما كان مخادعا مع تقية!
والسؤال الأساسي: هل كان الاتحاد السوفييتي ميتا أو في حالة موات؟ وهل كانت حالته المرضية المخططة عصية على الإنقاذ؟
الجواب القاطع لا على الإطلاق، وقد أظهر استفتاء لجميع الشعوب السوفييتية لحظة التداعي والسقوط أن الأغلبية العظمى يتمسكون ببقاء الاتحاد السوفييتي وإصلاحه، وهذا ما يفسر اللقاءات السرية المتعجلة لقادة حزبه وجمهورياته للتوقيع، ضد إرادة شعوبهم، على انحلاله وتقاسم جثته الذبيحة، وهم يتراقصون على طموحات شعوبهم في الحرية والخلاص من فسادهم وطغيانهم، هذه الطموحات التي علت عليها أصوات طبول زعماء حلف الأطلسي السكارى بالانتصار العظيم. لقد كان الاتحاد السوفييتي لحظة إعلان وفاته على خلاف الظاهر، هائل القوى المادية والبشرية، لكن المنخورة والمخمدة والمطموسة بشكل تآمري، ولذلك الكامنة والمتعرضة إلى عدوان هائل القوى من تحالف معاد شرس داخلي وخارجي!
وبالأمس رأيت فيديو بليغ التعبير عن هذه الحالة .شباب مصريون لاحظوا أن حصانا يقف على رجليه الغاطسين في الماء على طرف ترعة عمقها عشرة أمتار، وقفة تمثال صم بدون حراك، مآله الموت لا محالة، لأنه منذ أيام على حاله، لم يأكل ولم يتحرك، لكنهم اجتمعوا وأخذتهم الحمية الإنسانية والواجب والنخوة وقرروا رفعه وإنقاذه. ورغم الصعوبة البالغة خاطر أحدهم ونزل على حبال مدها رفاقه وربط الحصان بشكل جيد وأخذوا يشدون به حتى أخرجوه من الترعة على ارتفاع عشرة أمتار، وتبين أنه يعاني من كسور خطيرة وفاقدا لجميع القوى على الحركة والوقوف، وحتى المضغ، إنه مجرد جثة تتنفس. حملوه على “بيك اب” وأخذوه إلى مزرعة وفحصوا صحته وبدأوا علاجه بالأدوية وغيرها، وأعادوه إلى الأكل والشرب، ثم الوقوف على ساقيه وأحيوا كل قواه، وأعادوه حصانا سليما زاهيا!
أذكر إني خرجت إلى الحياة بعد سبع سنوات عزلة في انفرادية، عقابا على أخطر “جريمة” ترتكب في سورية، وهي معاداة فساد أعداء الوطن الداخليين، وكانت حالتي من حيث الخراب الجسدي الشامل شبيهة تماما بهذا الحصان، مع فارق واحد هو أني كنت كامل الوعي والعقل والضمير، بل أكثر صفاء وحدة منها لما عزلت عن العالم الخارجي بفعل قانون معروف يقول، عندما تتعطل بعض الوظائف في الجسم تنمو وظائف أخرى أكثر من الطبيعي. فقد نما لدي كل ماهو معنوي، فكري وقيمي ونفسي الخ، على شكل طفرة، وهذه خاصية ليست متوفرة للحيوان كما للإنسان. وعندما خرجت إلى الحرية الجسدية أخذت أعود إلى الحياة من جديد، كما قلت في اتصال هاتفي مع “الجزيرة” بعد ساعات من خروجي، ورغم هذا الوضع المنهار فيزيائيا تماما، كنت أستقبل الزائرين من مختلف مناطق سورية، وحتى أحيانا من خارجها، الذين زاروني لمدة شهر كامل في بيت الأهل في اللاذقية، وكأني كامل الصحة على عكس الواقع، من الصباح حتى الليل، ثم باشرت استعادة قدراتي، بعد أن ألقيت في سلة المهملات كيسا من أدوية مختلفة معطاة لي من قبل اطباء السجن، اذ كانت قد تعطلت وتشوهت وظائف جميع اعضاء جسمي الرئيسة، وكان الاطباء يقولون لي انك يجب ان لا تنقطع عن بعض الادوية يوما واحدا حتى الممات. لكني، بقرار شخصي، القيتها جميعا واخذت استعيد قواي الفيزيائية المفقودة، من غذاء وحركة ودواء، وبالجراحة، تماما كما اجري للحصان المنهار الملقى في الترعة، مع فارق بالنسبة لي، هو بقاء جميع القوى المميزة للانسان، ككائن اجتماعي سياسي، مطوقة ومخنوقة، ليس كما كنا قبل السجن فقط، بل اصبحت حريتنا، وبالاخص بعد 2011 ، اسوأ بملايين المرات، اخذا بالاعتبار، ما آل اليه وضع الدولة والشعب السوري الذي لايعرف شبيها له في العالم وفي التاريخ . دون ان تتاثر السلطة وفراخها بشيء، بل ازدادوا بما لا يقاس، عنطزة وفسادا وكأن شيئا لم يكن، وبراءة الاطفال في أعينهم!
وبالنسبة للحصان المنكوب ولي، ولثلاثين مليون سوري، كما يفترض ان يكون عدد السوريين اليوم، على اختلاف نسبي بسيط في اوضاعهم هنا وهناك، اذا استثنينا ارباب الاجرام والفساد والتطاول المادي والمعنوي على الثلاثين مليون، من قبل “الإخوة الاعداء” من مختلف سلطات الامر الواقع، هؤلاء الذين يتفوقون حتى على امثالهم في جميع انحاء العالم في كل مايخصهم شخصيا ماديا ولااخلاقيا فاننا، الحصان وانا، والثلاثون مليون سوري، كما الشعوب السوفييتية المغدورة، نشترك في شيء واحد اساسي وهو ان المسبب الرئيس فيما حصل لنا جميعا هو نفسه، كما بالنسبة للحصان المنكوب، ان مالكه تصرف به تصرف العدو بعدوه، اذ اراد التخلص من عبئه كليا، مع “راحة ضمير”، فساقه مقيدا الى جرف الترعة العالي، والقاه في اليم مكتوفا وقال له اياك اياك ان تبتل بالماء !
هذا هو مافعله غورباتشوف بالاتحاد السوفييتي، وما فعله ورثته وضباعهم، وشركاهم الاقليميين والاطلسيين، سواء بالدولة والشعوب السوفييتية السابقة، او بسورية والسوريين !
والسؤال الآن: من أين يأتي المنقذون الذين يخرجون الحصان المهشم المنهار، الخائر القوى، الملقى في ترعة المياه السوداء من علية الجرف الذي كان يعيش عليه، وينقذوه من من اعدائه الداخليين واسيادهم الخارجيين، المتشاركين في خطة تدمير سورية، باستخدام مركوبيهم من اصحاب البنادق للايجار من ارباب ورجال قوى الامر الواقع السورية الخائنة لدولتها ولشعبها ؟
ان المنقذ لسورية العريقة تاريخيا، وللسوريين الامجاد المسحوقين، لن يكون الا تلك القوى النزيهة الطاهرة، من نوع الشباب المصريين الذي اجتمعوا على انقاذ الحصان!
فأين من السوريين من يعقلون، والى متى يبقى السادرون في غيهم يغردون في جميع الساحات، بعيدا وفي الضد مما يتطلبه انتشال وانقاذ سورية من الفناء العنيف والموت المرسوم المحقق؟