زيلنسكي.. رئيس المظاهر لا المضامين
باريس- المعطي قبال
تتماهى أوكرانيا بشكل وثيق مع رئيسها، إلى درجة أنه يحجبها أحيانا عن أنظار الراغبين في التعرف عليها خارج جعجعاته الدائمة. جعل منها مجالا للمطالبة بتحررها واستقلالها كما حولها إلى مادة إعلامية ثابتة على منصات التواصل الاجتماعي. بهذا المعنى فإن فولودومير زيلنسكي ابن زمانه وهو زمن انستاغرام، فيسبوك، تويتر وقنوات التليفزيون الشهيرة. حتى وإن أقر الخبراء وعلماء السياسة بسذاجته وعدم حنكته في ميدان السياسة، يبقى مع ذلك داهية بحدس رهيف ودقيق. كتب الكثير عن الممثل والمهرج السابق. فهو مثار إعجاب البعض وكره البعض الأخر. ثمة من يعتبره بطلا فيما يرى فيه البعض الأخر أنه مجرد دمية بين يدي الغرب. في الكتاب الصادر عن منشورات روبير لافون تحت عنوان «في رأس فولودومير زيلنسكي» (196 صفحة)، محاولة من طرف الصحافيان ريجيس جانتل، وستيفان سيوهان، لسبر أغوار عالم السياسة الذي يعرف بالرجل وخططه خصوصا بعد اندلاع الحرب مع روسا.
دخل الأوكرانيون الحرب في ليلة 23 من فبراير 2022. واستعصى النوم على الأغلبية منهم. قبل يومين من هذا التاريخ استمعوا بهلع إلى الريئس فلاديمير بوتين وهو يهاجم بشكل عنيف أوكرانيا. كان الهدف من هذا الخطاب هو تبرير صراع يتوق له منذ حرب الدومباس. تابع الأوكرانيون إذا هذا الخطاب على التليفزيون، الهواتف النقالة وعلى كل الشاشات التي كانت تعرض يوميا تزايدا لأعداد القوات الروسية على الحدود الجنوبية، الشرقية والشمالية للبلد. منذ أكتوبر 2021، لم تتوقف وكالات الاستخبارات الأمريكية من تسريب أخبار عن احتمال غزو روسي لأوكرانيا. بحلول فصل الشتاء، بدأت تتأكد التكهنات بأن الحرب ستقع في شهر فبراير. حرب شاملة وبمدى غير مألوف. ببضعة أسابيع من قبل، أشارت سي-إن-إن بأن جو بايدن أشار إلى أن روسيا ستقصف كييف. تصاعدت التخوفات أمام هذا السيناريو الكارثي. لكن العديد من الأوكرانيين والخبراء أعربوا عن دهشتهم أمام هذه «الادعاءات»، كما لو شككوا في كون بوتين غير قادر على الإقدام على هذا الفعل.
في قلب هذه الليلة ازداد التوتر أكثر. في حدود الثانية صباحا اشتد الضغط على مصلحة الرسائل الالكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي لما توجه الرئيس زيلنسكي مباشرة إلى المواطنين الروس في لغتهم: «أنصتوا إلى صوت العقل. يرغب الشعب الأوكراني في السلام». أكد أنه حاول مهاتفة الرئيس بوتين مباشرة وكانت النتيجة هي الصمت. لن نهاجم لكننا سندافع وسترون أوجهنا لا ظهورنا». في وقت متأخر تمت الإشارة إلى أن بوتين سيلقي خطابا ليليا. في هذا الخطاب أعلن بوتين عن «شن عملية عسكرية خاصة، الغاية منها تخليص أوكرانيا من النازية». وفهم الجميع أن هذه الكلمة هي بمثابة إعلان للحرب. بعد ساعات على هذا العرض، تساقطت صواريخ باليستية على مدن كراماتورسك، كييف، خاركيف. في الصباح لما قاربت الساعة السادسة صباحا في هذا اليوم من 24 فبراير، انطلقت حرب روسيا بأوكرانيا.
بسرعة اجتازت الدبابات الروسية الحدود، وانتشرت وحدات تكتيكية . وفي الجهات الأربع ضربت صواريخ بعيدة المدى، تم إطلاقها من بيلاروس أو من البحر الأسود، ضربت المطارات أو الأهداف العسكرية الحيوية. في الصباح الباكر، أخذ فولوديمير زيلينسكي هاتفه النقال ليتوجه من خلال سيلفي إلى الأوكرانيين: «لقد أعلن بوتين الحرب على أوكرانيا وعلى العالم الديمقراطي بأجمله. يسعى إلى تدمير دولتي، دولتنا وكل ما بنيناه وكل الأشياء التي نعيش من أجلها. أتوجه إلى كل الأوكرانيين وبخاصة إلى الجنود: أنتم شجعان، لا يمكن كسركم لأنكم أوكرانيين..». أصبح زيلينسكي رئيسا بتقديمه وعودا لتحقيق السلام، ثم تحول إلى زعيم بلد يخوض غمار الحرب.
في 44 من عمره، عرف الرجل أكثر من حياة. تلك وضعية الفنانين والمبدعين. فنان ساخر، ممثل، كاتب سيناريو، منتج، رئيس مؤسسة. أصبح شهيرا لما لبس لمرتين ثوب رئيس أوكرانيا: المرة الأولى عام 2015 في مسلسل تليفزيوني ساخر بعنوان «خادم الشعب»، المرة الثانية عام 2019 لما أصبح فعلا رئيسا للدولة.
بعدها دخل الرئيس في عدة حروب لمواجهة الحرب الكبرى: حرب توعية الشعب، حرب الإعلام، حرب استمالة الدول الأوروبية لقضية بلده. وذلك بالضرب على وتر الحرية، الديمقراطية، حقوق الإنسان التي تقدسها أوروبا. وبالموازاة مع نداءات احترام هذه المباديء المقدسة، طالب زيلينسكي بتسليح بلاده بالعتاد العسكري القادر على مواجهة ألة الحرب الروسية. ومن تم أصبحت هذه المطالبة ركنا رئيسيا من أركان سياسته. وقد أغدقت عليه أمريكا وأوروبا أسلحة متطورة ساعدته على المقاومة بل ترجيح كفة جيوشه في بعض المناطق من اوكرانيا. يفسر الصحفيان رغبة كييف بالالتحاق بالحلف الأطلسي بدوافع دفاعية: حرب الدونباس التي خلفت في ظرف 8 سنوات 14000 قتيل والسياسة العدوانية لروسيا هي التي حدت بأوكرانيا إلى طلب الالتحاق بالحلف الأطلسي. وهذا ما لم يقبله بوتين الذي رأى في الانخراط إمكانية لتطبيق حكامة على النمط الغربي بهذا البلد وبالتالي التأثير على العالم الروسي. بمعنى إدخال للغرب من بوابة أوكرانيا. لذا لم تبدأ حرب روسيا بأوكرانيا في 24 من فبراير 2022 على الساعة السادسة صباحا بل قبل ذلك.
لا مجال للمقارنة بين بوتين وزيلنسكي. الأول سليل تربية استخباراتية والثاني تعلم السياسة بالتجريب، إذ يقضي معظم وقته في المكالمات الهاتفية، على الفايسبوك، إنستاغرام وبقية وسائل التواصل الاجتماعي، مخاطبا رؤساء الدول والوزراء ورؤساء الحكومات. يذكرنا أسلوبه الشبابي بأسلوب جوستان تريدو الكندي. يعرف عنه أيضا كونه مضبب وغير دقيق في أجوبته، الشيء الذي يدعو إلى التساؤل عن أفكاره السياسية وهل له فعلا أفكار؟ يعمل بالحدس وليست له أفكار منسقة. وبعد المقابلة أجراها معه نوا شنيدر، مراسل ذي إيكونوميست الشهيرة، علق هذا الأخير بالقول: بدا لي صادقا وجد ساذج … لا يتصرف كبقية السياسيين..». على أي تبقى الزلنسكية شعبوية طفولية تقوم على المظاهر لا على المضامين.