الإنجاز الواضح الذي تحقق في القمة العربية
عبد السلام بنعيسي
تباينت المواقف من النتائج التي خلُصت إليها القمة العربية. العديدون عبَّروا عن خيبة أملهم من تلكم النتائج، لكن في الحقيقة فإن الذي كان ينتظر من مؤتمر القمة العربية المنعقد في العاصمة الجزائر غير النتائج التي أسفر عنها هو المخطئ، أو على وجه التدقيق، هو الذي كان يعيش في الوهم. القمة العربية مرآة تعكس الواقع الرسمي العربي الراهن، ولا يمكن للقرارات الناجمة عنها أن تكون مستقلة عن هذا الواقع وبعيدة عن تجلياته.
التأكيد العربي الرسمي من جديد في قمة الجزائر على المبادرة العربية التي طُرحت في بيروت سنة 2002، يعني أن على العرب انتظار عشرين سنة أخرى ليروا ماذا سيكون موقف إسرائيل منها، والتي ستظل، لا محالة، على رفضها لها. التشبث العربي الرسمي بالمبادرة يفيد بأن النظام العربي الحاكم لا يريد أن يتصور خيارا آخر غيرها، علما بأن هذا النظام لا يضع لنفسه آليات عملية لدفع الكيان الصهيوني للقبول بهذه المبادرة والانصياع لما ورد فيها. متمسكا بمبادرته، يبدو النظام العربي الرسمي، وكأنه يعيش في انتظار رحمة الدولة العبرية وشفقتها للتجاوب معه حولها، والمؤكد أن الحق لا يقدم في صينية من فضة، وبدافع الرحمة والشفقة، ولكنه يُنتزع، من الخصم ومن العدو، بالنضالات وبالتضحيات.
ولذلك، فإن معيار نجاح أي مؤتمر للقمة العربية، كما يراه الإنسان العربي، يقتضي سحب القمة لتلكم المبادرة، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه، كما هو جارٍ حاليا من طرف الكثير من الأنظمة العربية، وحلَّ السلطة الفلسطينية، وتقديم الدعم المالي والإعلامي والعسكري للمقاومة الفلسطينية واللبنانية من أجل التصدي للكيان الصهيوني وللجرائم التي يقترفها جيشه ضد الشعب الفلسطيني وفي الأراضي السورية، وفي كل أرضٍ عربية محتلة من طرف الأجنبي، واعتبارها مقاومة مشروعة، تؤدي دورا عربيا قوميا، وإعادة رفع شعار ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وتعزيز العلاقات العربية، بالصين، وروسيا، والهند، وكل الدول التي تسعى للخروج من تحت الهيمنة الغربية، لخلق جبهة عالمية متصدية للأحادية القطبية بقيادة أمريكا، وأن يصبح العالم العربي جزءا من هذه الجبهة، وفاعلا فيها، لأن في ذلك خلاصه واستقلاله الفعلي من الغرب بقيادة أمريكا…
إذا كان هذا هو المعيار الحقيقي لقبول القرارات الصادرة عن أي مؤتمر لأي قمة عربية وقياس نجاحها، فهل الظروف الراهنة تسمح لنا بالوصول إلى قمة تُنتج لنا مثل هذه القرارات؟ الجواب بالطبع هو لا. نصف العالم العربي مُدمَّرٌ من طرف الحلف الأطلسي، ووقع تدميره، بتواطؤ من طرف النظام الرسمي العربي، والنصف المتبقي تستنزفه المشاكل الاقتصادية المهولة، والتجاذبات السياسية العويصة التي تعيشها دوله، كما تستهلكه الصراعات المتفاقمة بين الدول الأعضاء في الجامعة. في ظل هذا الوضع العربي المتردي، كيف يمكن انتظار نتائج من القمة العربية تكون في مستوى تطلعات الإنسان العربي، وتُجسِّدُ رغباته في التضامن، والوحدة، والتحرر من الامبريالية العالمية المهيمنة على صنع القرار في العواصم العربية، ومن ربيبتها الصهيونية المسيطرة على فلسطين، قلب الوطن العربي؟؟
حين تتمكن الأنظمة العربية الحاكمة من تجاوز خلافاتها وصراعاتها البينية الطاحنة، وحين تستفيد من التجربة المريرة التي مرت على العالم العربي في العشرية السوداء تحت مسمى الربيع العربي، وتتمكن أنظمتنا الحاكمة من لملمة جراح الدول العربية المدمرة، والمساهمة في إعادة إعمارها، وحين يستقر رأي قادتها على إرساء قواعد للتضامن والتعاون والشراكة والتكامل الاقتصادي بين أغنيائها وفقرائها، وتعقد العزم على الخروج من تحت الهيمنة الغربية عموما والأمريكية خصوصا، وتحترم إرادات شعوبها، وترسي أسس الديمقراطية، وتوفر لنفسها وسائل المقاومة والصمود ومواجهة المؤامرات التي تحاك ضد الأمة العربية، وقتها يمكن انتظار نتائج مثمرة، وفي مستوى تطلعات الإنسان العربي، من مؤتمرات القمة العربية.
في الظروف الراهنة، هذا هو أقصى ما يمكن أن تقدمه للعرب من قرارات القمة العربية التي انعقدت في الجزائر، وهذا هو كل ما بحوزة الجامعة العربية إنتاجه لهم. المشكل في النظام الرسمي العربي الحاكم، وليست القمم والجامعة، إلا نتاجا لكيفية تدبيره للشؤون العربية. مهما كانت انتقاداتنا للنتائج التي أسفرت عنها قمة الجزائر، فإن الواقعية السياسية تستدعي منا القول إن القمة حققت، على الأقل، إنجاز الحفاظ على مؤسسة القمة العربية.
نحن ننتقد مؤسسة القمة العربية ولسنا راضين عن القرارات التي تصدر عنها، ولكن رغم كل عيوبها، لا يمكن لكل إنسان عاقلٍ، إلا أن يُقرَّ بأن وجود مؤسسة القمة العربية خير من عدم وجودها، لأنها تظل خيمة يجتمع فيها القادة العرب، ويتدارسون مشاكلهم وهمومهم، ويتداولون بينهم في الشؤون التي تخصهم، وإذا تمكن الحكام العرب من تحسين أدائهم في تدبير شؤون أوطانهم، فإن مؤسسة القمة سيتحسن أداؤها بدورها. ويتعين على نضال الشعوب والنخب العربية أن ينصبَّ في هذا الاتجاه وليس في غيره. لا يجوز رفض القمة العربية ومعها الجامعة بشكل مطلق، هذه عقلية هدم البيت على من فيه، فنحن نعيش في عصر التكتلات الاقتصادية القارية الكبرى، ومن المحتم على العرب المحافظة على جامعتهم وعلى عقد قمة قادتهم، فهذا هو أفقهم الوحيد الممكن، لكن على أساس تطوير الجامعة والقمة وتحسين أدائهما، وذلك بالنضال من أجل تطوير وتحسين أداء أنظمة الحكم التي تسير الجامعة وتعقد القمة وتتحكم فيهما.
بفعل عوامل متعددة، يمكن القول إن مؤسسة القمة العربية كانت قد أضحت مهددة بالشلل والزوال من الساحة السياسية العربية، لكن قمة الجزائر كرَّستها، وسلمتها للمملكة العربية السعودية التي عليها الانتقال بها من حالتها الراهنة، إلى حالة أحسن وأرقى مما هي عليه راهنا، ولا شك في أن المملكة العربية السعودية تمتلك ما يكفي من الوسائل والمؤهلات للقيام بذلك، إن كانت هذه هي نيتها الفعلية….