هويتي تكذب نفسها باستمرار
لحسن أوزين
كيف لي الخروج سالما من هذه الحرب الجهنمية التي تخاض بشراسة مرعبة ورهيبة في داخلي؟ وكيف لهذا الجسد الميت الحي بالقدرة على لعب دور فعال في جدلية الموت والحياة التي تطبع سيرورته التطورية، وهو ممعن على التجدد والتغيير في أفق الاختلاف البيونوعي الذي يحدد بقاءه حيا، وهو يتخلص ليس فقط من جلده، بل أيضا من ركام آلاف خلايا موته؟
وهل بإمكانه الاتساع الرحب للجمع بين فرديتي وفرادتي وجماعتي ومجتمعي؟ هل أقوى حقا على حمل كل هذه الصخور وأوتاد جبال المكبوت والمحرم والمنفي واللامفكر فيه، والممنوع التفكير فيه بصوت ولغة عالية، وبحرية العقل الإنساني، والمفقود من نفسي وذاتي، وأستطيع بثقة عالية في انتصار الحياة مهما كانت سطوة رعب الموت، في الزج بي في دهاليز الكهف القديم لطفولتي الجمعية في مقابر الأجداد، على تدبير اختلافي، وإدارة صراع أنواتي التي لا تقبل الصيرورة بمنطق السيرورة التطورية لجسدي، وهو يعيش تميز تبدلاته التفارقية وتمرحله التاريخي؟
فالأنا الميتة في أعماقي التي تسربت الى قعر كينونتي، من خلال الشفرة النفسية للمورثات الثقافية والاجتماعية، وعبر أساليب القهر والتلقين لنموذج جماعتي ومجتمعي لأكون جديرا بنيل حق العضوية الاجتماعية للآدمي (وليس المواطن) المرغوب فيه، ترفض هذه الأنا الخضوع لقانون جدلية الموت والحياة، و للغة المنطق وتفكير العقل، تصر على الخلود سيطرة وهيمنة، وعلى الدفاع عن حصون شيدتها بعنف التغلب على إقطاع ذاكرتي الذي تسلمته في غزو كان عنوة في حق عزل لطفولتي التي كانت لذة وفرحة، في وجه ألم عنيف لقهر الزمن بين رجل فقير الحال ثري الأحلام، هارب من بدو الترحال الى حضن الحي الاحمر (باب الواد) للأرجل السوداء، للعنة مدينة مترهلة تكلم الزمان في عضلات تمدنها البائس، وهي تغوي وتغري البؤساء بسراب متع الحياة الهاربة في طوارئ قصوى وبين امرأة حنكها عشق جبال قسنطينة على معانقة جنون الأمل بالعيش في اخضرار بهيج. من أين لي القوة على عيش هذا التعدد المرعب والجنوني، والمثقل بمزق القرون الماضية، وأنا على صغر سني في وجع المنفى، ملزم بحسم هذا الهدوء الحذر لاختلال عميق في شروخ الذات المرعوبة بهدنة مختلة، وتوازن مؤقت ومرحلي، سرعان ما ينتهك وقف إطلاق النار فيه من إحدى أنواتي المتصلبة، أو من خلال الدعم التأزري الذي تنسجه تحالفات بعض أنواتي مع جذور جماعتي ومجتمعي الممتدة في ترسبات وادي أعماقي، بفعل شوكة زعيم عصبية أناي الموروث؟
وأنا هل أستطيع٠٠ قلت هل أستطيع حقا أن أكون أنا، حيث أريد أنا دون أن أدفع الثمن، ودون أن أكره على خوض حرب ضد بشاعة موتي الرافض للغة الدفن وطقوس الحدادة؟
آه أيها الأنا المارد المتمرد، الثائر الحالم والحلم متى ترسم تخوم المقبرة وتولد المدينة، لأخفف عبء الليالي الطوال، وأرتاح من الأرق الرهيب لحرب لا تقبل مني موضوعية الحياد، ولا حكمة السلام أو قانون تفاوت تطور تناقضات الذات والواقع؟
أحيانا أضبط احدى أناي متلبسة ضد أنا، وهي تكرس السائد المقرف الباعث على الغثيان في الأفكار والمعاني والعلاقات والمواقف، وفي اللغة اليومية الجاهزة. ومرات أخرى أتورط مكرها بثقل ظلالي كمخلفات لجماعتي ومجتمعي على السباحة أو على أخذ حمام دافئ في مستنقعات العادات والتقاليد والطقوس، وفي معاودة انتاج المسكوكات الثقافية المتداولة في اللغة والفكر اليومي.
هكذا تشتغل آليات الشفرة النفسية للمورثات الثقافية والمجتمعية في غفلة مني، أو تحديا لأنا الهدم والنقد والنقض وعشق الحياة. إنها نواة موتي التي تسخر من عنفوان حياة أنا وقد اعتلت بكبرياء استفزازي منصة ذاتي بتبرج كله تحد سافر إعلانا عن صدارة الحضور والوجود في معترك عيش الحياة.
وغالبا ما تنتفض أناي التي تحب أن تصف نفسها بالهدوء والرزانة وحسن الكياسة وبعد النظر النقدي ضد رهابي من هذه الكثرة التي تكون ذهنيتي، وتبني شخصيتي كعامل حيوي دينامي لسيرورة النمو والنماء والتراكم النوعي لولادة الحياة، متحججة بأن لا ولادة بدون عنف دماء المخاض، وهي تطلب مني أن أفرح بهذا التعدد لجدل التكامل والنفي والبناء لحيوات مترابطة متفاعلة بتركيب النقد التدريجي لاختلال توازني في تدبير اختلافاتي وإدارة صراع أنواة هويتي.
وما الذي يجعل الأمر معقدا إلى هذه الدرجة؟ هل السر في ذلك يعود الى اختلاف في منطق حركة التطور بين فرديتي الهشة والفتية والطرية العود والساق، وبين جماعتي ومجتمعي الصلبين والمتصلبين ضد آلية الابطال والتكذيب والنسخ، أم أن المشكلة أيضا كامنة في أنواتي الأصولية بالمعنى التأسيسي لمنهجية العقل، أي حصر الصواب والخطأ واليقين والظن، وبين البديهي المعطى والاجتهاد المملى على نية القوادح طمعا في شكلية التخريج والتحقيق والتنقيح؟
ما هذا الأساس التناقضي للوحدة البنيوية لأنواتي في إطارها البراديغمي للاشعور النفسي المعرفي الثقافي الاجتماعي الجمعي لجماعتي ومجتمعي؟ إنني حقا في حرب جنونية يستحيل فيها لكل هذا الذي يحتويني ويشكلني أن يمنحني في لحظة الأزمة هاته من صلبه مخرجا للتصحيح الذاتي، أو بالأحرى للنقد الذاتي، كأفق سوي لقطع الحبل السري، و لصحو ينفتح على ما بعد الانتصار على هذا الجنون لزلزلة أنواة لي تتعالى على جدلية الموت والحياة، مصرة على الخلود بعيدا عن صيرورة انبناء كينونتي ووجودي، أو لما يحب أن يسميه الكثير من الناس هويتي.
أليس من حقي وبعيدا عن حب الظهور أو أي تطلع ذاتي يخالف البناء الاجتماعي والتاريخي والثقافي والحضاري للإنسان أن أكون كل لحظة وساعة ويوم إنسانا أخر غير الذي كنت فيه حاضرا وأنا أمضي منفتحا على مستقبل حياة عبر حاضر لا تكف آليته عن اطراد جدلية الموت والولادة انسجاما مع صيرورة منطق سيرورة حضوري الجسدي في مكينة الزمن التاريخي الاجتماعي التي لا تقهر؟
أليس من حقي وواجبي والتزاما بالصدق كمبدأ معرفي تواصلي انساني، وكنسخ عقلي وذهني ونفسي ومعرفي أن أكذب نفسي باستمرار دون خوف أخلاقي من أي مسخ باطل ثبوتي يترفع عن الممانعة والمعارضة وهلاك الفناء لحقائقي؟
أليس من حقي وواجبي كانسان عاشق للترجيح، كموقف ظني للمنزلة بين المنزلتين، ويقظة عقلية وفكرية بعيدة عن سحر سلطة اليقين، ويقين السلطة، أن أتخلى عن كثير من القيم والأفكار والمنطلقات والغايات والتوجهات، وأعيد النظر ببعد النظر النقدي في الوسائل والأهداف، دون أن أشعر بأزمة ضمير مزيفة أو بعقدة ذنب موهومة، بعيدا عن أي شعور بضرورة دافع التأثيم أو جلد الذات على جرأة النقد والنقض وعيش الحياة، بل أن أبارك جذوة ونزوة ومتعة ولذة الحياة والتغير والتجدد، أن أبارك هذا الصحو في القدرة على الاستيعاب والتجاوز لابداع غير المألوف دون أن أصاب بالدوار أو الاحساس بألم الغثيان؟
ما كنت لأرى روعة وجمالية إبداع قوادحي وهي تطعن في هويتي، وتمانع وتعارض ثوابتي، وهذا التجدد والتبدل لأصولي وأسسي الجاهزة المعطاة في تنشئتي، و هذا التعدد الذي أنا فيه أكون في صيرورة الحياة نسخا أحسن مما كنت فيه، لو لا ولادة أنا من حرب أسقطت فيها أقنعة أنواة تلبستني، والتفت بكل ثنايا جسدي وكينونتي، وهي تحدد أو تختار لي هوية تنكرية ضد أنا أريد لها أن تتيه و تهوي في جب عميق.
هذا هو مسخ الهوية الأسطوري الخطير “جثة إنسان بأقنعة وحوش ضارية” الذي يغيبني في الحضور وأنا لا أكون ولا أصير… “