تقديم أو تأخير ساعة.. تخبزوا بالأفراح..!؟!

تقديم أو تأخير ساعة.. تخبزوا بالأفراح..!؟!

محمود القيسي

“أيها السارقون نوم الحزانى كيف تهجعون؟

أيها اللابسون عُري اليتامى كيف تدفعون؟

أيها الكارعون ريّ العطاشى كيف تُنقعون؟

أيها الآكلون خبز الجياع كيف تشبعون؟

أيها الراضعون ثُديّ الثكالى كيف تسمنون؟

أيها السائقون ظعن المنايا كيف تهزجون؟

أيها المستحمّون بالدم الحي كيف تطهرون؟

أيها المدلجون، إذ يقبل الفجر : أين تدبرون؟

أيها البائعون سم الأفاعي هل سوى السم تربحون”؟

   تقديم ساعة أو تأخير ساعة… تخبزوا بالأفراح؟!!… نعم، تخبزوا بالأفراح: “تخبزوا بالأفراح… عندما الطبقة الفاسدة الحاكمة تنعي “رغيف الخبز” ويسير المواطن اللبناني المنوم في طوابير الجنازة والتشييع ويتقبل التعازي وينام على وجهه طب مرة أخرى للمرة الألف.. يعني العوض بسلامتكم قبل ساعة أو بعد ساعة: الطبقة الفاسدة ما غيرا يا شعب لبنان “الضعيف” بدّا تعملنا كيف نموت دون صراخ أو عويل لبناني “متخلف”.. كما ستقدم عروضات على الأكفان المستعملة بأسعار مغرية.. والكفن العائلي بأسعار لم يألفها شياطين “الأنس” ولا شياطين الجان قبل الوفاة أو من بعد الوفاة…! ودون مراسم… ودون حتى صلوات قبل الوفاة أو بعد الوفاة.. الموت جوعًا وعطشًا ومرضًا وقهرًا وذلًا… قبل الموت وبعد الموت…!؟

   نعم، نحن في لبنان أصبحنا في عداد الأحياء الأموات- الأحياء الأموات قبل قرن من الزمن وليس قبل أو بعد بضعة ساعات… صرخ أحد شعراء الحزن القديم الجديد والمتجدد بأعلى صوته وكأنه يخاطب طبقة الفساد في لبنان.. ودولة الفساد في لبنان.. وسلطات الفساد في لبنان “الصغير” متسائلًا “بقرف” حيث ان الفساد في لبنان ليس فوق الأرض فقط.. بل، تحت سابع أرض كذلك: “سنبيعُكم لكنْ لمَن؟! مَن يشتري منا العفَن؟! مَن يشتري منا النجاسةَ والقذارةَ والفتنْ؟! مَن يشتري منا صراصيرَ  النذالةِ والوهَـن؟! مَن يشتري منا الجراثيمَ المضرّةَ بالبدن؟! مَن يشتري منا البواسيرَ  الخبيثةَ والدرَن؟! مَن يشتري عاراً علينا يستحي منهُ الزمن؟! سنبيعُكم لكنْ لمَـن؟؟؟!!!

   في مقطع  من مسرحية “ماركس في سوهو”.. كتب المؤرخ الأمريكي هوارد زين مخاطبًا ماركس: لقد وصفت الدين بأنه أفيون الشعوب، لكن أحدًا لم ينتبه للفقرة ككل. اسمعوا وعُوا: “الدين زفرة الكائن المضطهد، قلب عالم لا قلب له، وروح ظروف لا روح فيها، إنه أفيون الشعوب الجريئة”. صحيح، ليس الأفيون حلًا، لكنه قد يكون ضرورة لتخفيف الألم. في الثلاثين من عمره كان كارل ماركس، ينظر الى نفسه على أنه أديب قبل أن يكون فيلسوفاً، أو عالم اقتصاد، قال لصديقه أنجلز وهما يضعان مسودات كتابهما الشهير “البيان الشيوعي”: “علينا أن نتطلع يا رفيقي وصديقي وحبيبي الى الشعراء والروائيين أكثر مما نتطلع الى الفلاسفة والمحللين الاقتصاديين والسياسيين خصوصًا أو بالأخص، فمع الأدباء سنبصر جيدا دوافع الإنسان من أجل الحرية ومحاربته للظلم وسعيه الى المساواة والعدالة”.

   تحكي المسرحية عودة كارل ماركس، ليس إلى سوهو لندن حيث عاش وكتب “رأس المال”، بل إلى سوهو نيويورك. ماركس الشاب الذي يقول في بداية المسرحية افتراضيًا: “شكراً لله، إن هناك جمهوراً! جيد أنكم أتيتم وأنكم لم تتأثروا بكل هؤلاء البلهاء الذين قالوا إنَّ ماركس قد مات”. وأضاف: “حسناً، إنني ميت كما أنني لست كذلك… هذا هو الديالكتيك إذا أردتم!”… ارجو ان نكون في لبنان هذه الأيام، وهذه المقابر الجماعية.. أحياء مع وقف التنفيذ أو بالأحرى اموات مع وقف التنفيذ… وهذا ما أعتقد، بل هذا ما أتمنى في حقيقة الأمر أن يكون الديالكتيك أيضًا وكذلك.. وكذلك قال كذلك… في سردية المادية التاريخية وقدر الشعوب… وفي فهم الف باء الديالكتيك في فلسفة الشعوب المادية التاريخية…!؟؟

   الأعمال والقراءات والمشاهدات والأحاسيس والمشاعر والعقل سيد الموقف التي تثير لديك الأسئلة وتدفعك للتفكير والنظر إلي واقعك المتغير هي التي تستحق القراءة والكتابة، وليست تلك التي تري من خلالها العالم بتلك النظرة الوردية المتفائلة في إنك تموت عشرات المرات يوميًا، فالأسئلة التي تحاول تلك الأعمال أو الكتب – التي تبحث بحق عن الوصول إلي اجابات وتقديم رؤية استشرافية لمستقبل متغير أمام واقع سريع التغير – الاجابة عليها هي التي سوف تجعل عقلك يعمل في اتجاه آخر بعيدا عن الاجابات التقليدية الغير مقنعة لواقع متغير كل يوم، فالمتغيرات والمستجدات تتلاحق بسرعة الضوء والإلكترونيات، فما نحتاجه هو الفكر الناقد لتلك المستجدات وما تأثيرها على الإنسان وعالمه والسرعة المطلوبة والقراءة المطلوبة في فهم ما يدور حولنا على مدار الساعة في هذه الكينونة والصيرورة على مبدأ وقاعدة النسبية والتناسب…؟

   “الشعور بالجوع يشبه الكماشة.. يشبه عضّات سرطان البحر.. يحرق بلا نار: الجوع حريق بارد”.. نحن في لبنان نعيش الجوع البارد.. كما نعيش الجوع الكافر.. وهناك مسافة وعي بين الجوع والكفر… بين الجوع والنار عندما يأتي الجوع الكافر من سرطانات السلطة الحاكمة بإسم الشعب!… لم يكن لبنان فقير حتى ألامس القريب.. يوم كان يتمتع بثروة كبيرة من العنصر البشري المميز والمتميز والعلامة المضيئة في تاريخ منطقتنا. العلامة المضيئة الفارقة التي يمكن مقاربتها ومقارنتها بشعوب وثروات الدول المتقدمة من البشر قبل الحجر.. العلامة اللبنانية المضيئة التي بدّدتها القرارات السياسية للحكام المتزمتين وشركائهم في الداخل والخارج، الذين يصرون على إبقاء الناس غارقين في الفقر والجوع والعوز والاستسلام والتسليم بقضاء تلك السلطات وقدرها ناهيك عن الهجرة والتهجير عن سابق إصرار وتخطيط وتنفيذ وتهجير وتفجير وترصد…!؟!

   ومما يزيد من المخاوف في تواصل الانهيارات الوطنية والأخلاقية والمالية والاقتصادي والسياسية في سويسرا الشرق في يوم من الأيام، هو تفاقم الأزمة وعهر السلطة السياسي والمناكفات الملعوبة تحت الطاولة وفوقها بين سرطانات وحيتان سلطات الكفر السياسي في أحد أهم بلدان الشرق الأوسط تاريخيًا، ألا وهو لبنان الذي وصل عدد الجياع فيه إلى معظم مواطنيه وغادره حتى الآن معظم الكفاءات العلمية التي كانت ثروته الوطنية، وعلى حد قول أحدى الهاربات من لبنان، بروفسورة الأمراض العصبية الشابة كاميليا (…)، أثناء تقديمها طلب هجرة قبل أيام في إحدى السفارات الأوروبية، فإن “الديمقراطية الوحيدة الموجودة الآن في لبنان اللغات والحضارات هي الجوع والموت وقوفًا على أبواب السفارات مكسوري الخاطر والكبرياء الوطني المعهود… بلاد المعاناة والمشاهد المروعة، إلى الحد الذي تصف فيها البروفيسورة “عنقاء الرماد بيروت” بأنها “مكان يتصارع فيه الناس بحثاً عن فسحة للموت”. وتعزو سبب ما تسميه بالتراجيديا ووصول الحال إلى هذا المستوى من التردي، إلى سياسة العصابات الحاكمة بإسم الدين السياسي والمال السياسي والطائفية السياسية والدينية على قاعدة “الدين لله وكل شيءٍ أخر ملك حصري لنا ولابنائنا وبناتنا من بعدنا أطال الله بأعمارنا” يارب كفى بقرا وحكامًا مثقوبين.. والكل إذا ركب الكرسي يكشر بالنار كعنترة.. فتعالي يا حبيبتي نبكي الأموات ونبكي الأحياء.. الحزن ثقيلًا في الليل.. كيف أتوب.. تلك ذنوب؟!

   في كتاب “الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية” لمؤلفه إدواردو غاليانو، والذي انطلقت شهرته العالمية بفضل إهداء رئيس فنزويلا الراحل هوغو تشافيز إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما سنة 2009 نسخة منه بغرض رفع الصوت والاحتجاج على الأوضاع المزرية و”الحصار”. الكتاب الذي تُرجم إلى أهم لغات العالم ومنها العربية، وربما يكون هو أكثر كتّاب في القارة اللاتينية تطرقا لموضوع الفقر، عبر التقاطاته الذكية ولغته التهكمية المفعمة بالمرارة، ومن أقواله بشأن الفقر والجوع: “فقراء ضد فقراء، كالعادة: إن الفقر لحاف قصير جداً وكل طرف يسحبه نحوه”. و”إننا نعرف كل شيء عن الفقراء: ما الذي لا يعملون فيه، ما الذي لا يأكلونه، ما الذي ليس لديهم، ما الذي لا يفكرون به، على ماذا لا يصوتون، ما الذي لا يعتقدونه… وينقصنا أن نعرف لماذا الفقراء هم فقراء؟ تُرى الآن عريهم يكسينا وجوعهم يطعمنا؟” ويصف العالم بأنه “تناقض كبير يدور وسط الكون، وعلى هذا النحو، فليس من المستبعد أن مالكي الكرة الأرضية سوف يمنعون الجوع والعطش كي لا ينقص الخبز ولا الماء على الأغنياء والمالكين والحاكمين”. هل سيطردون الفقر والفقراء من هذا الكوكب؟!.. و إلى اين سيذهبون؟!.. وفي أي أرض سيموتون؟!.. وفي أي أرض سيدفنون؟!…

   رواية “الجوع” للنرويجي كنوت هامسون والتي حاز بفضلها على جائزة نوبل عام 1920 والتي يصور فيها ضراوة الجوع بالتفصيل وبحس عالي كما يجري الان في لبنان من قهر وذل وطوابير على رغيف خبز أو كفن.. وكيف يضطر بطل الرواية الذي يحرص على الحفاظ على مظهره الآدمي وقيم إنسانية كما كان اللبنانيين يتباهون قبل سنوات مضت.. إلى مص الخشب لشدة جوعه.. نعم، جوعه… كما اصبح الشعب اللبناني من كل الطوائف على قاب قوسين أو ادنى من ان يلحس التراب على الأرض وامام بيوت زعماء الأحزاب اللبنانية والطوائف قدس الله سرهم..! ومكسيم غوركي في روايته “الأم” الذي يقول عن الجوع بأنه “يتبع الإنسان كمتابعة الظل للجسد”، وفي رواية (عناقيد الغضب) لجون شتاينبيك (نوبل 1962) التي يصف فيها بقسوة وطأة القحط والجفاف في الثلاثينيات، قائلا أثناء إعداده وعزمه على كتابتها: “أريد أن أضع علامة عار على جبين الأوباش الجشعون المسؤولون عن هذا”، وكيف “يمكن أن يكون الجياع مواطنين مثاليين، لكنهم قد يتحولوا أيضًا إلى جيش تحركه المعاناة والكراهية، بحيث ينتهي بهم المطاف لأخذ كل ما يحتاجونه بالقوة”. وكم أتمنى أن نصل إلى هذه الأيام ونأخذ ما يحتاجه الشعب من قصور الزعماء وأولادهم بالقوة الشعبية وقبضة الجماهير الجائعة…!

   تاريخ الأدب الإنساني الملتزم بقضايا الناس والظلم الاجتماعي والطبقي زاخر بأعمال مهمة تناولت الجوع وقهر الشعوب بالتآمر والمؤامرات والخيانات والسجون والمنفى وقهر الغربة عن الاهل والأوطان ومنها الرواية البيكاريسكية، رواية الصعلكة، الأولى (لاثاريو دي تورميس)، وفي نصوص لثربانتس وغيره من الكلاسيكيات وصولاً إلى العصر الحديث بأعماله التي تناولت قسوة الدكتاتورية وآثار الحرب الأهلية التي عانينا منها في لبنان والمنطقة ما عانينا من خراب وجوع وموت مدبر ومقصود وهدم وتهديم فوق الرؤوس، والتي اشتهر من بين شعرائها ميغيل هيرنانديث، صديق بابلو نيرودا وجيل السبعة وعشرين الشعري كغارثيا لوركا الذي تم إعدامه ورافائيل ألبرتي الفار إلى المنفى.. وغيرهم. هيرنانديث الذي مات شابا في السجن واصفا الجوع بأنه المعلم الأول للإنسان “الجوع أول المعرفة” حيث نبكي أطفالاً نطالب أمهاتنا بالطعام. وهو الذي اشتهر بقصيدة “أغنية البصل” أو “تنويمة البصل” التي كتبها إلى زوجته عندما اشتكت إليه في رسائلها من الجوع، حيث ليس لديها إلا قطع من الخبز والبصل، مما تسبب بشح حليبها لرضاعة طفلهما، وتحولت مقاطع هذه القصيدة إلى أغاني يرددها الناس حتى اليوم واللبنانيين على وجه الخصوص بعد ان تحول البصل إلى فاكهة الجنة الموعودة في ميراث الطوائف وزعمائها الوثني وعبادة الأصنام!؟!

   كان الفيلسوف والشاعر العظيم بورفير إيجلانتين منذ مطلع شبابه مرهف الحس سريع الشعور بالمعاناة. سيطر عليه هاجس أنه ربما لا يكون موجودًا. في كل مرة كان يتطلع فيها في المرآة يستبد به الذعر خشية ألا تظهر صورته خشية ألا يرى نفسه.. خشية ان يختفي ولا يرى نفسه في المرآة. من هنا فقد أبتدع لنفسه (فلسفة) كان يأمل ان تتبدد تلك الهواجس غير ان تلك الفلسفة كانت تفشل في بعض الأحيان في شفاء غليله وإرضاء طموحه. وقد أستطاع، على أية حال، ان يبدد مخاوفه، لكن “نشيد العدم”، الذي عبر عن رؤية محطمة مفاجئة، كشفت عن اخفاقه في الإجابة على شكوكه… من هنا فقد العزم على ان يبرهن، مهما كلفه الأمر، على وجوده الذي أصبح بالنسبة أليه أنه غير موجود: “في البيداء المترامية الأطراف، حيث تمتد كثبان الرمال بلا نهاية، أفتش، عن طريق ضائع مفقود، لا أجد له أثرًا… تحوم روحي الحائرة جيئة وذهابًا، في كل أتجاه، نبحث عن سراب خادع… في فضاء هائل الاتساع، هذا الفراغ اللامتناهي، هذه الرمال… هذه الرمال البديعة الساكنة، الحزينة المُكفهرة، المنبسطة في أفق لا نهاية له. أخيرا أصخت السمع إلى صوت، خافت رقيق خاطبني قائلًا: أتحسب إنك روح ضائعة. أتظن إنك روح.. يا لك من وأهم. ما أنت بروح. ولست ضائعًا، الحقيقة إنك عدم… أنت غير موجود”!؟!

Visited 38 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني