لبنان .. السلام المستحيل
لم يكن اللبنانيون بحاجة لمن يذكرهم ليتذكروا ضحاياهم في أسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية ومعيشية يشهدها لبنان، منذ أكثر من مئة عام، بسبب سوء الإدارة والأداء السياسي، لهذه المنظومة الفاسدة التي عملت سرقة ونهباً، ولم تتورع عن ارتكاب أفدح عملية نصب في التاريخ، من خلال وضع اليد على أكثر من مئة مليار دولار من أموال المودعين .
والاخطر أن جرائم المنظومة السياسية مازالت مستمرة، وتتخذ أشكالاً مختلفة، وآخر مظاهر هذه الدوامة الفراغ، والتي تهدد تداعياتها ما تبقّى من وجود مقومات الدولة، بالتزامن مع استمرار تدهور الأوضاع على كافة المستويات بما فيها الأمنية، لا سيما بعد حادثة القرنة السوداء وما تلاها من مواقف، ولكن هذه الحادثة لم تحجب النظر عن جملة استحقاقات تنتظر لبنان في المرحلة المقبلة، من بينها شغور بعض المراكز الحساسة وتحديدا حاكمية مصرف لبنان .
والصحيح أيضاً، أن هذه الطبقة السياسية أدخلت الخزينة في مخاطر الإفلاس، وضربت أوصال الدولة العميقة، وفتحت الأبواب أمام الأزمة الكبيرة في انتفاضة 17 تشرين 2019، وأدت انهياراتها المستمرة إلى هذا الوضع الدراماتيكي، الذي يتخبط فيه البلد منذ أكثر من ثلاث سنوات .
أكدت الأشهر السوداء للفراغ الرئاسي حجم الفشل الذي يهيمن على أداء الأطراف السياسية، أحزاباً وكتلاً نيابية، في إيجاد التسوية الوطنية اللازمة للوصول إلى توافق حول الرئيس العتيد، نتيجة سياسات المكابرة والمعاندة والمكاسرة التي تنتهجها تلك الأطراف، دون أن يكون لبعضها القدرة على إلغاء البعض الآخر، ولا حتى الإمكانية لأحدها أن يلغي الآخر.
خلال لقائه حزب الله تحدث الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان عن توازن سلبي بين مرشحي الرئاسة من الطرفين ما يفتح على احتمال المرشح الثالث، وهذا معناه ان فرنسا خرجت من مبادرة المقايضة بين فرنجية ونواف سلام وانتقلت للعمل على محور الخيار الثالث رئاسياً.
وما أن غادر الديبلوماسي الفرنسي المخضرم بيروت، حتى بدأت دعوات الحوار تصدر عن عدد من الأحزاب والقيادات السياسية، لا سيما حزب الله بالذات، دون التخلي عن المواقف المتصلبة خلف مرشح كل فريق، الأمر الذي يطرح تساؤلات .
ما معنى الدعوة للحوار إذا بقي كل فريق متمسكاً بطروحاته.
كيف يمكن الوصول إلى طاولة الحوار في حال أصر كل فريق على شروطه.
هل يمكن بلوغ حدود التوافق المنشود مع حرص كل فريق على إقناع الفريق الآخر بمرشحه.
تكشف بعض المصادر الدبلوماسية عن استحالة الذهاب إلى تعديل النظام، مشيرة إلى أن الحوار إن حصل فسيكون داخلياً بين القوى اللبنانية وسيشمل ما تطلبه كل القوى لا فريق واحد من ضمانات .
غير أن الاتجاه الإقليمي والدولي اليوم لا يشجع على أي حوار يتصل بالنظام أو الطائف لأسباب عديدة
. منها،ان الدول مشغولة بقضايا أكبر من لبنان
وهناك قرار أميركي سعودي مصري فاتيكاني بعدم المس بالنظام اللبناني تحت أي مسمى، وبالتالي كل محاولات وضع النظام تحت المجهر من بوابة دخول الحزب إليه كقوة سياسية طائفية لم تكن حاضرة في اتفاق الطائف أو من باب التهويل أو على الأقل من باب ملء الوقت الضائع .
الكلام الأكثر جدية هو تحول هذا النقاش إلى حوار داخلي يطلبه الحزب في الأساس، ويهدف إلى حصوله على ضمانات لسلاحه يطلبها مقابل التوافق على رئيس.
مقابل كل الكلام عن ضمانات يريدها الحزب لضمان وجوده في الدولة ومشاركته في القرار السياسي وحماية السلاح، هناك كلام آخر عن ضمانات يريدها المسيحيون في ظل ما يعتبرونه تهديداً لوجودهم ودورهم في لبنان، تارة بلعبة الديمغرافيا وطوراً بالكلام عن تضخم المواقع المسيحية مقابل الحجم الحقيقي للطائفة .
ختاماً لن يستمر طويلاً هدوء العطلة السياسية التي تلت زيارة الموفد الفرنسي. إذ سرعان ما ستظهر نتائج عمل اللجنة الخماسية حول لبنان، وخلاصتها أن اللبنانيين لا يملكون ترف الخيارات المتعددة لأن لودريان سيعود بخريطة طريق واضحة سيكون على القوى السياسية الالتزام بها والا فسيتركون لمصيرهم، اضافة إلى انه لا توجد واحدة من العواصم لديها ما يكفي من الوقت والصبر لتحمل الفشل اللبناني المتراكم. وستحمل معها زيارة المسؤول السعودي اقتراحات ستجعل اللبنانيين مجبرين على اتخاذ الخيار والذهاب إلى إنجاز الاستحقاق بناء على المعطى الفرنسي المقبل عليهم وبناء على حوار سعودي أميركي إيراني سيقدم مقاربة جامعة للتوازنات في لبنان. وإذا حدث غير ذلك فسيغرق لبنان في أزمته وفراغه وأزماته الاجتماعية والمالية .