“أبراج من ورق” للقاص والروائي سعيد رضواني : بناء سردي محفوف بمخاطرة فنية
غيثة لبلول
رواية أثارت ضجة إيجابية، ليس لأنها حصلت على جائزة أسماء الصديق للرواية الأولى بشراكة مع دار الآداب في دورتها الأولى، بل لأنها في مضمونها وشكلها، خرجت عن المألوف، وتحدت السرد المعتاد، لتنسج خيوطا رابطة بين عناصر الكتابة تجمع بين التأملي الفكري، والمعاش الواقعي المادي، فكان مسارا سرديا “ينتج وحدة عضوية بين الشكل والمضمون والرؤية .”
( من تقديم الناشر للرواية)
من حيث المضمون يجعلنا سعيد رضواني نحلق في أزمنة متعاقبة، لكن متداخلة :
ثلاث مراحل تاريخية لثلاث أجيال متفاوتة لكنها تعكس نفس التطلع، وتتكامل في مساعيها لتحقق أهدافا قيمية تتجاوز المعنى التقليدي لتواتر التاريخ وتعاقب الأجيال، وتخلق رؤية موحدة بين الجد والأب والابن، هي رسالة للحفاظ على الموروث في صيغته المادية كمعمار وكهندسة، والتي لا تكتمل إلا بمدلوله الفكري كمنتوج ابداعي” .وتستعيد رواية أبراج من ورق للكتابة هيبتها وللمعمار مجده، وللتراث مكانته” ( مقتطف من مقدمة الرواية للناشر) يلخص بقوة وبمهارة تأملية متميزة أهداف الرواية وموضوعها .
بهذه الجملة يتحقق السعي الفعلي لروائي من طينة مختلفة؛ سعيد رضواني الذي لا يقتنع بما هو عادي ومألوف في العملية السردية، بل يذهب بعيدا، بتقنيته في السرد، وبتنقيته لمهارات الكتابة المتعالية يأخذ موضوعه من الواقع، لكن يتجاوزه إلى بناء سردي، محفوف بمخاطرة فنية تنتشي في اعماق الرمز لتمكنه من دلالات تؤسسها مخيلته المبدعة، حيث التوظيف الراقي للصور البلاغية والمجازية في أبعد تداولاتها .
إذا كانت الرواية تقوم على عناصر أساسية من زمان، مكان، شخصيات، حبكة، مقدمة ونهاية في إطار خطيّ معين يحدده السارد حسب نمط الأحداث وتسلسلها، فإن روايتنا هذه “أبراج من ورق”، تتداخل فيها كل هذه العناصر، لترفع من عامل التشويق إلى أعلى درجاته؛ تشويق في المتن اللغوي للوقوف على الأبعاد الفكرية قبل مغزى الحدث..
في “أبراج من ورق” يتجاوز السارد كل الحدود ويكسر كل القيود، التي تفرضها عناصر السرد في تداولها العادي، ليخلق متعة القراءة في سرد مخالف ومختلف يقوم على انتقائية بالغة في توظيف المعاني والدلالات ….
يتجاوز التداول التقليدي للمفاهيم..
لا يعترف بالتناقض والتضاد، بمعناه المتداول..
يرفض التقابل بمعناه الكلاسيكي..
يقر بالتماثل بين الأضداد ..
يتخذ من التماهي خاصية لتجاوز النفي والسلب، ويجعل القارئ يسلم بمفارقات غريبة، تخلق التماثل بين الأضداد لترفع علاقة السلب أو النفي، تجعل الأحياء أمواتا، والأموات أحياء، تجمع بين الماضي والحاضر بالتطلع لمستقبل موسوم في الماضي، كل ذلك في تصور لا يعترف بالدلالة المعتادة للزمن كلحظات استرسال وانسياب، لحظات تاريخية متلاحقة، يتجاوز بعضها البعض .
في رواية “أبراج من ورق”، لم يعد الزمن خطيا تتحدد بموجبه الأحداث، بل مجرد قالب انطباعي يتخذ منه السارد معنى الوجود ويجعل منه إطارا عقليا من أجل إدراك الأحداث متجاوزا التنظيم الكلاسيكي والاسترسال اللحظي؛ أي تعاقب اللحظات : “لا أدرك من منا كان يمضي في ذلك الطريق.. بينما صوت أمه أو أمي المخنوق بتراب القبر يصل إلى أذنه أو أذني.” ( ص11)
صورة مركبة جدا تعكس تداخل الذوات وتماهي الزمن وغياب الاعتراف بالصورة الاعتيادية في تصور الأحداث، ويستمر التماهي ليصل إلى عمق الشخصية نفسها، شخصية السارد : ” بت أخلط في ذاكرتي بين ما أعيشه وما يعيشه الآخر…الذي هو أنا على الورق”. (ص91)
ولا تخلو أية صفحة من هذه الصور الرائعة في التعبير عن التلاحم بين الذوات والأحداث ليعبر السارد بنفسه عن إحساسه بهذا التماهي، الذي يجعله لا يفصل بين الوقائع كأحداث تلاحظها أو تلاحقها الذات من الخارج أو تستبطنها في دواخلها كأحاسيس تستلهمها في أعماقها : ” بين اللا أدرية واللا أذكر يتداخل السير في مهاد الارض مع السير على صفحات الرواية”. (ص14 )
تداخل مقصود يعكس رؤية تأملية فلسفية في الربط بين الأزمنة والأحداث، يتجاوز الحاضر إلى مستقبل في الماضي، ويتحدى الفكرة كاختمار ذهني إلى تجلياتها في واقع بذاته .
“أبراج من ورق ” متعة القراءة، ومتعة التأمل في بنيتها اللغوية إلى جانب سياق الأحداث، التي تتعالى عن السائد والمعتاد إلى مجال تركيبي يتعذر التمييز فيه بين الواقع والمتخيل…
رواية شكلت إضافة متميزة في السرد الأدبي الروائي، حيث تجمع بين لحظات السرد ومواقف التأمل الفلسفي المتطلع إلى التآلف بين الواقع والفكر، بين الحدث والمتخيل.. رواية تجمع في صياغتها السردية بين عناصر البناء اللغوي المتكامل، والبناء المعماري الصامد المقاوم لكل انهيار، انهيار القيمة المعمارية، والقيمة الفنية الأدبية، من خلال صياغة لغوية تتجاوز كل القيود، التي قد تهد من صلابة التعبير وقوة الأسلوب ( قوة الكلمة وقوة الصورة / الحدث).
رواية حققت هدفها كما يريده صاحبها، كما صرح بذلك في رده على سؤال : “لماذا تكتب ؟”، فأجاب :”أثناء كل قراءة أشعر بأن غيري من الكتاب جعلوني أعيش أكثر من حياة، أردت أن أشارك في توسيع دائرة الحيوات المتعددة لعلي أفلح في جعل غيري يتمتع بأكثر من حياة واحدة .” (مقتطف من حوار مع ” رضوان بن شيكار)، حتى في حواراته مبدع، يكتب لينقل تجاربه الحياتية إلى الورق، ويكتب أيضا لينقل تجاربه في القراءة، يحمل تناقضاته كما يعيشها إلى القارئ، فيخلق متعة مزدوجة على الطرفين متعة الكتابة ومتعة القراءة .