سيناريوهات ما بعد الحرب

سيناريوهات ما بعد الحرب

الأمين مشبال

     بعد مضي أزيد من أسبوعين من المواجهات ما بين حماس وباقي الفصائل الفلسطينية في غزة وإسرائيل، يتبادر سؤال ماذا بعد هاته الحرب الدامية؟ وأية سيناريوهات يمكنها أن تأخذ طريقها نحو التطبيق باعتبار أنه من الصعب جدا أن تستمر الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وكأن شيئا لم يحدث. فالحرب ستظل دوما كما يقول الجنرال البروسي كارل كلاوزفيتز “استمرارا للسياسة بوسائل أخرى”. انطلاقا من ذلك سنعرض ثلاثة سيناريوهات تلخص ما قد يحدث في غزة ويمس القضية الفلسطينية عموما بعدما تكف المدافع والصواريخ أن تكون لغة التخاطب.

عودة أبو مازن

   يعلم الجميع أن تواجد حماس داخل قطاع غزة لا يقتصر على الوجود العسكري المتمثل في “كتائب عز الدين القسام” بل يتعداه لمؤسسات إدارية تسهر على تنظيم وتأطير مختلف المرافق الاجتماعية من تعليم وصحة وأمن وماء وكهرباء وصولا إلى الصرف الصحي، وبالتالي لما يطرح قادة إسرائيل بأنهم يسعون من حربهم المدمرة هاته “اجتثاث حماس” علما أن ذلك سيتطلب، علاوة على تكلفته العسكرية والسياسية المرتفعة، إعادة احتلال القطاع الذي انسحبت منه صيف سنة 2005، بما يعنيه من مسؤولية قانونية تتمثل في تدبير شؤون الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال وبطبيعة الحال عمليات المقاومة التي ستستهدف قواتها هناك، ناهيك عن ردود الفعل الدولية وفي مقدمتها فتح جبهة ضد المليشيات المسلحة الموالية لإيران والتي تتوزع على مناطق جغرافية مختلفة: اليمن، سوريا، العراق، لبنان. لذا ومهما كانت المكاسب العسكرية التي قد تحققها إسرائيل في حربها ضد حماس، فإن أفضل سيناريو يمكن أن تحلم به يتمثل في عودة رجال أبو مازن إلى مقاليد السلطة في غزة قصد الإشراف على إعادة الإعمار واستتباب الأمن لكنه يظل سيناريو شبه مستحيل في ظل غياب أفق سياسي لسلطة ترهلت وفقدت الكثير من شعبيتها في الضفة الغربية.

أوسلو منقحة

   تميزت السنوات التي سبقت اتفاقية أوسلو مباشرة بانتفاضة شعبية عارمة في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية وانخرطت الفصائل السياسية الفلسطينية السرية والحركات النسائية والنقابات العمالية وقطاعات كبيرة من المجتمع المدني في سلسلة من الإضرابات والاحتجاجات والعصيان المدني ومقاطعة البضائع الإسرائيلية والاشتباكات غير المسلحة إلى حد كبير ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ورغم الطابع السلمي الذي غلب عليها فإن ذلك لم يمنع قوات الاحتلال من قتل حوالي 1300 فلسطيني.

   كان الوضع الدولي يهيمن عليه آنذاك سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا وتدبير الوضع في الديمقراطيات الشعبية، ولم يعد ميالا إلى نصرة القضية الفلسطينية بما في ذلك الاتحاد السوفياتي الذي شرع في عهد غورباتشوف بتخفيف القيود على هجرة اليهود إذ وصل منهم 12 ألف إلى إسرائيل. ومما زاد من ضعف الموقف الفلسطيني انحياز القيادة الفلسطينية إلى جانب صدام حسين في غزوه للكويت مما أغضب السعودية ودول الخليج التي كانت توفر دعما سخيا للفلسطينيين وتستقطب عددا كبيرا منهم للعيش والعمل فيها خصوصا الكويت.

   في ظل هذا السياق الدولي، وبعد نجاح التحالف الدولي الذي شاركت فيه مجموعة من الدول العربية في حربه ضد العراق، شرع جيمس بيكر ابتداء من مارس 1991 في عرض المشروع الأمريكي للسلام، كما أخذت الإدارة الأمريكية في ممارسة ضغوط على قادة إسرائيل للانخراط في العملية السلمية، وقصد تليين مواقفها منحت الولايات المتحدة إسرائيل دعما اقتصاديا وعسكريا بقيمة مليار دولار إضافة إلى قرض بنكي قدره 400 مليون دولار.

   أسفرت الدينامية السياسية التي كانت تقف وراءها إدارة بوش عن انطلاق مسلسل تفاوضي كانت أولى محطاته مؤتمر مدريد في نهاية سنة 1991 تحت الرعاية الأمريكية شارك فيه فلسطينيو الداخل ضمن وفد أردني فلسطيني مشترك ، ثم تلته وبموازاته مفاوضات سرية في أوسلو ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وممثلين عن الحكومة الإسرائيلية أثمرت في 13 سبتمبر 1993 ما سيعرف باتفاق أوسلو الذي تم توقيع بنوده ،بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، من طرف ياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني وشمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي عن الجانب الإسرائيلي.

   نص الاتفاق المذكور الذي شمل الجوانب الحياتية للفلسطينيين، وأجل البث لمدة خمس سنوات في الملفات المعقدة مثل القدس والأسرى والمياه والحدود واللاجئين، على أن تنبذ منظمة التحرير الفلسطينية العنف (المقاومة المسلحة) وتحذف البنود المتضمنة في ميثاقها التي تشير إلى تدمير إسرائيل. كما تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بسيادة دولة إسرائيل على 78 بالمائة من أراضي فلسطين التاريخية (ما عدا الضفة الغربية وغزة)، مقابل ذلك اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، ووافقت على انسحاب عبر مراحل من أراض بالضفة الغربية ومن أريحا وغزة، إضافة إلى الإقرار بحق الفلسطينيين في إقامة حكم ذاتي (وليس دولة) على الأراضي التي تنسحب منها في الضفة والقطاع.

   عمدت إسرائيل خلال الفترة الانتقالية إلى فرض الأمر الواقع وتغيير المعطيات الجغرافية والديمغرافية فوق الأرض، بحيث تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية ما بين 1993 تاريخ توقيع اتفاقيات أوسلو و2000 تاريخ اندلاع الانتفاضة الثانية، فضلا عن وجود 200 ألف مستوطن في القدس الشرقية. وهكذا مع اقتراب موعد المفاوضات النهائية (كانت حينها المساحة التي تراقبها السلطة الفلسطينية تتجاوز 30 بالمائة من مجموع مساحة الضفة) أخذ يبرز بشكل جلي أن الدولة الفلسطينية التي يسعى الفلسطينيون إلى بلوغها ستكون، في أحسن الأحوال، عبارة عن جزر معزولة بعضها عن البعض الآخر، ناهيك عن مجموعة من الطرق الدائرية المخصصة للمستوطنين.

   انعقدت قمة كامب ديفيد في 11 يوليو 2000 للبث في الملفات المؤجلة ففشلت المفاوضات بسبب التصلب الإسرائيلي المدعوم أمريكيا بشأن قضايا الحل النهائي (الحدود، المياه، عودة اللاجئين)، وخصوصا حول ملف القدس باعتبار أن المقترح الإسرائيلي الأمريكي لم يكن يحقق السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية والبلدة القديمة. وعلى العموم فقد كان المشروع الإسرائيلي الأمريكي في قمة كامب دافيد يسعى إلى احتفاظ إسرائيل بالسيادة على القدس مع توسيع حدودها داخل الضفة الغربية بعد ضم المستوطنات إليها مقابل حكم ذاتي وإدارة مدنية على المناطق الفلسطينية بالقدس الشرقية. وفي 28 سبتمبر 2000 أطلق أرييل شارون ليس فقط رصاصة الرحمة على اتفاقيات أوسلو عبر زيارته الاستفزازية المقصودة لباحة المسجد الأقصى بل وأيضا شلالا من الدماء لم يتوقف إلى يومنا هذا.

   بعد مرور 23 سنة على اتفاقيات أوسلو، وفي ظل التطورات الدرامية التي يحياها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، يحق التساؤل هل لا زال اتفاق أوسلو يشكل إطارا وقاعدة للتفاوض يمكن تصحيح جوانب القصور فيه بما يضمن الحد الأدنى من شروط السلام العادل؟

   ما هو أكيد أن صدمة هجوم 7 أكتوبر وما تلاه من أحداث دامية أعاد القضية الفلسطينية إلى أجندة المجتمع الدولي بعد أن كان قد طواها النسيان وأصبح الحديث فقط عن تقديم دعم مالي واقتصادي للفلسطينيين دون الاهتمام بحقهم كشعب في وطن آمن ودولة ذات سيادة. لكن رغم ذلك علينا ألا نغفل أن معسكر أوسلو تضاءل داخل إسرائيل التي مال مجتمعها إلى أقصى اليمين مقابل تراجع خطير للقوى اليسارية ممثلة في حزب العمل، وصعود الأحزاب الدينية المتطرفة التي تؤمن بقوة أنها تحقق أحلام شعب الله المختار. من هنا وبدون ضغوط دولية قوية، وخاصة من الحليف والراعي الأمريكي، فإنه من المستبعد جدا أن تأخذ الطبقة السياسية الإسرائيلية العبرة مما يجري حاليا وتتجه نحو تحقيق سلام الشجعان.

انتفاضة ثالثة

   قبل الحديث عن سيناريو انتفاضة فلسطينية ثالثة في حالة انسداد الأفق السياسي بعد نهاية حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة واستمرار إسرائيل في الاعتماد على سياسة التقتيل والاعتقال والتهجير لضمان راحة وطمأنينة مستوطنيها، لابد من التذكير ولو بتركيز شديد بوقائع الانتفاضة الأولى والثانية وببعض الاستنتاجات المتعلقة بها.

   كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، تميزت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتي عرفت إعلاميا بانتفاضة الحجارة والتي امتدت ما بين دجنبر 1987 إلى أن توقفت نهائيا عام 1993، بطابع نضالها السلمي واتخذت العصيان المدني أسلوبا ناجعا في مقاومة الاحتلال، فعملت على مقاطعة البضائع الإسرائيلية وخوض إضرابات قطاعية وكتابة الشعارات على الجدران ورشق جنود الاحتلال بالحجارة مما أكسبها تعاطف الرأي العام العالمي بل وحتى جزء من قوى السلام الإسرائيلية، وكان لها الفضل الكبير في استمرار جذوة النضال الفلسطيني بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد حرب 1982، وفي تحقيق بعض المكتسبات تمثل أهمها في الانسحاب الإسرائيلي من بعض مدن وقرى الضفة ومن قطاع غزة وتبني المجتمع الدولي لحل الدولتين.

   جاءت الانتفاضة الثانية التي امتدت زهاء أربع سنوات ونصف (28 سبتمبر 2000 إلى 8 فبراير 2005) كرد فعل مباشر على خيبة أمل الفلسطينيين من توقف قطار أوسلو وفشل المفاوضات. وبخلاف الانتفاضة الأولى لعبت الفصائل الفلسطينية المسلحة وتحديدا حركتي فتح وحماس دورا كبيرا فيها، بيد أنها كانت تفتقد لرؤية واستراتيجية وطنية موحدة، مما كان له الأثر السلبي على مسارها ومآلها رغم التضحيات الجسيمة التي قدمها الفلسطينيون: 4412 قتيل و48.322 جريح (مقابل 1069 قتيل و4500جريح إسرائيلي)، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية.

   لقد كانت استراتيجية فتح بقيادة ياسر عرفات تتلخص في ممارسة ضغط ميداني: عسكري وجماهيري يجبر إسرائيل على تنفيذ ما تملصت منه (تجميد المستوطنات ومنح القدس الشرقية للفلسطينيين لجعلها عاصمة لدولتهم)، أما حماس فكانت لها استراتيجية مغايرة جذريا انطلاقا من ميثاقها ورؤيتها السياسية إذ سعت إلى تقويض اتفاق أوسلو وحل الدولتين، وتبنت شعار تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر.

   انطلاقا من هاته الرؤى والاستراتيجيات المتباينة ركزت فتح والتنظيمات التابعة لها (كتائب شهداء الأقصى) على توجيه عملياتها ضد القوات الإسرائيلية في نطاق الأراضي المحتلة بعد حرب يونيو 1967، بينما لم تضع حماس أية قيود سياسية أو جغرافية لعملياتها إذ شملت عملياتها قطاع غزة بالدرجة الأولى والعمق الإسرائيلي عبر عمليات انتحارية ضد المدنيين والعسكريين (حافلات ركاب، مطاعم، ملاهي ليلية…).

   وقد استغلت إسرائيل تلك التجاوزات (والتي انساقت إليها جزئيا كذلك بعض قواعد فتح) في إثارة حساسية المجتمع الدولي إزاء الأعمال المسلحة التي تستهدف المدنيين، وقامت باجتياح الضفة واعتقال المئات من مناضلي فتح وكوادرها وفي مقدمتهم القائد مروان البرغوثي، وتدمير مقرات السلطة، وفرضت حصارا على مقر عرفات في رام الله إلى أن تمكنت من التخلص منه عبر تسميمه.

   استقراء للتجربة التاريخية للانتفاضتين الأولى التي تمكنت من تحقيق مكاسب مهمة للفلسطينيين والثانية التي باءت بالفشل رغم كل التضحيات، يمكن القول إن سيناريو انتفاضة ثالثة في الضفة الغربية في حالة استمرار انسداد الأفق السياسي بعد نهاية حرب غزة الحالية، صعب التحقيق باعتبار الانقسام الواضح في الشارع الفلسطيني ما بين وجهة نظر تعتبر أن نهج عسكرة الانتفاضة الثانية أدى إلى فشلها لأن موازين القوى مختلة بشكل سافر، إضافة إلى كون أمريكا والدول الغربية تمنح إسرائيل شيكا على بياض لممارسة كل الانتهاكات الممكن تخيلها لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين (لا تتذكر تلك المبادئ وتتباكى عليها إلا إذا تم استهداف مدنيين إسرائيليين بشكل من الأشكال)، وبالتالي يمكن البحث عن صيغ جديدة واستثمار المقاومة السلمية . أما وجهة النظر الثانية فتعتبر أن لا بديل عن المقاومة المسلحة وتغيير موازين القوى على الأرض مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات.

الستاتيكيو

   في الختام لا يمكن استبعاد سيناريو صمود حماس، وبقاء الوضع على ما هو عليه رغم كل الخسائر التي ستلحق بقدراتها وبنيتها العسكرية، ونهوضها مجددا من تحت رماد الدمار، وإعادة بسط سيطرتها على القطاع؛ في هذه الحالة، ستواجه حماس العديد من الأسئلة الصعبة وفي مقدمتها كيفية تلبية حاجيات وتكلفة إعادة إعمار القطاع الذي تعرض لتدمير وتخريب غير مسبوقين بحيث أضحى مئات الآلاف بدون مأوى ولا مصدر للرزق؟ وهل ستغامر الدول المانحة مثل قطر بضخ ملايير الدولارات في إعادة بناء القطاع دون توفر ضمانات وتسويات تحول دون عودة شبح الحرب بما تعنيه من دمار وعودة إلى نقطة الصفر؟ وهل يمكن لحماس أن تصبح طرفا في المعادلة السياسية التي ستنشأ في الشرق الأوسط من أجل حل للقضية الفلسطينية دون القبول من جهة بمقررات الأمم المتحدة وبحل الدولتين بناء على القرار الأممي 181 الصادر في نوفمبر 1947 والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وإسرائيلية، ومن جهة ثانية دون إغضاب إيران وحلفائها في المنطقة الذين يوفرون لها دعما ماليا وعسكريا مكنها من أن تطور قدراتها إلى درجة أنها وجهت صفعة تاريخية لإسرائيل؟

    ما هو أكيد فإن الوضع في غزة وعموم الشرق الأوسط لن يظل كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، ويظل الأمل، مهما كان حجم المأساة والدمار، في أن تخرس أصوات المدافع وتنتصر إرادة السلام عبر تحقيق المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة.

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

الأمين مشبال

أستاذ باحث وحقوقي (المغرب)