هل يمثل لقاء موسكو للفصائل بارقة أمل؟
هاني المصري
سألت مسؤولًا فصائليًا كبيرًا من القيادات الفلسطينية عن الدعوة الروسية للفصائل في نهاية هذا الشهر، فقال لي والله لا أعرف ما الهدف وما النتائج المتوخاة منها، ويبدو أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد استمرار لإبداء حرص موسكو على القيام بدور في الملف الفلسطيني.
مبعث التشاؤم الذي أظهره المسؤول الفصائلي أن ما تطرحه الفصائل (وحدد 12 فصيلًا وافقوا على مبادرة مشتركة في واد، وما تطرحه القيادة الرسمية المتنفذة في واد آخر).
ففي أواخر كانون الأول 2023، طرحت خمس فصائل مبادرة للحل الوطني، وافقت عليها فصائل أخرى ليبلغ العدد 12 فصيلًا، تقوم على رفض سيناريوهات وحلول مستقبل غزة بلا مقاومة، وتشدد على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي، ودعت إلى تشكيل حكومة منبثقة عن توافق وطني. ويمكن أن تفهم الموافقة على أنها تتضمن تشكيل حكومة وفاق وطني؛ أي حكومة تشكلها الفصائل من دون أن تشارك فيها؛ ذلك لتسهيل قدرتها على العمل وإعادة الإعمار والبناء، والتحليق عربيًا وإقليميًا ودوليًا، وكذلك يمكن تمهيدًا لتمكينها من العمل إسرائيليًا.
ودعا أصحاب المبادرة إلى إستراتيجية موحدة لمواجهة نتائج الحرب، وعلى ضرورة تطوير النظام السياسي الفلسطيني، وتعزيزه بانتخابات عامة بنظام التمثيل النسبي الكامل.
ودعت المبادرة للقاء وطني جامع وملزم يضم الأطراف كافة من دون استثناء، لتنفيذ ما تم التوافق عليه في الحوارات الوطنية السابقة، ومواجهة استحقاقات نتائج الحرب.
وعن المهمات المباشرة والفورية، دعت المبادرة إلى الوقف الفوري لحرب الإبادة والأرض المحروقة والتطهير العرقي، مشددين على كسر الحصار المفروض على غزة، والشروع في إدخال المساعدات الإغاثية والطبية والوقود، وإمداد شعبنا بكل مستلزمات الحياة، ونقل الحالات الخطرة من الجرحى إلى الخارج للعلاج.
وأكدت كذلك أهمية الالتزام العربي والإسلامي والدولي بإعادة إعمار قطاع غزة، وضرورة إطلاق مبادرة دولية لإعادة الإعمار، وتوفير مساكن جاهزة عاجلة بشكل أولي.
وجددت الفصائل تأكيد موقفها من ضرورة وقف إطلاق النار بشكل نهائي، وانسحاب قوات الاحتلال من القطاع، بوصف ذلك شرطًا قبل إجراء عملية تبادل أسرى وعلى قاعدة الكل مقابل الكل (الفصائل أبدت مرونة بعد ذلك حول شروط تبادل الأسرى ولكنها ووجهت بتعنت إسرائيلي).
في المقابل، لم تبادر القيادة المتنفذة بالدعوة إلى لقاء الفصائل، ولم تقم بإجراء أي لقاء رسمي مع الفصائل منذ السابع من أكتوبر، والمقصود هنا تحديدًا “حماس” و”الجهاد”، فكما قال رئيس الحكومة محمد اشتية في مقابلته مع سكاي نيوز عربية: “إن الاتصالات مع الفصائل لا تجرى مباشرة، وإنما عن طريق مصر وقطر”!، وهذا خلل كبير ولا ينفي أن هناك اتصالات جرت من قيادات من “فتح” أبرزها جبريل الرجوب مع قيادة “حماس”، ولكنها على ما يبدو بمبادرة شخصية ومن دون تفويض رسمي.
أما القيادة الرسمية فعقدت من جهتها اجتماعًا يوم الأحد الماضي، جاء في البيان الصادر عنه أن الرئيس محمود عباس أكد “الاستمرار في بذل الجهود من أجل تعزيز الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحدها دون غيرها، والالتزام ببرنامجها السياسي الذي أقرته المجالس الوطنية المتعاقبة والتزاماتها الدولية، وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض دولة فلسطين المحتلة منذ العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وإنهاء إفرازات الانقلاب في العام 2007، والالتزام بمبدأ السلطة الواحدة، والقانون الواحد والسلاح الواحد، والمقاومة الشعبية السلمية”.
ورحب سيادته بدعوة روسيا الاتحادية الصديقة للفصائل الفلسطينية لإجراء حوار من أجل تذليل العقبات لإنهاء الانقسام البغيض، وتحقيق المصالحة الوطنية، وتوحيد الرؤية الوطنية لمواجهة التحديات التي تواجه شعبنا وقضيتنا.
وأغرب ما قرره الاجتماع تشكيل لجنة لوضع ورقة عمل وخطة تحرك لوقف العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، وإفشال مخططاته بكل أشكالها، والعمل من أجل حشد الدعم الدولي للاعتراف بالدولة وإنهاء الاحتلال.
ومبعث الغرابة في تشكيل اللجنة أنّ التقليد الفلسطيني الراسخ عند النية بتمويت موضوع ما هو تشكيل لجنة له.
وكذلك جاء تشكيل اللجنة بعد مرور أربعة أشهر ونصف الشهر على بدء حرب الإبادة، وفي الوقت التي لا تزال فيه مؤسسات منظمة التحرير، بما فيها اللجنة التنفيذية مجمدة، ولا تجتمع، وإذا اجتمعت يكون الاجتماع تشاوريًا؛ أي بعدم حضور الرئيس، وإذا عقد الاجتماع بحضوره يكون من قبيل رفع العتب لا أكثر ولا أقل.
نصف الكأس الملآن
ما سبق نصف الكأس الفارغ. أما بالنسبة إلى نصف الكأس الملآن، فإن اجتماع موسكو إذا عقد سيكون اللقاء الأول الذي تلتقي فيه الفصائل منذ السابع من أكتوبر وحتى الآن، وعلى الرغم من الهوة الساحقة بين موقف القيادة الرسمية وموقف الفصائل، كما أوضحنا في العرض أعلاه، فإنهم بحاجة إلى بعضهم البعض؛ لأن القيادة في حالة ضعف، وشعبيتها في الحضيض، وموازنتها تكاد تكون فارغة، والضغوط الأميركية والإسرائيلية والإقليمية “لتجديد نفسها” وتفويض حكومة بصلاحيات واسعة تجعل الرئيس يقوم بدور فخري تتواصل وتتزايد، ولذلك كله لا تستطيع العمل ولا أن تكون لها مصداقية من دون وحدة أو توافق وطني أو ضوء أخضر فصائلي، خصوصًا من حركة حماس، وأن انتظار القضاء على المقاومة في قطاع غزة ليس على الأبواب وغير قابل للتحقيق؛ لأن جذور المقاومة وأسبابها لا تزال موجودة، وما قامت به حكومة نتنياهو منذ السابع من أكتوبر من حرب إبادة وتطهير عرقي وتهجير وعقوبات جماعية وتجويع وتدمير شامل أضاف أسبابًا جديدة للمقاومة، ويدفع بمقاومين جدد إلى المعركة.
في المقابل، فإن الوحدة مع حركة حماس وبقية فصائل المقاومة وجعلهم ضمن المنظمة مباشرة أو ضمن المرجعية الوطنية عبر القيادة الموحدة أو صيغة الأمناء العامين، يسبب الغضب، وربما العقوبة من دولة الاحتلال وحكام واشنطن وأطراف عربية أخرى، ولكن لا بديل من الانحياز للمصلحة الوطنية والمجازفة بإغضاب حكام واشنطن وتل أبيب وغيرهم، وهو غضب لن يستمر طويلًا كون التوافق الوطني الفلسطيني سيفرض نفسه على الجميع عاجلًا أم آجلًا، كما أنه لن يخرج عن مظلة القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، من دون أن يشمل ولا يجب أن يشمل التزامات المنظمة في أوسلو التي لم تعد الحكومة الإسرائيلية كلها، وليس أطرافًا منها فقط، ملتزمة بها. كما أن صيغة الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي الإقليمي الدولي الجاري أو ستتم بلورتها ستشمل بالضرورة هدنة طويلة الأمد نسبيًا تشهد مساعي للتوصل إلى حل يتضمن إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين.
ويضاف إلى ذلك أن المقاومة المصنفة فصائلها في قائمة “الإرهاب”، تدرك أنها لا تستطيع العمل واستثمار ما تحقق من صمود ومقاومة ومن اندلاع حركة عالمية تنتصر للحق الفلسطيني، كما لا تستطيع الحصول على التمويل اللازم للإغاثة والبناء والإعمار، من دون أن تكون المنظمة المعترف بها عربيًا ودوليًا هي المظلة التي ينضوي في إطارها الجميع.
الحل الممكن… حكومة وفاق
الحل الممكن وليس المثالي تشكيل حكومة وفاق وطني بمرجعية وطنية وليست حكومة تكنوقراط بلا مرجعية وطنية، على أساس برنامج القواسم المشتركة الذي جوهره إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين، ويتسلح بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، ويضمن الشراكة والتعددية في إطار الوحدة. حكومة ليس من الضروري أن تشارك فيها الفصائل، ولكن تكون مرجعيتها الحقوق والأهداف والمصالح الفلسطينية وليست المصالح الفئوية؛ حيث تجسد هذه المرجعية مؤقتًا منظمة التحرير الحالية بالاستعانة بالموافقة الوطنية إلى حين انتخاب المجلس التشريعي بأسرع وقت ممكن؛ المنظمة التي يجب أن يعاد بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد وتكون قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد.
يقتضي هذا الحل من القيادة المتنفذة أن تتخلى عن شروطها التعجيزية للوحدة التي في جوهرها تريد إخضاع الجميع لقيادتها وبرنامجها والتزاماتها وقراراتها، وخصوصًا الشروط المتعلقة بموافقة الفصائل حتى تدخل إلى المنظمة على برنامجها والتزاماتها، وهذا يطمس التعددية والتنافس والجوهر التمثيل الديمقراطي للمنظمة، فهناك فرق جوهري بين المشاركة في المنظمة التي تشترط فقط الموافقة على الميثاق الوطني والنظام الأساسي ومقررات الإجماع الوطني وبين المشاركة في الحكومة. ولننظر إلى حكومات إسرائيل التي تجمع أحزابًا من كل لون ومتطرفة من هنا إلى هناك، ولكنها تتفق على أشياء وتختلف على أشياء أكثر، ولا يمنعها ذلك من العمل للمصلحة العامة الإسرائيلية.
وهناك فرق بين الالتزام بقرارات المجالس الوطنية منذ أوسلو وبين الالتزام بقرارات الإجماع الوطني المقرة سابقًا، أو المقرة بعد دورة المجلس المركزي التي عقدت في آذار 2015، التي قررت إعادة النظر في العلاقة مع دولة الاحتلال والالتزامات التي عقدت معها، فلا يعقل أن تبقى المنظمة تلتزم بالتزامات أوسلو، لا سيما الاعتراف بإسرائيل، في وقت تمارس فيه دولة الاحتلال حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، وتسعى حكومتها إلى تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها.
هناك حل إذا كانت هناك إرادة
هناك صيغة اتفق عليها في اجتماع القاهرة 2005 أطلق عليها “لجنة تفعيل وإصلاح منظمة التحرير”، هدفها ضم حركتي حماس والجهاد إلى المنظمة، ثم طُوّرت لتصبح “الإطار القيادي المؤقت” بصلاحيات واسعة، من دون تجاوز مؤسسات منظمة التحرير، كما جاء في اتفاق القاهرة العام 2011، وعقد هذا الإطار اجتماعَيْن اثنيْن فقط، ثم اعتمدت صيغة الأمناء العامين التي عقدت اجتماعات عدة آخرها في مدينة العلمين المصرية، وهي بحاجة إلى توسيع لكي تشكل قيادة مؤقتة لها تمثيل واسع سياسي واجتماعي إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد والاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات .
يمكن أن تقر هذه الصيغة أو أي صيغة أخرى وتجسد نوعًا من تشكيل إطار قيادي مؤقت يعترف بالمنظمة، وتقر قراراته في مؤسسات المنظمة الحالية، إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما أمكن، وبالتعيين على أسس ومعايير يتفق عليها وطنيًا في الأماكن التي يتعذر فيها إجراء الانتخابات.
إذا كانت هناك إرادة سياسية هناك حل أو طريق يوصل إلى الحل، وإذا لا توجد فيبقى الانقسام ويتعمم ويتناسل ويتعمق، وسيكون له أفدح الأضرار على القضية وشعبها وأرضها.
قد يكون اجتماع موسكو آخر فرصة للوحدة والوفاق، والتوقعات قليلة، ولكن الشعب لن يرحم المتسببين في وقوع الانقسام واستمراره وتعمقه، والتاريخ سيلعنهم، ومع كل ما سبق سنبقى نردد ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
Visited 10 times, 1 visit(s) today