أوجاع الجوع في غزة وتسلية المظلات

أوجاع الجوع في غزة وتسلية المظلات

   سعيد بوخليط

      الكون بمجمل أنطولوجيته غاية الآن، كل تاريخه، جغرافياته، بحاره، محيطاته، بشره، حجره، حيواناته، حضاراته، ثقافاته، زعمائه، جيوشه، ذكاءاته الطبيعية والاصطناعية، أمواله، أبراجه، طائراته، أقماره التكنولوجية، ناطحات سحبه، أسلحته التقليدية، النووية، الجرثومية، علمائه، خبرائه، قوانينه، عدالته، أجهزة أمنه الفكري والبوليسي…

   رغم ضخامة امتداد حياة الكرة الأرضية، التي قارب عمرها نحو 4.5 مليار سنة وساكنتها تناهز ثمان مليارات نسمة، بجانب أرقام فلكية أخرى، يوجد عجز ميكروفيزيائي بحجم هذا الوجود نفسه، قصد العثور على مجرَّد أقرب نقطة بين خطَّين مستقيمين قصد إدخال أيّ لقمة ربما تسدّ رمق فلسطينيي غزة.

   كل هذا العالم، استعصى عليه أمر تبيُّن فجوة ثقب صغير، حتى يتحدَّى هذا العالم نفسه حقا، ويختبر مدى قدرته على هزم الظلم، الهوان، ثم تنظيمات الجريمة المنظَّمة في شكل دول.

   أسلوب إلقاء حمولات عشوائية من السماء، جزافا وكيفما اتفق، حتى لايموت من يموت فعلا، بدا حقيقة عبثيا وسورياليا، أقرب إلى بروفات مظلِّيين مبتدئين، جَسَّدت فعليا صورة سوداء وثَّقتها التقنية الحالية، ستُؤبِّدها أرشيفات التاريخ كعنوان تراجيدي خالد يشي بالعجز الذي بلغته منظومة القيم خلال هذه الحقبة القاتمة، تضاف إلى مجمل سِجِلاَّت مخزون الذاكرة البشرية الموصولة دائما بشهادات ناطقة عن فترات مؤلمة جدا، اختبرتها إبَّان فترات تاريخية اكتسحتها اختلالات بنيوية أثَّرت نوعيا على إيقاع التوازن المفترض، كي يستمر رياضيا قانون الجدل الثنائي.

   مختلف هذا العالم بجامعاته العلمية، معاهده المعرفية، مراكزه البحثية، تشكيلات نخبه، نظرياته، مرتكزات قوته المادية والناعمة، منظماته، إلخ، لم يصادف أبدا مساحة  كيلومترات طبيعية فوق اليابسة، يستسيغها المفهوم، نحو سبيله الإنساني كي يحظى الفلسطينيون بأبسط حقوقهم البيولوجية، لأنه في نهاية المطاف وقبل بداية المطاف، مثلما وجب التذكير، ينتمي الفلسطينيون إلى فصيلة البشر، سوى بطريقة رمي استعراضي لما تيسر من السماء، على طريقة ”قلوبهم معنا وقنابلهم علينا ”(أحلام مستغانمي)، مع ذلك لاتصل الحمولة، بالكيفية التي يجدر وصولها، كريمة تراعي الكرامة وتحفظ ماء وجه الإباء، فالبحر نفسه جائع يتربَّص بها قبل اليابسة، مما يكشف عن مستويات العوز الذي وَطَّده الحصار الإسرائيلي عبر كل مناطق غزة منذ سنوات.

ماجدوى متواليات كل هذه المسرحية المبتذلة، ذات الإخراج السيئ؟

   الشُّجعان، أصحاب المروءة، المقاتلون المبدئيون، يحترمون قواعد الحرب، يترفَّعون عن جلِّ السلوكات الوضيعة التي تنمُّ عن الجبن والحقارة، يحترمون المدنيين تماما، يحافظون على استمرارية يوميات الحياة في غضون المعركة، يركِّزون بالدرجة الأولى على مواجهة خصومهم المسلَّحين، خاصيات أخلاقية من هذا القبيل يفتقدها تماما الجنود الإسرائيليون، لأنهم مجرد عيِّنة نسخ ارتشفت من ذات نبع الجندي الأمريكي، الذي لم يعرف معنى يذكر لقيم الشهامة والفروسية، لذلك خلَّفت جيوش البنتاغون في هذا الإطار صفحات دموية للغاية عبر جغرافيات فيتنام، أمريكا اللاتينية، أفغانستان، العراق، بحيث لم يرحموا أثناء اجتياحاتهم  طفلا ولاشيخا ولا امرأة بل ولاصاحب عاهة، وتبنُّوا مختلف الأساليب المكيافيلية النَّتنة بهدف تحقيق الانتصار: تدمير مجنون، تجويع، اغتصابات، تنكيل، سرقات، إلخ. بنفس منطق صراعات عصابات مافيات شوارع نيويورك.

  إنَّ تجويع الناس وإذاقتهم أصناف العذاب الجسدي والنفسي، يظهر بكل معاني اللغات دناءة وحقارة من يلجؤون إلى استعمال هذه المخطَّطات، المنطوية على جلِّ معاني السادية والعُصابية السوداوية.

   إلقاء ما يلقى على ساكنة غزة، بتلك الطريقة البهيمية، يكشف دون مواربة حتمية عجز المنتظم الدولي المتواصل على مستوى حسم تداعيات الصراعات، وتدبير النِّزاعات، وتطبيق القانون وتكريس العدالة بمفهومها الشامل. سياق، تتجاوز آفاق خطورته السيناريو الفرانكشتايني لمذبحة غزة، لأنَّه يبلور منظومة أخرى للعالم، مستفحلة أكثر سلطويا وتنميطا ثقافيا وحشرا للجميع ضمن بوتقة وجهة أحادية لاغير، أكثر من العولمة جحيما بتعضيد عولمة مالية جشعة ضمن أقصى درجات الشراسة، بحيث صار العالم مجرد لمسة زِرٍّ تحت رغبة الأنامل الأمريكية- الإسرائيلية، مقابل تقويض جذري للأطروحات المعارضِة.

   حتما، عالم تحكمه ثنائيات عمودية، محكومة بقانون الأسياد والعبيد، تعكس بجلاء تقهقر التاريخ إلى الوراء، ثم غدت بالية مختلف أنساق الحداثة وما بعد الحداثة التي رسَّخها السعي الإنساني نحو أنسنة العالم أكثر فأكثر.

   المفارقة العجيبة، أنَّه مع التسليم جدلا بحسن نِيَّة المظلات وتوخيها السليم حقا إسقاط رغيف فوق سماء بشر جوعى، فلماذا خلال الوقت نفسه إسقاط الصواريخ والقنابل ثم مطاردة الساعي الذي أسعفه الحظّ، كي يلتقط قطعة رغيف؟ لذلك، فمن العقل الماسك بعد بشيء من عقله، قد يعثر على تأويل لهذه المعادلة.

   ربما، أنسب جواب على حيثيات هذه الكوميديا السوداء، إن جاز مجازا توظيف مصطلح كوميديا، ظهور الرئيس بايدن يستطعم بأريحية مذاق الأيسكريم. اللقطة، طبعا غير عفوية أو بريئة، لكنها تحيل بفصاحة على إشارات، في مقدمتها اعتبار إدارته مايجري للفلسطينيين، عاديا جدا، بل وأقلّ من ذلك بكثير ولا يستحق الموضوع أدنى جدِّية تذكر، فإسرائيل ماسكة كما ينبغي لها بزمام أوراش الإبادة، ومن لم يمت بقنابلنا سيموت بموت ضمائرنا، المسألة سيَّان.           

Visited 22 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي