حول التدين المغربي في السياق الأوروبي (3-3)
3)
حوار مع محمد الخطابي إمام مسجد” عائشة” بمونبوليي
حاوره محمد اليوسفي
كيف يمكن أن نفهم كل هذه الفوضى في أنماط التدين لدى الجاليات المسلمة في الغرب وما هي أسبابها؟ هل للأمر صلة فقط بتعدد أصول المهاجرين؟ أم أن للعلاقة بالآخر، بمؤسساته وتاريخه وقيمه دور في تبني أنماط معينة دون غيرها من التدين؟ أليس الدين عموما طريقة لرؤية العالم وتمثله؟ ألا تتشكل الهوية الدينية لدى الغالبية من الشباب في اوروبا كرد فعل على واقع عنف المؤسسات، عن واقع الإقصاء، عن انهيار وتردي القيم؟ ما الذي يجعل التدين يتخذ في المجمل بعدا حركيا غالبا دون سواه؟ومتى تتشكل الهوية الدينية لدى الشباب في الغرب؟ ما الذي يجعل أشكالا معينة من الخطاب الديني قادرة على الاستقطاب في حين تفتقد أخرى للجاذبية؟
في الجزء الأخير من حوارنا مع الأستاذ الخطابي نحاول فهم أنماط أخرى للتدين في الغرب، بعضها أقل ظهورا ويشتغل في الظل ويعتمد أساليب واستراتيجيات مختلفة واحيانا خطيرة، وبعضها أكثر تأثيرا واستقطابا. نتحدث عن الشيعة والتشيع، كيف يشتغلون، أساليبهم، كيف يستغلون حرية التدين في الغرب لاستهداف دول في شمال افريقيا، وكيف يتسربون بصمت إلى الجاليات المسلمة وإلى المؤسسات. نتحدث عمن يسمون “بالأحباش” و”القبيسيات”، وعن التصوف، وجوده ومدى تأثيره… كلها مواضيع نحاول بحثها في هذا الحوار.
-بالنسبة للشيعة وللتشيع هنا في أوروبا، طبعا تأثيرهم وأساليبهم اقل ظهورا في العلن. كيف هي وضعية التشيع هنا في فرنسا وأوروبا عموما؟
* الامر خطير جدا وأنا أدعوك إلى البحث في الموضوع. هناك ارتباط بين المد الشيعي الذي تعرفه أوروبا، خاصة بعض الدول كبلجيكا وهولندا، وبين ما يحصل في المغرب في بعض مدن الشمال. لقد بلغوا اليوم مستوى المطالبة بالحق في مدافن خاصة وحسينيات وان يتمكنوا من إحياء عاشوراء كطقس شيعي وهذا أمر لم يكن ممكنا تصوره في السابق. استراتيجيتهم هي إنشاء أحزاب موالية لهم تخترق العالم الإسلامي.
-شمال المغرب في مقابل جنوب لبنان؟
* شمال المغرب طبعا إذا علمنا أن كثيرا من المهاجرين من شمال المغرب يقيمون ببلجيكا وهولندا. أتذكر احد المساجد في بلجيكا حيث كنت في التسعينات، هذا المسجد المغربي في الأساس أصبح اليوم مسجدا شيعيا بالكامل.
-وبالنسبة لجنوب فرنسا؟
* هناك شيعة في بعض المدن في جنوب فرنسا كتولوز ونيم (Nîmes et Toulouse)، الشيعة متواجدون في هذه المدن وغيرها. لقد كنت حريصا على تعقب أثرهم لتحذير الناس منهم. وبحكم معرفتي بهم وبأساليبهم أستطيع إدراك وجودهم بسهولة من خطابهم. فالذي يخص عليا رضي الله عنه بألقاب معينة دون غيره من الصحابة، والذي يرى أنه الأحق بالإمامة ماذا يمكن تسميته؟
-لكن التشيع كظاهرة عامة غير موجود؟
* لا، إنه ظاهرة. هناك تشيع واسع في مدينة تولوز مثلا، هناك زينبيات وحسينيات، وقد كانوا يجتمعون سرا حيث يحيون عاشوراء فيما بينهم.
– منهم مغاربة؟
* كلهم تقريبا مغاربة. لقد كانت لديهم تسهيلات من السلطات الفرنسية واقتنوا بيتا لإقامة حسينية. إن اعتمادهم للتقية تجعل امر التعرف إليهم صعبا فهم يشتغلون في الخفاء.لقد وصل بعضهم إلى مراكز المسؤولية الدينية وحظوا بتشريفات وأوسمة وتم استقبالهم على أعلى مستوى في دول متعددة.
-هل تتحدثون عن أشخاص متشيعيين ام ذوي ميول شيعية؟ فالتشيع في حدوده الفكرية قد لا يصل لمستوى التشيع السياسي الذي يؤمن بولاية الفقيه مثلا؟
* أنا اتحدث عن أشخاص ذوي مسؤولية دينية مرموقة لديهم قناعات واعتقادات. فالتشيع في اللغة هو الاتباع على وجه التدين والولاء للمتبوع على الإخلاص و أن تقول أيضا أن القرآن الكريم محرف وان الأولى بالخلافة هو علي رضي الله عنه إما نصا أوصفا وأن الخلافة قد انتزعت منه. أنا لا اتحدث عن ولاية الفقيه فتلك تفريعات عن التشيع. هناك فرق أن أرى أن عليا رضي الله عنه أولى بالخلافة وبين أن عليا انتزعت منه الخلافة وان فاطمة ابنة النبي (ص) ظلمت واعتدي عليها وكانت حاملا فأجهضت بسبب أبي بكر(ض) . التشيع الفكري موجود عند بعض فرق الزيدية.
أنا أتحدث عن أشخاص مغاربة متشيعين وليسوا فقط متعاطفين مع الشيعة. هذا موضوع آخر.
– إذن فهو تشيع يمس العقيدة؟
* كل تشيع يتعمق فيه الإنسان يجد أنه قد صار عقيدة. فالتشيع في البداية كان خلافا سياسيا فقط ثم تم تأصيله فاصبحوا يقولون ان القرآن محرف والسنة محرفة فأخذ بعدا عقديا. الفرق بين السنة والشيعة أن أهل السنة يحملون فكرة ويعملون من أجلها بينما الشيعة يحملون ثأرا ودما وهمهم هو الثأر للدم. لذلك فهم دائما في تآمر مستمر منذ بداية الدولة الإسلامية و إلى حدود اليوم كما حصل في دول متعددة. الشيعة همهم هو الإنتقام لعلي ولا يحملون مشروعا فكريا، هم لا يمتلكونه. أنا أقول: اذا كان هناك خطر حقيقي على التدين المغربي اليوم فمنبعه يأتي أيضا من التشيع.
– لأن الخطير هو أن يمتد التشيع إلى الشباب المغربي من أصول مهاجرة ومن ثم ينتقل إلى بلدهم الأصلي؟
* عندما وصلت في الثمانينات إلى كندا وقد كنت في مقتبل العمر، وجدت شبابا يقيمون مجالس دينية وكانوا مقربين من جماعة الإخوان. لم يكونوا يتحدثون أبدا عن منظريهم ولا عن تنظيمهم وقدموني للمنبر ثم وجدت نفسي في خدمة فكرهم. الشيعة لا يتحدثون عن ولاية الفقيه وانما يأتون من باب حب رسول ألله(ص) وحب آل البيت فيكون هذا هو المدخل لدفع الشباب هنا إلى التشيع. يتم هذا بهدوء وبطرق ملتوية وذكية. الشباب في الغرب يعاني مشكلات في الهوية أو ما يمكن أن أسميه (les identités abîmées). إن تحصين تدين الشباب في الغرب يعد من باب الضروريات كما تحدث عن ذلك الإمام الشاطبي في كتابه ” الموافقات”. اي يجب ان تقوي وجوده لتحميه من الفقدان .إن التدين المغربي يأتي في باب التحصين والتحصين هنا لا يتعلق فقط بالسلفية والتشيع بل من جميع التيارات والقيم الهدامة المختلفة.
– كيف يجب أن يكون هذا التحصين؟
* يجب أن نكون(former) أساسا أشخاصا على المستوى القريب والمتوسط لهم تصور شفاف وواضح ولهم القدرة على الخطاب والكلام. اناسا يدركون البعد التاريخي والديني والثقافي للمغرب كدولة وكأمة ممتدة في التاريخ. يجب إيجاد نماذج قادرة على الاستقطاب متشبعة بالتدين المغربي ومدركة لمركزية إمارة المؤمنين وان يكونواعلى معرفة بالسياق الأوروبي بل ان يشكلوا جزءا من هذا السياق. ثم يجب ربط الماضي بالحاضر بتسليط الضوء على تجربة الاسلام في الاندلس ولما لا التفكير في إنشاء مدرسة فقهية ودينية قائمة على المذهب المالكي غلى غرار مع عرف في الأندلس حيث كان للفقهاء آنذاك رصيد فقهي مزدوج وكان يقصدهم غير المسلمين لطلب الإرشاد والفتوى. هل كان هؤلاء الفقهاء يعيشون في مجتمع مسلم خالص؟ طبعا لا. لقد فرض عليهم السياق تطوير أصول الفتوى بما يتماشى مع عصرهم وزمانهم.
– هل يقدم النموذج الديني المغربي في شقه المتعلق بالتصوف بديلا عن التيارات الدينية المتشددة؟ وهل هناك نماذج للتصوف المغربي هنا في الغرب؟
* ما يميز أهل التصوف والناشطين فيه والدعاة إليه أنهم يشتغلون في الخفاء، ليس لهم ظهور كبير ويعملون بهدوء تجنبا للإصطدام بالسلفيين لأن نقيض السلفية هو التصوف والسلفي يجعل من المتصوف عدوا له ويتلذذ بالهجوم عليه ويجد فيه مادة للسخرية لما توفر لدى السلفيين من تراث فقهي ممتد من ابن تيمية إلى غاية الوهابية، إذ لم يكن للوهابية هم إلا محاربة التصوف حتى انهن كانو يرمون الدولة العثمانية بالكفر والفساد لهذا السبب. وهنا في فرنسا لدى المتصوفة حضور لكنه يظل حضورا محتشما وهادئا خاصة من خلال جماعة “الدعوة والتبليغ” ذات النزوع الصوفي بحكم ارتباطها بأقصى الشرق وإن كانت لها معتقدات ماتريدية حنفية من الناحية الفقهية.
أما عن التصوف المغربي فهناك حضور ضعيف للطريقة البودشيشية وحضور مهم لجماعة العدل والإحسان التي -وان كان لها بعد حركي وفكري- لكنها تظل في عمقها جماعة صوفية إذا أخذنا بعين الإعتبار انتماءها الأول والأصول الدينية والروحية لمؤسسها والبلد الذي ولدت فيه. وهنا في مونبوليي(Montpellier) تمتلك قاعتين للصلاة مرخص لهما رسميا وهي أكثر ظهورا ونشاطا. هذه القاعات التي تتوفر عليها الجماعة خولت لها إمكانية الوصول إلى الشباب المغربي وتأطيره دينيا بل وتأطير معتنقين للإسلام من أصول مختلفة. لقد تجاوزت بذلك حدود القطرية وتضم أجانب من دول متعددة.
– لماذا بنظركم تستطيع التيارات السلفية والشيعية اليوم أن تستقطب المهاجرين في حين تعجز عن ذلك نماذج أخرى للتدين؟
* هناك تأثير الإعلام والكتب والمواقع الإلكترونية. فرغم أن السلفية في شكلها الحالي تفتقد للبعد الفكري (la dimension intellectuelle) إلا أن هذا الفراغ والتفاهة في عصرنا لهما للأسف قدرة على الإستقطاب والتوجيه. أما التشيع فيعتمد خطابا عاطفيا بالأساس. اذا استعنت بالذكاء الاصطناعي في باب البحث مثلا عن الخلافات السياسية زمن الرعيل الأول من الصحابة فإن محركات البحث ستقودك مباشرة إلى مواقع شيعية. لقد استثمروا في المعلومة والانترنيت بشكل جيد فما الذي استثمرناه نحن؟!
– في المغرب أيضا هناك بعض القنوات والإذاعات الدينية هل تعتبر كافية بنظركم؟
* انظر إلى أسماء القنوات الشيعية! قناة الكوثر، قناة الصفاء، البلبل، الرسالة وغيرها كثير.. أنت لا تسمع قناة علي (ض) ولا قناة فاطمة ٠هذا فكر يتم تمريره بهدوء. اذا أردت تقوية التدين المغربي فيجب أن تفعل ذلك بذكاء، وان تمتلك منهجية تربوية واضحة لأن الشباب هنا يبحث عن أرض بديلة للغرب وأغلبهم يختار وجهات أخرى. المغرب للأسف لا يوفر هذه الجاذبية. الشباب هنا نشأ على نوع من الحرية والشفافية في الحياة وفي معاملاته الاقتصادية.
واذا كنا قد تحدثنا عن التيارات الشيعية والسلفية فلا يجب أن ننسى كذلك من يسمون “بالأحباش” ذوي المذهب الشافعي وهناك أيضا “القبيسيات” وهو أيضا مذهب شافعي من أصل سوري نسبة إلى “منيرة القبيسي” شيختهم، وهي صوفية على الطريقة النقشبندية. وقد استطاعوا استمالة كثير من النساء المغربيات. كل هذه التيارات موجودة وتشتغل، فماذا سيتبقى للمغرب من أبنائه؟!
– أود أن أثير معكم موضوعا آخر لا يقل أهمية يتعلق بالمساجد وبالجمعيات ذات الطابع الإسلامي في أوروبا. اتحدث تحديدا عن المكاتب المسيرة للمراكز الدينية. هذا أيضا موضوع ذو شجون؟
* لقد أثرت موضوعا غاية في الأهمية. من المسائل التي يجب إعادة النظر فيها بشكل جذري هو مسألة الاعتماد على الجيل الأول في إدارة وتسيير المساجد والمراكز الدينية. فهذا الجيل ورغم ما اسداه في السابق إلا أن كثيرآ من الممارسات السلبية قد تسربت إليه جعلت بعضهم ينظر للجمعيات كأنها ملك له لا يهمهم من ورائها إلا مصالحهم الشخصية الضيقة. يجب أن نفتح المجال للشباب وهذا ما قصدته أيضا بإنشاء الرموز.
– أليس مهما اليوم أن ننتقل من الطريقة المحتشمة في علاقاتنا مع الدول التي تستقبل المهاجرين فيما يتعلق بالتأطير الديني إلى مستوى تكريس النموذج الديني المغربي باعتباره نموذجا منفتحا قابلا للتأقلم والاندماج؟
* هذا يتوقف على من يحاور السلطات الفرنسية. هناك دولة خليجية تمتلك ثقلا ماليا كبيرا ولها معاهدات مع فرنسا، هي من يحاول أن يهيمن اليوم وهي من يملي فهمها للتدين كما تريده.
– هل تمتلك الدولة الفرنسية تصورا واضحا لطريقة تدبير الشأن الديني عندما يتم الحديث عن الإسلام الفرنسي مثلا او عن تكوين الائمة؟
* كل ما يتم تداوله والقوانين التي يتم سنها على مستوى تدبير الشأن الديني هنا ليس قائما على مراعاة مصالح فرنسا بل يخضع لتصورات لا تاخذ بعين الاعتبار خصوصية السياق الديني الفرنسي. فعوض أن تحتضن فرنسا المسلمين والمساجد في منظومة متكاملة وتستوعبهم نراها تضيق عليهم وتغلق اماكن عبادتهم. لقد اختارت فرنسا منطقا متشددا يتنكر لأبنائه وهي بذلك تخلف موعدا تاريخيا مع الإسلام ومع المستقبل.
Visited 179 times, 1 visit(s) today