البحث الجامعي في المغرب.. من قتل عقبة؟
إسماعيل طاهري
سجل سعيد بنكراد، في التسعينات، وجود تجاوزات وتناصات مبالغ فيها وبعض السرقات في بحوث/ أبحاث جامعية يشرف عليها الدكتور حسن المنيعي. بنكراد كان حينها منتشيا بصفة أول دكتور في السيميائيات في العالم العربي. بصنيعه هذا أحرج كثيرا حسن المنيعي. لكن هذا الأخير أوعز عدم انتباهه الى عدم ضبط الإحالات الى المرض الذي ألم بعينيه المتعبتين أصلا وبشكل مزمن لكونه يقرأ كتابا كل يومين في شتى مجالات العلوم والمعرفة..
شجاعة بنكراد كادت ان تحدث صراعا بينه وبين المنيعي على شاكلة ما وقع حينها من وطيس بين الدكتورين محمد العمري وحميد لحميداني التي وصلت الى حد الملاكمة في إحدى مدرجات جامعة ظهر المهراز بفاس، وشهور من النقاش الحاد في الملحقين الثقافيين لجريدتي الاتحاد الإشتراكي والعلم..حول النقد والبلاغة والحداثة والقدامة في تحليل الخطاب، لكن دماثة المنيعي ونباهة بنكراد حالت دون حدوث الوقيعة.
ما كان استثناء في التسعينيات من تجاوزات وسرقات في البحوث صار اليوم عاديا وتجري بذكره الركبان، وتتواتر الأخبار عن ضعف القيمة العلمية لمعظم بحوث التخرج في الإجازة والماستر بل ظهرت عصابات تتاجر في البحوث الجامعية وظهور مستجد النقط مقابل المال او الجنس…وقد أحيل بعضها على القضاء…الخ.
***
وفي هذا الأفق أتساءل: ما الذي يدفع كاتبا روائيا مغربيا الى التشكيك في مصداقية البحث العلمي الجامعي في المغرب؟
أليس من السريالية بمكان، أن يقول الروائي عبد الكريم الجويطي ان باحثة في الماستر أعدت أطروحة حول روايته “المغاربة” دون أن تقرأها بل أنها لم تقرأ رواية أخرى، وقد تعين كأستاذة جامعية في الرواية بدون أن تقرأ رواية في حياتها.
هل وصلنا فعلا الى هذا المستوى؟..فمن قتل عقبة؟
لا أريد أن أتحدث عن المستوى المتواضع لبعض أساتذة الجامعة وعجزهم البنيوي عن الإنخراط في البحث العلمي كانشغال شخصي وهم ذاتي بغض النظر عن موقف الدولة من البحث العلمي خصوصا في مجال العلوم الإنسانية.، فالأساتذة الجامعيون وأساتذة مراكز تكوين مهن التربية والتكوين وكذا مفتشو التعليم هم بالأساس أساتذة/ طلبة باحثون مدى الحياة. ولكن، ويا للأسف الشديد، فالأغلبية الساحقة منهم لا تقوم بهذه المهمة لأسباب ذاتية وموضوعية.
ولا حاجة للتذكير بكون أكثر من 56 في المئة من أساتذة الجامعة المغربية لا يكتبون مقالات علمية طيلة مسارهم المهني حسب المندوبية السامية للتخطيط، وهذه فضيحة بجلاجل. وكان الطلبة يسخرون من هؤلاء الاساتذة بنعتهم ب” البناؤون” ( مع حفظ الاحترام والتقدير لممتهني البناء) ونعتوا بالبنائين لأن عملهم هو القاء محاضرات مكرورة لسنوات طويلة دون اجتهاد أو تحيين للمعطيات والمراجع والمصادر والمفاهيم المستجدة. وقد ازداد هذا النعت ارتواء عندما علم جيلي من طلبة التسعينات بمكناس أن أحد الأساتذة يشتغل مقاول بناء فعلا ” طاشرون”.
هذا المناخ الموبوء الذي يتخبط فيه التعليم العالي المغربي والذي بفظله يحتل الرتبة شبه الاخيرة في العالم (154) ناتج عن سنين من الإصلاحات الفاشلة الى أن تعقدت الأمور بعد تغير منظومة القيم في المجتمع بشكل جذري. فبعد أن كان الرسوب في امتحانات الباكالوريا في الستينات والسبعينات والثمانينات قد يدفع بعض المرشحين الى الانتحار، صار اليوم التهديد بالانتحار (او الانتحار حتى) يرتبط بحرمان المترشحين من الغش في الامتحان وكأن الغش/ الفساد صار حقا ساميا من حقوق الإنسان يعلو حتى على الحق في الحياة. كما حدث بمدينة أسفي حيث أقدمت تلميذة على الانتحار مباشرة بعد ضبطها متلبسة بالغش في اختبار الباكالوريا الخاص بمادة اللغة العربية، وتم طردها من قاعة الامتحان، وما ان غادرت المؤسسة حتى أقدمت على الإنتحار أمام ذهول الجميع.
وهذه الواقعة وغيرها مؤشر على التغير الحاصل في منظومة القيم بالمجتمع المغربي وهذا يحتاج الى دراسات علمية عميقة من زوايا مختلفة ومن تخصصات مختلفة في مجال العلوم الانسانية خصوصا علم الإجتماع وعلم النفس للبحث عن حلول جذرية لانتكاسة القيم النبيلة في المجتمع المغربي.
***
في التسعينات من القرن الماضي عاشت كلية الآداب بمكناس أزهى أيامها في النقد الأدبي والمسرح والتاريخ وحتى في الدراسات الاسلامية بريادة الراحل فريد الأنصاري. وكان الطلبة لا يخطؤون كثيرا في تقييم أساتذتهم ويميزون بين “الأساتذة البناؤون” والأساتذة الباحثون بحق وحقيقة مهما كانت ميولاتهم الأيديولوجية ومرجعياتهم الفكرية.
لكن الطلبة أيضا يميزون بين الطلبة المناضلين في أوطم والطلبة الكازونيبن نسبة الى عشب الملاعب الرياضية Le gazon الذين حولوا الجامعة الى فضاء سياحي ويمتفون بحضور بعض المحاضرات وحفظ مطبوعات الأساتذة والحصول على شهادة الدراسات الجامعية أو الاجازة بميزة ثم وظيفة.
وفي مجال البحث العلمي للتخرج في الإجازة ظهر نوع من طلبة “السودور”/ التلحيم الذين يعمدون الى تجميع ” الجذاذات” وتلحيمها لاعداد فصول البحث الجامعي وحتى تلك الجذاذات تؤخذ من الاستشهادات المستخرجة من أبحاث أخرى أو كتب. ولا يحترمون إلا بعض شكليات البحث العلمي، بينما تغيب “الروح النقدية” عن هذه الابحاث التي لا تتجاوز 50 صفحة على العموم.
وقد انتشرت هذه الظاهرة الغريبة بين الطلبة الذين يشرف على أبحاثهم /بحوثهم الأساتذة ” البناؤون”. ولم تصل نهاية التسعينات حتى دب الترهل في المستوى العام للبحث العلمي في كلية الآداب بمكناس بل تراجع مستواها. وهي الكلية التي لم يمض على افتتاحها عقدا من الزمن حتى باتت تنافس- عن جدارة واستحقاق- كليتي الآداب في فاس والرباط.
وحسب المعلومات المتواترة من أجواء البحث العلمي في الجامعة فالأساتذة البناؤون وطلبة التلحيم/ السودور باتوا يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمع الجامعي في الوقت الراهن.
والمثير في القصة هو أن طلبة “السودور” من أهل “بضاعتنا ردت إلينا” هم الذين يتقلدون كراسي البحث في الجامعة اليوم علاوة على المناصب الإدارية العليا بها.
لنعد مرة أخرى الى سعيد بنكراد، لنرى ماذا قال عن أجواء البحث العلمي في الجامعة؟ ولماذا انسحب من الجامعة في عز عطائه العلمي والفكري. ونفس الشيء ينطبق على سعيد يقطين وآخرين.
كما أتساءل لماذا حرق عبد الفتاح كليطو جميع محاضراته التي ألقاها لعقود في الجامعة؟
فلا غرابة من احتلال الجامعة مراتب متقدمة من الخلف والتخلف بين الجامعات الدولية.
– قد يقول قائل أن ما حدث مخطط دولة.
– هذا صحيح..
ولكن لماذا ضعف المشاريع البحثية الشخصية الذاتية لمنتسبي مجتمع الجامعة؟
لماذا تسربت مظاهر التفاهة الى الجامعة المغربية؟
اليس الجامعة في قلب نظام التفاهة كما كتب المفكر الكندي ألان دونو ؟
***
عندما سئل المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري عن التعليم العمومي المغربي، لم يتردد في تسجيل العديد من أفضاله رغم الأزمات البنيوية التي رافقته منذ الاستقلال. وافتخر صاحب كتاب ” نقد العقل العربي” بكونه من خريجي التعليم العمومي في المغرب. والمفكر الجابري كان معلما ثم أستاذا للتعليم الثانوي قبل ان ينتقل الى الجامعة أستاذا محاضرا.، وهذا ما حدث مع العديد من الأعلام كأحمد السطاتي وعبد الكبير الخطيبي وعبد السلام حيمر…واللائحة طويلة وكان تغيير الإطار والانتقال من السلك الثانوي الى السلك الجامعي شبه أتوماتيكي، وشكل أساتذة الثانوي قاعدة هامة لهرم التعليم الجامعي في المغرب قبل أن تحدث القطيعة منذ التسعينات عندما انسد أفق الجامعة ولم تعد تقبل بسهولة أساتذة الإبتدائي والثانوي الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا او دكتوراه الدولة رغم حضورهم القوي في المشهد الثقافي المغربي والعربي. ولجأت الدولة الى ضخ بعضهم في مراكز تكوين المعلمين وأساتذة الإعدادي والثانوي للتخلص منهم، وانتظروا طويلا قبل أن يدرجوا إداريا كأساتذة التعليم العالي مع صيغة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين. وظلوا عمليا خارج دائرة البحث العلمي في التخصصات التي حصلوا فيها على الدكتوراه. وقليل منهم من انتقل للعمل في كلية علوم التربية في الرباط.
فلو دخل العديد منهم الى الجامعة لارتفع مستوى البحث العلمي ولا حاجة للتذكير ببعضهم من قبيل عبد الكريم برشيد وحسن اليوسفي في المسرح أحمد بن الشريف في النقد او الراحل محمد الفتوح في النقد الجمالي والسينما او يحيى بن الوليد في النقد الثقافي او محمد أمنصور في السرديات.أو عبد السلام الموساوي في الشغر والنقد…واللائحة طويلة.
خلال الاتفاقات الناجمة عن الحراك التعليمي الأخير سيتم خلق إطار أستاذ باحث لأكثر من 500 دكتور في مرحلة أولى يدرسون في التعليم المدرسي (الابتدائي والثانوي) فيما يشبه التحنيط والإعتقال، والحال أنه يجب إلحاق حاملي الدكتوراه مباشرة بمراكز البحث العلمي ومختبرات الجامعات حتى تتمكن هذه البلاد من الرفع من مستوى البحث العلمي والاستفادة من انعكاسات ذلك الإيجابية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلد.