الدولة الفلسطينية وشلَل المنظومة الدولية.. حوار بين ريجيس دوبري وليلى شهيد
ترجمة: سعيد بوخليط
بين طيَّات صفحات مجلة ”إنسانية الحوارات”، الصادرة يوم 26 أبريل 2008، يتناقش ليلى شهيد، ممثِّلة منظمة التحرير الفلسطينية لدى الاتحاد الأوروبي في بروكسيل، وريجيس دوبري، الكاتب والمختص في علم الميديا الذي يستند على منهجية تحليل عمليات الانتقال الثقافي، ودراسة العلاقات بين الموضوعات الرمزية، وأشكال التنظيمات الجماعية وكذا الوسائط التقنية.
لم يغفل ريجيس دوبري، حقيقة هويته الفلسفية بالتالي اختار عنوان: ”بريء على أرض مقدَّسة”، لكتابه الصادر عام 2008، عن دار غاليمار. وقد أهدى خلاصة صفحاته التي بلغت أربعمائة وخمسين صفحة إلى صديقه القديم فرانسوا ماسبيرو، الذي أوحى له بفكرة هذا التحقيق الصحفي ”حول خطوات المسيح”، وكذا جاك شيراك الذي كلَّفه بالمهمة الدقيقة، المتمثِّلة في دراسة ”التعايش الاثني-الديني” في الشرق الأوسط.
اقتفى ريجيس دوبري أثر، الإنجيليين وكذا فلسطين،ولم يعثر ثانية سوى على ذكريات.اختفى بعضهم بحكم الزمان، وتحطَّم البعض الثاني نتيجة تداعيات الاحتلال والاستعمار بحيث عاين المحو التدريجي والقاسي، لأرض بوسعها أن تصير فلسطين ذات يوم. بينما ينبغي لنا خلال هذه السنة إذا صدقنا كلام السيد جورج دبليو بوش، ترقُّب الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية الموعود بها من طرف الأمم المتحدة منذ سنة 1947، لاحظنا في المقابل تجسيد وعد الحركة الصهيونية، واحتفالها شهر مايو بمرور ستين عاما على ظهور إسرائيل. إذن، ربيع إسرائيل، بمثابة ”نكبة” للفلسطينيين.
نتيجة خضوعها لضغط عسكري مستمرٍّ من طرف إسرائيل، تتجلى معالم تقويض مرتكزات الدولة الفلسطينية، اقتصاديا وإنسانيا. هل لازال يوجد مكان في فلسطين بخصوص قيام دولة فلسطينية؟ جوابا على هذا السؤال الإشكالي، انصبَّ حديث ريجيس دوبري وليلى شهيد.
س – حينما نغلق كتابكَ ”بريء على أرض مقدَّسة”، نجدنا أقرب إلى الإحباط المطلق بخصوص مستقبل الفلسطينيين.سافرتَ سنة 2006 إلى عين المكان، بالتماس من جاك شيراك.خلُصت الدراسة التي أنجزتها إلى ملاحظة قاسية: ”تتلاشى الأسس المادية والاقتصادية والإنسانية، الممكنة للدولة الفلسطينية”. أيضا قلت: ”منذ سنة 1938، كشفت الإدارة البريطانية عن ملاحظتها بخصوص استحالة إنشاء دولتين في فلسطين”. إذن، مختلف هذه الصراعات، ومخطَّطات السلام، بدون جدوى؟ هل تتفق ليلى شهيد ممثِّلة منظمة التحرير الفلسطينية في بروكسيل، مع هذا التشخيص؟
ريجيس دوبري: حينما كتب فرانسيس سكوت فيتسجير، في مجموعته القصصية المعنونة بـ”تصدُّع”: ”يجدر بنا استيعاب أنَّ حيثيات الأشياء بدون أمل، لكن رغم ذلك فقد تحدَّد قرار تغييرها”.صحيح، اكتشفت ثانية هناك بعد مضيِّ سنوات في تحليل خرائط دقيقة نتيجة عمل رائع أنجزه جغرافيو الأمم المتحدة، بحيث لاحظت تطبيق مخطَّط قيد التنفيذ، بدون ضجة ولا صحفيين، يرتكز ببساطة الذهاب غاية الحدود التي تشكِّل آنيا حدود الدولة الإسرائيلية : نهر الأردن.هكذا توسع، ليس ميكيافيليا، لكن بكيفية مرة حيوية، عفوية، حتمية، استيطان مضاعف على مستوى أشغال البنيات التحتية، الاستئثار بالماء، احتلال المرتفعات، الاتصالات بين مستوطنة وأخرى، مستوطنة عشوائية اكتست بسرعة شديدة طابعا رسميا.باختصار، سيرورة بمثابة لفافة ضاغطة لا تتطابق تماما مع الصورة التي لدينا خارجيا. أمام هذه الحقيقة، وجدتني أمام الصعوبة التالية: هل يلزم إتاحة المجال لهمهمات الدبلوماسية-الإعلامية كي تخبرنا بأنَّه ”في غضون سنة سنكون أمام دولتين” وبأنَّ ”مؤتمر أنابوليس ينعش الأمل نحو السلام”، ثم ”نحن في فرنسا، مدعوون إلى وقف المستوطنات”، هل يلزم ترك هذا التمويه سائدا، أو الإقرار بالحقيقية مثلما هي؟ أعتقد، أنَّ الاستكانة لهذا التضليل، يعكس وضعا محبِطا يعني الإقرار بثنائية لعبة تمارسها حكومة تسعى تتوخى التوافق على الصعيد الخارجي بيد أنها عنيدة داخليا ثم أيضا ثنائية لعبة يمارسها الغرب قوامها الاستسلام للأقوى بالعمل على حمايته عبر سلسلة إعلانات مهدِّئة.في نفس الوقت، هل يلزم تمزيق ستار التمويه والمجازفة بتثبيط هِمَّة أصدقائنا الفلسطينيين وإحباطهم؟ هي معضلة.شخصيا، أكتب من أجل رأيي العمومي، والفرنسي والأوروبي، ولا أريد منهم التمسك بتقديرات خاطئة.
ليلى شهيد: عدتُ قبل شهر من فلسطين بعد غياب دام أربع سنوات، وقد صعقت جدا، وأصابني الانهيار، وأنا أعاين مدى تراجع الأمور. أحسست بأنه في غضون أربع سنوات، صارت الأوضاع تقريبا متدهورة. بداية بالقدس التي افتقدت راهنا إلى وجود يؤكِّد بأنها مدينة عربية فيما يتعلق بجانبها الشرقي، ثم إسرائيلية غربا.تعتبر منطقة امتداد الحائط الأكثر تنفيرا وصعوبة بخصوص إمكانيات العيش، هكذا صارت القدس. كل البناء بالخرسانة. نصادف أحيانا في مكان آخر، على امتداد سبعمائة كيلومتر، سياجا شائكا.عندما نستعيد ذاكرة القدس، العاصمة الحضرية التي كانت سنة 1967 حيث فاقت مساحتها ستين مرة، كان بناؤها إسمنتيا وارتفاعها لايتجاوز تسعة أمتار. الملاحظة الثانية، التي أريد الإدلاء بها تشير إلى اتساع المستوطنات في القدس الشرقية وباتت تشغل حيِّزا كبيرا جدا، توثِّقه مختلف المعطيات، لاسيما الواردة من طرف منظمة ”السلام الآن” التي هيَّأت عملا مهمّا حول المستوطنات بعد تحقيق ورصد.ينطوي التقليد الصهيوني على فرض الأمر الواقع،هكذا تتخلّص إسرائيل من ضرورة التفاوض حول وضعية القدس.نتيجة تطورات من هذا القبيل، لن يعود هناك شيء للتفاوض حوله.المسألة الثالثة التي صدمتني كثيرا،تكمن في توسع نطاق التقاطعات الطرقية بهدف ضمِّ ما نسميه ”الطريق الدائري”، محيط القدس، والذي يربط عمليا جلّ أطراف المدينة على مستوى النقل العمومي وكذا المساحة.مفترقات الطرق تلك، تخدم فقط المستوطنات. لا يوجد منحدر وحيد يفضي إلى بيت حنينا أو صوب أي ضاحية في القدس الشرقية. عزل القدس عن الضفة الغربية وكذا الأراضي المحتلة، بمثابة أمر واقع : لم يعد بوسعنا قط التحدث عن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. أخيرا، هناك توضيح يهم الفرنسيين خاصة، بسبب تورُّط مقاولاتهم (شركة فيوليا وكذا ألستوم)، في مشروع للترامواي يصل بين مستوطنات القدس الشرقية مع إسرائيل، منتهكين جراء ذلك مختلف قواعد القانون الدولي. بخصوص باقي الضفة الغربية، فقد لاحظتُ توسُّع المستوطنات حول مستوطنة أرئيل وإيمونيم،عمليا غاية البحر الميِّت، تمدُّدُ مستوطنة غوش عتسيون يعني بأنه بقيت فقط ثلاث كيانات منفصلة تماما: بانتوستان الشمال والوسط وكذا الجنوب، التي لاتصلح إقليما للدولة.عندما نطرح ذلك على المسؤولين الإسرائيليين، الأكثر جدِّية في العالم، سيجيبون بأنهم يتطلَّعون نحو بناء أنفاق تحت المستوطنات وكذا جسور فوقها، قصد احترام الرسالة التي انطوت عليها الاتفاقيات: تواصل الإقليم. الجواب كافكاوي حرفيا لكنهم يقولون ذلك على محمل الجدِّ.ساكنة فلسطين، أول من لاحظ هذه الحقيقة، بحيث لا يعترفون أبدا بَصَريا بالمشهد المحيط بهم. تنبثق كل يوم مستوطنة جديدة ”جرداء” فتصبح رسمية، ثم تكتسي وضع مدينة، كما الشأن مع مستوطنتي أرئيل أو إيمونيم. تنساب هذه الملاحظة، على لسان أغلب المواطنين، ولا أقول مسؤولي السلطة الفلسطينية. لأنه إذا وجب على المسؤولين الإقرار بعدم وجود المرتكزات الإقليمية لدولة، يلزمهم حينها التوقف عن التفاوض، أو تبنِّي استراتجية أخرى.
س – توقَّعتَ بين صفحات تقريركَ، ضمّ مجموع الأراضي المحتلة منذ الآن وعلى امتداد ثلاثين سنة.كما أوضح مرة أخرى سري نسيبة رئيس جامعة القدس، في كتابه الأخير بأنَّه سيصدر ذات يوم رسالة علنية تطالب إسرائيل بضمّ الأراضي الفلسطينية، يضمر في نهاية المطاف، حسب قوله، امتلاك الفلسطينيين نفس الحقوق المدنية التي يتمتع بها الإسرائيليون ثم تسوية المشكلة، في خضمِّ ازدياد النمو السكاني الفلسطيني.هل التسوية ذاتها التي تصورتها؟
ريجيس دوبري: ليس نفس التصور لأني لست برجل سياسي ولا دبلوماسي، ولا أستشرف كذلك المستقبل، لأنهم يسيئون التقدير في أغلب الأوقات !ما قلته، ما نشاهده وننعته بالمناسبة تطهيرا عرقيا تقريبا ناعما، لكن بإتقان، لأنه بمثابة تجلٍّ لحقيقة معينة دون النطق بكلمة، متواصلة وغير مرئية في الوقت ذاته. إشكاليتي غير متحجِّجة بأشياء متخيَّلة، لكنها مثلما قالت ليلى تستند على معطيات حالة مكانية قائمة. تتوفر الأمم المتحدة على بيانات يومية تقريبا من عين المكان، موضوعية تماما ودقيقة. ينصبُّ السؤال الذي أطرحه، بمستقبل الفلسطينيين وكذا السلطة الفلسطينية. يستلهم اقتراح سري نسيبة جوهريا، دولة مزدوجة القومية، يرفضها الإسرائيليون. يمكننا استيعاب رأيهم، لأنَّهم خلقوا هذه الدولة كي يصير لهم مكانا معينا يشكِّلون داخله أغلبية والتخلُّص من وضعية كونهم أقلية تعود إلى الإمبراطور تيتوس. بالتالي، ندرك في نهاية المطاف، رفضهم أن يصيروا مرة أخرى أقلية. منطق المشروع الصهيوني نفسه، يستبعد حلّ دولة ثنائية القومية، أو تفقد الصهيونية معناها.المثير بالنسبة إلي، الصمت الذي تعاينه السلطة الفلسطينية والتي حيال سياق شاذ، تجابه مسلكين محتملين: الأول، أنصهرُ، وأعيدُ لكم المفاتيح ثم تطبيق اتفاقية جنيف رقم 4، التي تنصُّ على أنَّ من يحتلُّ بلدا يلزمه تحمُّل مسؤوليات إدارته بمعنى تأدية أجور الموظفين، المستشفيات، الطرقات، المدارس.على الأقل، خيار يميزه الوضوح، لأنه يضع مختلف الأطراف وسط مأزق. الطرح الثاني، يكمن في إرسال خرائط المنطقة إلى جورج بوش، ساركوزي، وكذا توني بلير وإخبارهم بما يلي: “سنتوقف عن الاستمرار في اللعب. لا نملك دائما وسائل التصدي لمختلف ذلك، لكننا على الأقل واقفين وواضحين.نرفض موقفكم الكوميدي.تتكلمون عن منظورات ليست واقعية.تنصحون الإسرائيليين باتخاذ إجراءات معينة، سيقولون “نعم” بتحريك رؤوسهم ثم يفعلون العكس تماما. أنتم غير مدركين لما يجري فعليا، لذلك تتحمَّلون مسؤولية انتهاك يومي للقانون الدولي مما يزيل عنكم صفة تمثيل هيئة إشراف محايدة. لقد انحزتم إلى جانب دولة، نتيجة أسباب خاصة بها ويمكنها أيضا الاستطراد في تقديم تأويلات، مادامت تعتبر نفسها فوق القوانين”. ما أجده مربِكا حينما تكون ضمن زمرة أصدقاء القضية الوطنية الفلسطينية- مثلما الشأن مع القضية الإسرائيلية سنة 1946– هذا الإقرار ليس فقط بتجاهل العدالة، لكن أيضا استمرار تضليل الرأي العام وكذا تنويمه. الإفراط في ذلك ، يجعلنا طرفا متورِّطا، كما لو أننا لانعلم شيئا عن حقيقة مايجري، ثم هناك مفاوضات بين طرفين متساويين وبحسن النية. ها هي الأسئلة التي بدأ كثير من الفلسطينيين يطرحونها،وليس فقط جماعة حماس، وكذا العديد من الأشخاص المطَّلِعين، مثل السفير ستيفان هيسل.
س – ماذا تعتقد ليلى شهيد؟
ليلى شهيد: أتفق مع عدم مصداقية مسار المفاوضات اليوم، قياسا لما كانت عليه بين سنوات 1993-2000 يلزمني الإقرار، بتوقُّف المفاوضات منذ صيف 2000غاية أنابوليس، تقريبا لمدة سبع سنوات.لم تستأنف رسميا سوى بعد لقاء أنابوليس لكن دون تقدم.الحقيقة، أنها تراجعت كثيرا.صحيح، تتبدى إمكانيتان :إما تلوِّح السلطة التي تدير المفاوضات يعني محمود عباس، بالعبارة التالية: ”إنها فعلا مهزلة تدفعني إلى التشكيك في مصداقية كل المسار، بالتالي لن أبرح منزلي”، ثم تعهد بالملف إلى هيئة دولية يتضح جليا بأنها غائبة. أما، الموقف الثاني، فتعبِّر عنه وتجسِّده ملاحظته القائلة: “لم تُجْدِ المفاوضات نفعا، نحتاج إلى استراتجية جديدة، عسكرية، سياسية، انتفاضة شعبية، شيئا ثانيا”. بمعنى وضع نقطة انتهاء إلى مسار استراتجية أوسلو، حيث كان محمود عباس مفاوضا أساسيا. لماذا لم يبادر إلى هذا ولاذاك؟ لا أعتقد بأنَّ السبب مصدره افتقاد الشجاعة أو لم يعبِّر عن نفس الملاحظة التي أفصحتُ عنها، بل فعل ذلك، ثم اليوم الذي يعلن عن الموقف عموميا وعلانية، ستتوقف آنذاك المفاوضات ويلزمه تسليم الملف إلى طرف ثالث. لكن من هو؟ لقد برهنت الأمم المتحدة عن عجزها بخصوص القيام بواجبها والمجموعة الدولية متواطئة كليا مع الاحتلال للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية. يتجلى عجز فيما يتعلق بالتعامل مع إسرائيل كدولة ينبغي لها احترام القانون.للمرة الأولى في العالم، تذهب دولة معينة بعيدا على مستوى انتهاك القوانين في ظل انعدام صيغة ملموسة للضغط على إسرائيل عمليا بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، واقتصادية ثم سياسية.أعتقد بأنَّ السبب المباشر لما يبدو تقريبا كـ”تورُّط”- ريجيس دوبري من وظَّف هذه الكلمة، وليس أنا- يعكس ضمن إحدى جوانبه مسؤولية المنتظم الدولي الذي لم يترك إمكانية أخرى للإدارة الفلسطينية. يحضر لدى الفلسطينيين شعور عميق بأنهم في موقع مواجهة مباشرة وشاملة مع إسرائيل.يسود وعي ملحٌّ بتخاذل المنتظم الدولي حيال القضية الفلسطينية بحيث لا يطالب قط بتطبيق القرارات الصادرة، ابتداء من القرار 242 الذي يرفض الاستحواذ على الأراضي بالقوة. قرار يشتغل فقط، حينما يتعلق الأمر بالبلقان، وتيمور الشرقية، وكوسوفو، ثم باقي أمكنة العالم، بينما يحدث التَّراخي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. إذن، يمكنها التملُّص من كل الواجبات نتيجة علاقتها التاريخية مع أوروبا. مفارقة تخلق الالتباس- أشدِّد على هذه الكلمة- بأنه لا يوجد سلام خارج إطار الحوار المباشر مع الإسرائيليين، في خضم علاقات قوى غير متوازنة تماما وظِّفت ليس فقط من أجل تغيير الحقيقة، لكن الأفظع قصد التشكيك في مصداقية الذين اختاروا التعايش مثلما أتطلَّع.فيما يخصني، ياسر عرفات رجل تاريخي بالنسبة إلى الفلسطينيين، كما الشأن مع الإسرائيليين. ليس لأنَّ أوسلو شكَّلت لحظة تفاوض جيدة بل لم يكن الأمر كذلك، لكن عرفات جعله شعبه يتبنى فكرة التعايش. مما يعني، استساغة شرعية إسرائيل وجعلها مقبولة من طرف كل العرب.حاليا، افتقاد الثقة في مسار السلام يحدث أيضا نفس التأثير على مفهوم التعايش. أمام العمى الشامل الإسرائيلي، فالاختيارات التي تمتلكها السلطة الفلسطينية ليست عديدة جدا. الاختيار الثاني، يفضي نحو إغلاق صفحة المفاوضات المفتوحة منذ سنة 1993، لأنها لم تؤدي إلى نتيجة. وقد أفصح محمود عباس عن رغبته كي يبادر إلى فعل ذلك خلال نهاية السنة، إذا لم يتحقق تغير.
س – هل توجد استراتجية أخرى، وشكل آخر للصراع السياسي بل والعسكري؟ أعتقد بأنَّ مكمن الصعوبة في التحدي الذي تمثِّله حماس، الرافضة منذ البداية، طريق التفاوض. بالتالي، فالإعلان عن انسداد أفق التفاوض، يعني الإقرار بنجاح حماس. لا يبدو ذلك سهلا. يشكِّل تفكيك السلطة الفلسطينية انعداما تامّا لحسِّ المسؤولية، فهل سيُعهد بالشعب الفلسطيني إلى الإسرائيليين؟
ليلى شهيد: نتيجة هذين السببين، تواصل السلطة الفلسطينية ضمن سبيل قد يُؤَوَّل بكيفية سيئة يثير تساؤلا كبيرا لدى الساكنة، لكن أيضا عند أصدقاء فلسطين. يسود المجتمع الفلسطيني تساؤل بخصوص إعادة تحديد خطوات الاستراتجية المطلوبة. كما لو أنَّنا استكملنا حقبة. يجدر بإسرائيل تحمُّل مسؤوليتها وقد أنهت هذه الحقبة التي تعود بدايتها إلى سنة 1993 ومنحها الشرعية للمرة الأولى بعد خمس وأربعين سنة. إذا انعدم الأمل في إمكانية وجود دولة فلسطينية، ستتلاشى مختلف هذه المكتسبات وانفتاح طور جديد لايمكن لأيِّ شخص استشراف خطوطه العريضة.
س – هل بوسع فكرة ريجيس دوبري الداعية إلى انتشار قوات الأمم المتحدة في القدس تغيير شيء ما؟
ريجيس دوبري: سخيفة ظاهريا، لكنها ضرورية من الناحية القانونية. لم يضع ميثاق الأمم المتحدة لمقرِّه عنوانا دائما. فإذا قرَّرت أغلبية الجمعية العامة، يستحيل حينها اعتراض مجلس الأمن. تعود للفكرة إلى لويس ماسينون، عندما أحسَّ سنة 1937، بأنَّ عصبة الأمم التي تشبه الأمم المتحدة حاليا- مجرد شيء لاغير حسب تعبير ديغول- افتقدت للفاعلية المطلوبة على مستوى وظيفتها. لقد طرح إمكانية إنعاش دورها عبر الانتقال بها إلى القدس مستشعرا، طبيعة الصراع الذي سيتركَّز حول فضائها.غير أنَّ الأمريكيين لم يبدوا اهتماما بالفكرة، لأنهم يسيطرون على الأمم المتحدة بواسطة وسائل مختلفة، كالاختراق، نظام التصنُّت، ثم مختلف الضغوطات على الدول الفقيرة. إسرائيل بدورها، لا تتمنى الاهتمام بتصورات من هذا النوع مادامت تعتبر نفسها دولة فائقة السيادة، وترفض تدخل المجموعة الدولية في شؤونها، من ثمَّة يغدو بالنسبة إليها مزعجا حضور القوات الأممية إلى مجالها.لكن على المدى البعيد، ستتجلى قيمة فيزيائية لدى كل بلدان العالم بضرورة استتباب السلام انطلاقا من مقرِّ تواجد هيئة الأمم المتحدة. يضمن ذلك وضعا آمنا لإسرائيل خلال فترة طويلة، ثم نقطة توازن تضمن الحياد: ليس سليما أن يكون مقرّ المنظمة المكلَّفة بحماية القانون في مكان يجسِّد أصل العنف، ذلك أنَّ المصادفة القائمة بين عاصمة امبراطورية وأخرى للقانون الدولي، فاسدة في جوهرها.
ليلى شهيد: أجدها فكرة ممتازة؛ لم تحضر ذهني سابقا. لكن إذا عجزنا على مستوى تحويل مقرِّ الأمم المتحدة، يمكننا مقابل ذلك العمل على جعلها منخرطة أكثر فأكثر. لم نستخلص الدروس من الإخفاقات. هناك نزوع قوي كي ينسبوا الفشل إلى الفلسطينيين، لاسيما خلال هذه الفترة. إظهار العجز عن مواجهة إسرائيل، بناء على مبرر المسِّ بسيادتها بينما يختلف نفس المنطق مع الآخرين، معناه وجود مشكلة مرتبطة بقوتين، ومقياسين. هل بوسعنا الحكم على الأمم المتحدة بكونها مجرد شيء، لا غير؟ لكننا أخفقنا في العثور عن بديل لها. إذا توخت إسرائيل ضمّ مختلف الأراضي، فستجد نفسها أمام خمسة مليون فلسطيني ويلزمها تدبير الوضعية على جميع المستويات، بما في ذلك الأمن. ربما، تحتاج في يوم من الأيام إلى الأمم المتحدة قصد التخلص من هذه ”الفوضى” التي خلقتها لنفسها.
ريجيس دوبري: ينطوي موقف الإسرائيليين على دافع انتحاري، بعضهم يدرك ذلك بوعي. منذ فترة قليلة، التقيت أبراهام بورغ (الرئيس السابق للكنيست)، وهو من الشخصيات التي تستشرف منظورا بعيدا. إحدى دواعي التمسك بالأمل، حضور عقليات حرَّة داخل إسرائيل، أشخاص يمتلكون ثقافة وشجاعة كبيرتين، ويدركون بأنَّ سياسة القوة ليس فقط غير شرعية بل ستأتي بنتائج عكسية وتفضي في النهاية إلى الضعف.هناك كلمة لم نشر إليها، أقصد المحرقة. إسرائيل دولة مسموح لها بكثير من السلوكات اللاشرعية. لماذ؟ مادام السياق برمته يعكس لدى الغرب ندما و خطأ. شعور بالتزام معين، وردِّ تكلفة دين بخصوص الهولوكست، ربما ليس أبديا، لكن لم ينته غاية الآن تسديد التكلفة. إطار يمنح إسرائيل وضعا وجوديا يجعلها في مرتبة الضحية. أن تمارس ضغطا على إسرائيل، يعني الظهور بطريقة معينة متواطئا في جريمة ضد الإنسانية. أوروبا مشلولة لأنها تنطوي على الإحساس بذنبٍ كبير.جدير بالذكر، أنَّ الدول التي لم تختبر تاريخيا الترحيل ولا الشارة الصفراء، أكثر موضوعية وشجاعة. بناء عليه، صُدِمت جدا من موقف الكنيسة الأنجليكانية قياسا إلى باقي الكنائس المسيحية. بلدان الشمال الأوروبي وكذا إسبانيا، ثم مختلف البلدان التي ليست لها هذه السمة المشينة خلال ماضيها، التي تذكِّرنا كل يوم، من خلال أجهزة المذياع، التلفيزيون، الجريدة، بتلك الوقائع التاريخية المحيلة على مضمار باريس ”Vel ‘d’Hiv ” وكذا حكومة فيشي. نسق يمنح إسرائيل مناعة ليس بوسع أيّ شخص التجرُّؤ على اقتحامها.هذا بالنسبة إلى أوروبا، أما أمريكا، فهي مستعمرة روحية للشعب اليهودي، تنطوي عليه جينات أمريكا ضمن التشكُّل التاريخي للولايات المتحدة الأمريكية. يحكم أوروبا عجز نفسي قصد اتخاذ المبادرة، مثلما تعاني أمريكا نفس العجز من الناحية اللاهوتية.يجسِّد الطرفان معا، المجموعة الدولية. بما أنَّ الحالة كذلك، فلا يمكن انتظار شيء كبير من الخارج. فقط إذا قام فلسطيني أمام المنتظم الدولي وبدأ يصرخ: ”نعم، هناك محرقة، إنَّها جريمة لا تغتفر، لكن هل نحن من سيكفِّر عنها، ولم نقترفها أصلا؟ ثم هل تبرِّر جريمة ضد الإنسانية جرائم حرب دائمة؟أعتقد بضرورة زعزعة الرأي العام الدولي. العمل الذي أداه ياسر عرفات نحو شعبه وكذا العالم العربي، يجدر بفلسطينيٍّ ثانٍ القيام بنفس الدور تجاه الوعي الدولي، كي يضعه أمام مِرآة كلامه المنمَّق واختبار جديته، حسب مضمون العبارة التالية: ”هل تمثِّلون القانون أم لا؟ إذا لم تحترموا ماتدعونه، فلتتوقفوا عن اتخاذ قرارات. وانفضُّوا عنا”. ينبغي التحلِّي بشيء من الراديكالية كي تبدو واقعيا، بمعنى الذهاب نحو أصل الحقائق، لذلك لا أرى بأنَّ الفلسطينيين يظهرون ما يكفي من الراديكالية، ليس المقصود هنا جانب العنف بل تحديدا المستوى النظري والعملي.
ليلى شهيد: صحيح أنَّ الفلسطينيين كما العالم برمته، انخدعوا بالدبلوماسية المحافظة. لقد آمنوا بنظام عالمي جديد يشغل في إطاره كل واحد مكانه. أتَّفق مع المقاربة القائلة بشَلَلِ المنظومة الدولية،لذلك أخاطب المحافل الأوروبية، بما يلي: ”ليس فقط إسرائيل مشكلتنا، بل مشكلتكم أنتم أيضا. إنها امتداد لتاريخكم، لكنها أضحت طرفا بالنسبة إلى حاضرنا ومستقبلنا، ولاعلاقة لماضينا بها.لا يمكنكم تسوية حساباتكم نحو ماضيكم بأن تبعثوا إلينا بمساعدة إنسانية”. أظن، بأنَّ اقتراح التعايش من طرف ياسر عرفات قوامه حيثيات الملاحظة التالية: وإن انعدمت مسؤوليتنا التاريخية بخصوص الإبادة، نتحمَّل رغم ذلك، تداعيات جريمة حدثت ضدَّ الإنسانية. وقد استوعبنا معاني ذلك، استسغنا الاعتراف بإسرائيل وكذا تطلُّعها وجهة تأسيس دولة قومية هنا،حيث لم توجد قط دولة يهودية. لذلك نشعر على مستوى النضج السياسي، ووضعنا الأخلاقي، بكوننا فوق النزاعات القومية: لقد احتضننا ودمجنا من كان عدوُّنا التاريخي بخصوص مستقبلنا الخاص.بينما لايتمُّ الإقرار كفاية للفلسطينيين بمثل هذا الاستحقاق.المأساة،أنَّه جراء التعنُّت الإسرائيلي،وكذا شعور العالم بالذَّنب صوب إسرائيل، سنرى تطورا للمرة الأولى في التاريخ، لمعاداة السامية داخل عالم عربي يعجز عن فهم سبب اكتفاء إسرائيل بجواب واحد دون غيره يكمن بامتياز في المبادرة إلى الطرد، وتمدُّد المستوطنات، وإقامة الجدار.مع ذلك، توجد داخل إسرائيل معطيات منصفة أودُّ التنويه بها، تحديدا مناضلين مناهضين للمستوطنات يمتلكون نظرة تفوق تصورَّات السياسيين. عندما يسود الشعور، بأنَّ تطور الأحداث قد بلغ الباب المسدود، مثلما الوضع حاليا،تطفو حينها أشياء أخرى إلى السطح كي تستدعي وضعية جديدة. يطرح المجتمع الإسرائيلي، أسئلة جوهرية،على ضوء ما أوردتُه. مثلا الكتاب الأخير الذي أصدره أبراهام بورغ، وتجرَّأ على تسمية الحقائق بمسمياتها، واصفا الحالة الخاصة لمنظومته المجتمعية، حتى وإن اقتضى ذلك الإعدام. أيضا، أستحضر نموذج شلومو ساند، الذي أصدر منذ فترة قليلة باللغة العبرية كتابا متسائلا حول إمكانية الحديث عن شعب يهودي. إذن، يكشف الفكر اليهودي الصهيوني، عن تأويلات بوسعها أن تسائل ثانية الحقائق كثيرا. في المقابل، تحبطني أوروبا. أشتغل منذ سنتين داخل المنابر الأوروبية، إحدى التجمعات الإقليمية التي تتمتع بحظوة أكبر على امتداد العالم.تظهر أوروبا عاجزة عن التواجد سياسيا، ثم تبادر إلى الرهان على الانخراط في مشاريع جديدة، مثلا الاتحاد من أجل المتوسط. كيف بوسعها الترويج لاتحاد من هذا القبيل في خضم صراع يسكنها، وقد بدت عاجزة عن تبيُّن سبيل نحو حسمه طيلة ثلاثة عشر سنة من مسار برشلونة؟ إنها سياسة النعامة. وأقلق لأني أرى قوى سياسية أخرى في هذه المنطقة بصدد الاستفادة من إخفاقاتنا نحن العلمانيين وكذا أنصار التعايش. جماعات أخرى تضمر رؤية مغايرة تكتسب يوميا مساحات داخل المضمار، ليس فقط في فلسطين بل من موريتانيا غاية العراق. صدقا، أنا في غاية الإحباط بخصوص وضعية أوروبا، وطبيعة النظرة إلى المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، اللذين سيعثران فيما أظنُّ على مصادر تجاوزهما الوضع، رغم الإخفاقات التي تصاحبنا جميعا.
* مرجع الحوار:
L’ humanité des débats :26 Avril 2008.