السودان الجريح: “أرض كوش ” في الجنوب تعود إلى الحياة (3)
جورج الراسي
تحمل دولة جنوب السودان الرقم 193 بين دول العالم المنضوية في منظمة الأمم المتحدة، وهي الدولة رقم 54 على الخريطة الإفريفية. وجاء استقلالها بعد استفتاء حول انفصالها عن الشمال جرى في الفترة ما بين 9 و15 يناير- كانون الثاني – يناير من عام 2013، شارك فيه أربعة ملايين مقترع من أصل 9 ملايين مواطن، في بلاد كان يبلغ تعداد سكانها الأجمالي نحو 42 مليون نسمة .
حروب لا تنتهي
شهد ذلك البلد الذي كان “عربيا” حروبا امتدت على عشرات السنين، وبخاصة حربين أهليتين بين الشمال المسلم والجنوب المتعدد الانتماءات: الأولى دامت 17 عاما بين عامي 1955 1972، والثانية استمرت 22 عاما بين عامي 1983 و2005، أي 22 عاما فقط لا غير، ذهب ضحيتهما نحو مليوني مواطن، معظمهم من مسيحيي الجنوب.
وقد جرى التوفيع في العام 1972 على معاهدة تمنح الجنوب حكما ذاتيا جزئيا، لكن الخرطوم خرقت المعاهدة عام 1983، مما أشعل الصراع من جديد..
وكان المسبب الرئيسي للحرب الثانية قرار الرئيس السوداني، تعيس الذكر جعفر نميري، بفرض تطبيق الشريعة، ضاربا عرض الحائط بوصية أن “لا إكراه في الدين”… وقد قاد تلك الحرب الزعيم الجنوبي جون غارانغ على رأس حزبه “الحركة الشعبية لتحرير السودان”، وانتهت بتوقيع اتغاق السلام في نيروبي عاصمة كينيا في 9 يناير- كانون الثاني 2005، برعاية أمريكية ايام الرئيس بوش. ونص الاتفاق على إجراء الاستفتاء حول الإستقلال أو عدمه بعد ست سنوات من الحكم الثاني. ودخل المتمردون من الجيش الشعبي في حكومة “وحدة وطنية” وفق دستور جديد ومددت انتخابات جرت في أبريل- نيسان 2010 التفويض الممنوح لسلفا كير، الذي خلف غارانغ في رئاسة الجنوب، بعد مقتل هذا الأخير في حادث مروحية في يوليو- تموز 2005 .
وقد تمخض الاستفتاء عن فوز كاسح لمطلب الأنفصال عن الشمال، وأعلن استقلال الجنوب في 9 يوليو-تموز 2011.
“أرض كوش”… وصراعات النفط والماشية
في يوم الاستقلال وقف أمراء الحرب ومعهم ممثلون من دول العالم على انغام نشيد استقلال “أرض كوش”، وهي التسمية الدينية للدولة الوليدة (أشعيا – 18) …
لكن الفرحة لم تدم طويلا إذ برزت مشاكل جديدة بين الشمال والجنوب، بين المكونات الجنوبية نفسها .
بين الشمال والجنوب برزت قضية تقاسم الثروة النفطية، وبين الجنوبيين أنفسهم بدأ الصراع بين القبائل والإتنيات على المواشي والأراضي الزراعية التي تشكل مصدر الدخل الاساسي والوحيد لمعظم السكان.
معظم حقول النفط تتواجد في منطقي أبيي الحدودية، ويكتسب الصراع في هذه المنطقة أبعادا اقتصادية واجتماعية ساهمت في تعقيد الأزمة، لأن القسم الأكبر من سكان المنطقة هم من الجنوب، لكن المنطقة تخضع لإدارة الشمال. ومما زاد في حدة الصراع عاملان: أولهما الزراعة، حيث أن قبائل الدينكا هي المالك الأكبر للأراضي ومصادر المياه، في حين أن قبائل المسيرية هي التي تستخدم الأراضي موسميا كرعاة للمواشي.
تسيطر جوبا – عاصمة الجنوب – على 75 بالمئة من إنتاج النفط، غير أنها تبقى رهينة لعدم إطلالها على البحر وتواجد البنى التحتية للتصدير في الشمال.
وقد استقر الأمر حينها على أن تدفع جوبا رسما عن كل برميل يتم تصديره عبر الشمال، وأصدر مجلس الأمن حينها القرار رقم 2046 يفرض على الطرفين حل المشاكل بينهما في فترة محددة.
لا شيء يعلو على صوت القبيلة
يضم الجنوب أكثر من 30 قبيلة، أهمها ثلاث: الدينكا والنوير والشلك.
– الدينكا يقدر عدد أبنائها بنحو ثلاثة ملايين نسمة، و هم موزعون بين ولايتي بحر الغزال وأعالي النيل..
وتمثل الدينكا نحو 11 في المئة من مجموع سكان السودان، أي اكثر من 3 ملايين نسمة، وتمثل ما بين 40 إلى 50 في المئة من شعب جنوب السودان، ومعظم أبنائها من الكاثوليك.
– النوير تمثل حوالي 20 في المئة من سكان الجنوب، وهم في صدام دائم مع الدينكا لافتقارهم إلى الأراضي الزراعية، لكنهم ينتمون إثنيا الى نفس الجد. وهم منتشرون في كافة أنحاء البلاد …
– الشلك أصغر القبائل لا يتجاوز عدد أفرادها 8 في المئة من سكان الجنوب، يحكمهم “سلطان”، وقد خرج من بين صفوفهم بعض القادة، أمثال لام اكول، الذي انشق عام 1990 عن جون غارانغ وعين وزيرا للنقل في حكومة عمر البشير، قبل أن يعود عام 2003 إلى صفوف الحركة الشعبية.
– وهنالك أيضا “النيليون الحاميون” الذين يعتزون بتربية الماشية ويعتزون بالبقر، ومجموعات سودانية أخرى.
يتكون جنوب السودان جغرافيا من 10 ولايات تتقاسم ثلاثة أقاليم …
اختراق إسرائيلي
الاختراق الإسرائيلي لجنوب السودان قديم جدا وعميق جدا . معظم قادة “الحركة الشعبية تلقوا تدريباتهم في إسرلئيل. وفي الأسبوع الأخير من عام 2011 عام الاستقلال، قام رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير بأول زيارة خارجية له إلى إسرائيل حيث التقى شمعون بيريس. وجرى وضع برناج طموح للتعاون الثنائي في مجالات التقنيات والصناعة والتطوير المائي، إضافة إلى رغبة إسرائيل في استقدام وافدين يسكنوا المستوطنات الجديدة!
وعملت الدولة العبرية على وضع خطط لبناء طرق جديدة لتصدير النفط تتفادى المرور بالشمال، حيث يتم إيصال النفط السوداني من جوبا إلى لاهو في كينيا، في إطار مشروع استراتيجي يرمي إلى تحوير مسارات النفط السوداني من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، وإخراج اللعبة من يد الخرطوم، إضافة إلى تعميق وجودها الاستخباراتي في منطقة الشرق الأفريقي… وهذا ما أصبح جليا في مراحل لاحقة في دول عديدة، أبرزها اريتريا، التي طالما تظاهر “الثوار” في المنطقة العربية من أجل استقلالها باعتبارها تمثل حوافر “الحصان العربي“!