قلق العبارة عند أمبرتو إيكو
الطائع الحداوي
-1-
لا نعرف لماذا لا يحب أمبرتو إيكو كرة القدم؟
هل حقيق به أن لا يحب كرة القدم لأن كرة القدم لا تحبه، هي الأخرى، البتة؟
أم أن طفولته تختلف، جذريا، عن طفولة غيره من الأطفال؟
لنتأمل المشهد الأول من الحكاية.
عندما كان أمبرتو إيكو طفلا، كان ينتمي إلى ذلك الصنف من الأطفال واليافعين الذين لا يحذقون مهارة اللعب بكرة القدم. لم تكن قدماه تطاوعانه على القيام بالحركات الملائمة لفن اللعبة. لذلك كان أترابه من الأطفال يتحاشون المناداة عليه لخوض المقابلات التي يجرونها في الملاعب. كانوا يغضون الطرف عنه. فبالأحرى السماح له بالانضمام إلى مجموعتهم الكروية خشية أن تلحق بهم هزيمة نكراء، وخوفا من أن يتجرعوا خسارة فادحة تحول فرحهم إلى تعاسة، وسعادتهم إلى مهزلة يتندر بها الأنصار قبل الخصوم. فأمبرتو، الطفل، بمجرد لمسه للكرة، في أول احتكاك بها، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، يرمي بها، بكل عفوية، في شبكة فريقه بدل رميها في شبكة الخصم. وفي أحسن الأحوال، يقدمها هدية سخية للفريق المنافس. وكأنه لا يفرق بين الأضداد والجبر والمقابلة أو بين الدال والمدلول في دلالة اللعب بالكرة. هذا، إذا لم يطرح الكرة خارج الملعب، أو بعيدا عن الحواجز والسياجات، وفي الأقبية والأودية والجداول. بل، حدث، مرات عديدة، أن استقرت الكرة في محل لبيع المثلجات، التي كان يتلذذ بطعمها وتستهويه جاذبية حلاوتها القوية، عوض استقرارها في المرمى. إلى درجة، انتاب فيها الشك أصدقاءه، وبدؤوا يتساءلون مع أنفسهم عن طبيعة طويته وما إذا كان يفعل ذلك عن قصد أم عن جهل صريح بأبجدية كرة القدم. كان يحصل ذلك أمام أنظار عيون الجميع. ولشدة اندهاشهم من غرابة ما يقع، وتكرار ذلك مرارا، وبعد نفاد صبرهم، قرر زملاؤه، في النهاية، الاستغناء عنه والإحجام عن دعوته للمشاركة في الدوريات التي تعودوا تنظيمها بما وسعهم من تفان في العمل، وبما يتحلون به من عزيمة راسخة.
-2-
المشهد الثاني من الحكاية يرد على لسان شاهد عيان، قائلا:
كنا أطفالا، في صورة يافعين وشباب، نجوب أحياء الدارالبيضاء ودروبها طولا وعرضا. لا يستقر لنا حال. لا نهاب أيا كان من الإنس والجن. لا يقدر أي شخص على معاندتنا أو يقف في وجهنا أو يعترض سبيلنا. كما لا يثنينا، عن اللعب، فصل الشتاء وبرده القارس ومطره الغزير، وفصل الصيف وجوه الخانق وشمسه الحارقة المشتعلة في كبد السماء. لا تأخذنا سنة ولا نوم في الليل والنهار. مع ما نرتديه من أسمال بسيطة بالكاد تغطي جسدنا، وما ننتعله في أرجلنا من أحذية مهترئة أو من صندلة الميكة، محلية أو أعجمية.
نحث السير، مشيا أو ركضا، برؤوس حليقة إلى درجة الصفر في الحلاقة، أو صلعاء، أو بشعر منسدل، أو محفوف ومقصوص. لا نتكسر في مشيتنا. لا ننحني. الرأس مرفوع دوما. القامة منتصبة. مكتوب على جبهتنا الأمل ولا شيء غير الأمل. من يدري فقد نكون من أتباع أرانتيس وليس من أتباع أنتيستينيس. ندندن. نغني. نحكي. نضحك. نضحك ملء أفواهنا إلى أن تسمع أصوات ضلوعنا. لا نصمت أبدا. الصمت في عرفنا مرادف للموت، والكلام مساو للحياة. نحيا بالكلام ونموت بالصمت. نحج من درب إلى درب، ومن زنقة إلى زنقة، ومن بلوك إلى بلوك، ومن حي إلى حي، جماعات وزرافات. نشكل، نحن أولاد الدرب، ومن يناصرنا من الدروب الأخرى، كتلة بشرية واحدة، متراصة الصفوف، متضامنة الأفعال، متناغمة الأقوال، متشابهة الأهواء. تسمع نبضات حركاتنا من مكان بعيد. وقد تصل ذبذبات دويها قبل أن نصل نحن. صدى إيقاعنا يسبقنا. ريحنا دالة بالسيمياء علينا. ظلنا يسامت آدميتنا أينما رحل بنا قدرنا وحل بنا مصير أقدامنا ولو سرنا في الطريق بالظن. عقدتنا منحقة. لا تستطيع قوة غاشمة تهديد كيان وحدتنا جورا، أو الزعم بتفريق حبات عقدها وانحلالها، أو تجهل علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا. مهما أوتيت هذه القوة المغيرة من سلطة وبأس. لا يعترينا الوهن والخلع قطعا. فنحن كأسنان المشط نمضي، وكالبناء المرصوص نقاوم. نكاد نخيف ولا نخاف. إذا اشتكى منا عضو أو شعر بألم، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. يصغي إليه الجميع ويهبون لعيادته، ويسرعون الخطو إلى نجدته. نتقاسم، فيما بيننا، قليل الزاد وكثيره في السراء والضراء. في الحر والقر. قال قائل: “من كان مستبدئا النطق في أبجد أولاد القرة (ثابت بن قرة) فأبتث ابن امسيك الحرة فشهادة مدرسة المقبرة الغرة فكوليج المزرعة الثرة، لا إخالك يخشى أن يخبو فيه نور علم العلم بالمرة”. وأضاف: “الليف ما ينقط. الب نقطة من التحت. الت جوج نقط من الفوق…”. بعضنا ظهيرا لبعض. شيعاء لبعضنا. لا فضل لفرد على فرد إلا بنسبة الذكاء وملكة البديهة وطبيعة الموهبة والاستطاعة البدنية. وإن كان الجميع أذكياء بالفطرة. وتلك مسلمة من مسلمات حقيقة واقعنا التي لا تشوبها شائبة ولا تتلبس بها ظنة.
في بعض الأحيان، يستعصي على فهمنا لماذا ترتعد فرائص من يبصرنا ونحن نسلك الأزقة والدروب ونتملى الأحياء والضواحي بكيفية مهيبة. هل لأننا نحاكي، عن غير قصد، أسراب الجراد، والطيور المهاجرة، وسربة الخيول؟ أم التبست عليه الصورة وخلط بيننا وبين جنسنا وعصبة الفتوات التي كانت ظاهرة رائجة في معظم أحياء الدار البيضاء، وفي أقطارعربية كمصر، حيث ألفت فيها كتب وأنتجت أفلام سينمائية؟
ينتابنا الشك في ذلك. فنحن لا نستفرد بحمى معين. ولا ندعي ما ليس فينا ويوجد في غيرنا. ولا نتباهى بامتلاك قوة جسمانية خارقة تفوق قدراتنا الطبيعية. وإن كان نفر منا يميل إلى ذلك. ولا فائض قيمة لنا في بورصة الزعامة. ولم تنسج في شأننا حكايات شعبية وأساطير خرافية كجر عربة بمطي حملها وحمارها بأسنان الفك. ولم تحرر رسائل محققة ومنقحة للنظر في أمرنا كرسالة الصاهل والشاحج. بالضرورة أو الرجحان. بالرحمة أو الشفقة.
النظام، والترتيب، والانضباط، والطلقة الواحدة مع الصيحة الواحدة في الزمن الواحد المحدد. تلك مبادىء يسيرة من شيم الخلق يتمثلها في الظاهر والباطن، يتحلى بها في السر والعلن، صبحا وعشية. ومن حاد عنها وسها، أو زاغ عن سكتها، أمسى ملفوظا ومعزولا. ويبقى طفلا شقيا كما تطلق عليه الأمهات والجدات. من دون أن يتماهى مع معنى الشاعر الذي تحامته عشيرته وأفرد إفراد البعير المعبد. وهل هناك من بعير في الدار البيضاء حتى يصير معبدا؟ لهذا، يتعجب لأمرنا من يعلم أننا قطعنا المسافة الفاصلة بين ابن امسيك وعين الدياب سيرا على الأقدام للسباحة والتخييم واللعب.
حاشية:
باللهجة المتداولة على الألسن نقول: “نمشوا كعبة” ، “نمشوا فطحة”. وفي المعجم: أكعب الرجل: أسرع في مشيته. ولما كنا جماعة، فالشيء يتلو بعضه بعضا إذا انطلق ولم يلتفت إلى شيء، أو لا يبالي ما وراءه. وقدم فطحاء: معرضة، مستوية، منبسطة، حادة، مهيأة للسير والركض.
فقلة ذات اليد لا تعادلها، في سلم القيم التي نتبناها ونهتدي بنور سراجها، إلا قيمة الأنفة والكرامة والشهامة وعزة النفس. فعزة النفس موضوعة على عتبة أرنبة الأنف، كما يشير إلى ذلك المثل السائر، أو كما قال الشاعر:
فاطلب العز في لظى وذر الذ = ل ولو كان في جنان الخلود
وقد يندهش المرء عندما ينتهي إلى سمعه أننا حجزنا تذكرة في حافلة (طوبيس) السلك (الكات باري) من عين الشق إلى مركز المدينة، بعد استيفاء حقنا من الألعاب بالميزان والطيارة والزعلولة، لمشاهدة عرض مسرحي في “المسرح البلدي” أو فيلم من الأفلام المعروضة في القاعات السينمائية التي كانت تعج بها مدينة الدارالبيضاء وتؤثث أحياءها المختلفة كما تنتشر فيها المقاهي والمحلبات في هذا العهد. فآنذاك، بين سينما وسينما، سينما؛ واليوم، بين مقهى ومقهى، مقهى؛ وبين محلبة ومحلبة،محلبة. وأدهى من ذلك وأمر، كل مكتبة صارت محلبة. كما استبدلت سينما فوكس بشرائح تاكوس. وكأن البشر مضروب على كرشه. وبطونه خاوية على عروشها. وطعامه وشرابه تسنه إلى الأبد.
حاشية:
أقبرت ذكرى فيلم كازابلانكا وذهبت أدراج الرياح مع هدم قاعة سينما فوكس.الفيلم الذي يعد من الأنطولوجيات. وقد تساءل صاحب المرأة والوردة : من أين يأتي سحر كازابلانكا؟ وأين تكمن جاذبيته؟ بعد أن حلل الأنماط الأصلية والمستنسخات والموضوعات المتضمنة في الفيلم كموضوعة الحب الشقي، والعبد والسيد، والحضارة مقابل البربرية.مع الحض على قيم الطهرانية والتضحية. ويظل محل ريك فضاء مثاليا للحب، والموت، والمطاردة، والتجسس، والوطنية. ومن وجهة نظر تاريخية، هناك من يربط الفيلم بعملية الشعلة ومؤتمر الدارالبيضاء خلال الحرب العالمية الثانية. مع الإشادة بأدوار الممثلين، وبصفة خاصة، برغمان وبوغارت.
وفي المراوحة بين أحوال الأزمنة في قسوتها ولينها، تظهر لنا ساحة السراغنة مكانا طيبا للعب البيار والفلبير والاستماع لأسطوانات الأغاني الراقية، شرقية وغربية، من تلك الآلة العجيبة التي ننفحها نقودا زهيدة فتهدينا أغنية أثيلة. وفي طلعة زقاق الحي نتذكر الحريري وبا حسن وألبستهما الرياضية مع “أولاد حارتنا”. وزنقة القاهرة واحتفالات رأس السنة. ورسائل الجاحظ إلى كريت، وشارع السويس والحرب على مصر، والفداء ومقاومة الدارالبيضاء ضد الاستعمار، ومجزرة ساليغان في ابن امسيك ودرب السلطان. والقريعة وملابس البال التي على البال. كما ترجع بنا الذاكرة إلى تونيات اشطيبة التي تكشف في أول تصبينة، فيتغير لونها ويمتقع ويضيق قياسها. فعند ارتدائها يعتلي “اللباس” فوق السرة بكثير ويصبح شبيها بصدريات النساء. كنا نقابل هذا الوضع بالتفكه والتندر وبالضحك من بعضنا والشد في تلابيب بعضنا الآخر. فهذه التونيات، التي لا تصلح أن تسمى “ألبسة”، من وجهة نظر بائعها، مخصصة لـ ” حرافيش” الدرب دون غيرهم. ومن وجهة نظرنا، اشتريناها من التعاضد التضامني بيننا ومن جمع الكويحة وبيعها سنتا سنتا وفلسا فلسا. ويسري الحكم ذاته على الخيام ذات العماد التي كنا نكتريها من القريعة للتخييم في عين الدياب. نتسلمها خضراء اللون ونرجعها باللون الذي بصمته عليها شمس البحر وحرارتها الشديدة. فلا يتعرف صاحب الخيمة على خيمته. ولا نحن نشك في أصالتها ومدى مقاومتها للحر و آثار البحر. ولماذا مسخ لونها كما مسخ لون تونيات “اشطيبة”؟ هل هي الخيمة الأصل أم الخيمة النسخة؟ من يقنع من؟ من يجادل من في مسألة الناسخ والمنسوخ؟. وهذه الساحة نفسها هي التي ستشهد خبر إعلان نتائج البكالوريا بوساطة بائع الصحف الذي يتحلق حوله الجميع ويلتف لمعرفة مصيرهم أو مصير ذويهم وأقربائهم في الامتحان. وإن اقتضى ذلك سهر الليل كله. أيام كانت تنطبق على المترشحين لنيل شهادة البكالوريا مقولة: عند الامتحان يعز المرء أو يهان. تنطبق عليهم بحذافيرها وحرفيا بكل معانيها جملة وتفصيلا. وتبعد عن فئة منهم شبح تلك الصورة المقيتة والمرعبة وهي أن يكون كل واحد منهم حيوانا مربوطا ومجرورا إلى عربة يذهبون به أنى شاؤوا ومتى شاؤوا وبأي كيفية شاؤوا. وتلك الوسيلة الوحيدة التي تمنع الألم أن يتسرب إلى الجسم ولو كان تحت عنوان: أزهار الألم.
حاشية:
كان الكلب لويز، بالأبيض والأسود، حصنا منيعا في الدفاع عن حوزة المنزل. وصديقا وفيا في الطريق إلى المدرسة ورفيقا. بفراسة حدسه يميز من يضمر الشر ومن يبشر بالخير من بني البشر. غادر الأهل مكرها حين أذنت ساعة الرحيل عن الربع وانطمس منه كل أثر كما انطمست أطلال الديار الدارسة أبد الدهر.
وإذا لم يسعفنا الوقت، وليس العبارة، واشتد بنا الضيق وقسا، نتطلع إلى مارشي كريو (سوق الجملة) في بلفدير، عند توجهنا إلى السباحة في “الفصة”(تصغير الفوسفاط)، غير بعيد عن المرسى، لقضاء ما نستطيع من الفواكه، كيفما اتفق، وبهذه الطريقة أو تلك، ونيمم وجهنا صوب البحر. وكأننا نتأوى إلى محاضرنا. قبل أن يتطوع أحد أعضاء المجموعة الأشداء لجلب مؤونة إضافية تحتوي على ما لذ وطاب من طعام وشراب بعد نجاح مغامرته في اجتياز الصخور الضخمة والأسلاك الشائكة. نستمرىء ما جاد به علينا ونستطيبه. فقرى البدن علة قرى الروح. من دون أن ننسى نصيبنا من تلك السنيدة الداكنة التي نجمع فتاتها من سطح العربات المنصوبة على السكك الحديدية التي تستعمل آلة لحمل الحاويات.
حاشية:
من بين الأسئلة التي تستبد بالأذهان: لماذا هذه السياجات من الأسوار، والأسلاك، والأحجار، التي تحول دون عين الإنسان والاستمتاع بمنظر البحر، وتحجب، بشدة، مشاهدة حركة السفن وهي ترسو في الميناء؟ هل شيد الميناء، في الأصل، مسرحا أم مسيجا؟ منبسطا أم متقبضا؟
نفعل الشيء ذاته عندما تقذفنا خطواتنا في بحر عوكاشة رجلا برجل في قعر يمة أكثر صخرا وطميا مثل بني يم. وفي عوينة الصابون بين طريق مديونة والقريعة والعومان في ماء نبعها الصافي الذي نتمثله عذبا رقراقا قبل تمثلنا لمياه نهر أبي رقراق من رباط الفتح وما يسمى في حوليات عجم اللاتين قراصنة سلا. أو حين يستغرق يومنا، على بكرتنا، شاطىء بيبسي الفسيح المتاخم لمسبح الرمال الذهبية في قطعة قلادة سلسلة المسابح الممتدة على ساحل عين الدياب ومنار العنق إلى المسبح البلدي، وهواية القفز من عل. مسابح نراها فقط وهي لا ترانا قط. فنشتط في مياه البحر ورماله شططا:
لا رمال الشط إن راح يناديها تجيب
وتلك أمارة الحال أثرا ودرجة. إلى أن يعصب الأفق فنرجع إلى أوكارنا كما طمت به همتنا.
-3-
أين موقع كرة القدم في المشهد الثالث من حبكة الحكاية؟
كان مفهوم الخلاء مفهوما شائعا وواقعا ملموسا في الخارطة الحضرية لأحياء مدينة الدار البيضاء. فأينما ولى المرء وجهه إلا ويعثر على أرض عارية أو تصادفه أرض ميتة قابلة لأن تتحول، بمعاول المتطوعين الشباب، إلى ما يشبه الملعب بعد زرع الروح وإذكاء الحياة فيها. فكان عدد الملاعب، بعدد تلك الأراضي، لا يكاد يعد ويحصى. ومن ثم، اكتسبت هذه الملاعب – التي تسمى ملاعب الأحياء- تاريخا عظيما وشهرة كبيرة لأنها كانت فضاء لاحتضان شباب الحي ومجالا يصرفون فيه وقتهم للترييض والتمرين والتدريب، وتنظيم العصب والدوريات، وإجراء المقابلات بين فرق الحي الواحد وبينهم وبين فرق الأحياء الأخرى.
وإذا كان من العسير تقديم جرد شاف وإحصاء واف بأسماء هذه الملاعب في تضاعيف الحيز القصير لمشاهد هذه الرواية الأولية، والتي كانت مشتلا لتخريج المواهب وصقلها، فإن التمثيل بعينة مختصرة منها يعطي، في تقديرنا، صورة دالة للذين لم تسمح لهم شروط الحياة وظروفها بالتعرف إلى هذه الملاعب أو لم يعيشوا في تلك الحقبة من التاريخ الاجتماعي للدار البيضاء. فهي لائحة، وإن بدت محدودة، مطروحة للتأمل والاستئناس، وعلامة شرعية، بأبعاد متعددة، على جيل من الشباب شق طريقه في الحياة بنفسه، بكل إرادة وعزم، وبرز في الغايات تبريزا، وانعتق من إسار العتمة إلى إشراق النور، وخلق من لاشيء شيئا، وجعل من العدم وجودا، ومن السماء غطاء، ومن الأرض فراشا وملعبا، ومن العصامية مذهبا، ومن تمازج الثقافة الرياضية، والثقافة الشعبية، والثقافة العالمة وتفاوضها التعاوني مثالا. وتعلم دروسا من الحياة أفادته في الحياة. وعاش في علاقة مباشرة وحميمة مع العالم الطبيعي–الفيزيائي. إلى أن أضحى، فيما بعد، منارة مضيئة تقتدي الهداة بنورها، ونجما وهاجا يشع ضوؤه في أرجاء الليل البهيم. فطرد، شر طردة، شبح تلك الصورة القاتمة من الأذهان والألفاظ والكتابة والأعيان.
حاشية:
فاسأل نفسك: ” أعصاميا أنت أم عظاميا” ، ” أظاعنا أنت أم مقيما” وانثر شعرك على سواد الخلق منشدا: نفس عصام لم تسود عصاما.
علمته الكر والإقداما. صيرته ملكا على القوم هماما.
فابن امسيك، على سبيل المثال، كان يمتد على رقعة مساحة شاسعة، مترامية الأطراف، متعددة الأجزاء، من حدود درب الكبير- حيث توجد عرصة ولد امسيك- مرورا بحي الفرح، ودرب ميلان، والكريان، وصولا إلى تراب قرية الجماعة. فكان يتسم هذا الإقليم من الجغرافيا بكثافة سكانية شديدة، وبتركيبة متنوعة ومتراتبة من الفئات والطبقات الاجتماعية، وبفسيفساء من المباني المعمارية. فكان ، من حيث الشكل والمادة، علامة بينة على ما يسميه ابن خلدون العمران البشري. لذا، فمن الطبيعي أن يشهد وفرة في ملاعب الأحياء بحكم كثرة أنواع الأراضي المذكورة سالفا، من جهة، والعدد الكبير لليد العاملة من شباب الحي، من جهة أخرى. كملعب القريعة، وملعب الإذاعة (إذاعة عين الشق)، وملعب مبروكة، وملعب المقاطعة، وملعب الفوسفاط، وملعب اغبيلة( المقبرة التي غلقت أبوابها على قبور موتاها)، الذي حمل اسم با محمد، وملعب كانطاريل، وملعب القورع، وملعب السلك، وملعب الحفرة – تيران لاجونيس – الذي كان تابعا لوزارة الشبيبة والرياضة، بالقرب من دار الشباب ابن امسيك والنادي النسوي والحانوت الفريد الذي كان يبيع “حجرة” الراديو التي تشبه بطارية السيارة، صورة ووزنا.
وإذا اقتصرنا في الحديث المجمل والوجيز من القول على ملعب القريعة وملعب اغبيلة(با محمد،الذي حافظ الرعيل الأول من الشباب، بطريقته الخاصة، على بقعته الأرضية حتى لا تلتهمها مدمرات البناء بو- تمكين في ذلك الزمن المبين)، على أن نعود إلى التفاصيل والجزئيات في مناسبة أخرى، فإنهما كانا مسرحا حيا وديناميا لمباريات عديدة، حامية الوطيس، ودية أو في شكل عصبة أو دوري الكأس، بين فرق الأحياء الشهيرة: الحسنية، موناكو، أجاكس… وفي بعض الأحيان تنقل المباريات إلى ملعب لاجونيس – الحفرة – مع فرق أخرى كمجد سيدي عثمان، بإشراف القيم عليه وحارسه الأمين السيد حمان الذي كان يعتني بالملعب اعتناء كبيرا من حيث رسم الخطوط الهندسية للأرضية المتربة ونظافة المرافق ومكوناتها وإن ظهرت بسيطة وتهييء الكرات والملابس لغوث الفرق وإعانتها. بالإضافة إلى المشاركة، بين الفينة والأخرى، في إحدى المباريات الجارية على أرض الملعب وتحكيم أخرى. تشد ساعده في هذا العمل النبيل ابنته ربيعة الوفية التي كانت على استعداد دائما لإحضار الكرة عندما تتجاوز السور وتقع في وسط إحدى البراريك القصديرية المحيطة ببيئة الملعب. وكان يتردد على هذا الملعب-المعلمة لاعبون كبار من طينة: زهيد، وعمر كوميرا، والعربي شباك، الذي كان يفضل اللعب بالحذاء الرياضي (سبرديلة). وعند استحضار كريان ابن امسيك، نستحضر أكبر كريان في مدينة الدارالبيضاء على الإطلاق، إن لم يكن في المغرب كله. وإذا كان مظهره يبدو متواضعا، فإن جوهره كان معينا لا ينضب من الطاقات الحية. فقد كان منجما لليد العاملة وخزانا للقوى اليقظة من النساء والرجال. ولمع في وسطه شبان وشابات في جميع مجالات الحياة. وكانت دار الشباب ابن امسيك ودار الشباب قرية الجماعة من المؤسسات التي تشهد نشاطا ثقافيا وفنيا ورياضيا زاخرا، وتعرف إشعاعا لا مثيل له في هذه المنطقة الحيوية الموسومة بدينامية كتلتها السكانية. يتعزز هذا المشهد الثقافي العام بالإقبال الكبير على مشاهدة الأفلام التي كانت تعرضها القاعات السينمائية المؤطرة لفضاءات التربيع والتدوير في الحي، بالمعنى الواسع، كسينما العثمانية، والسينما المدنية، والسينما الحسنية، وسينما الصحراء، وفيلم الجبابرة (العمالقة)، وفيلم المصارعون العشرة، وفيلم القطار، وفيلم تاراس بولبا من بطولة توني كيرتيس ويول برينير، وقصته المستوحاة من رواية الكاتب نيكولاس غوغول، وفيلم “أبي فوق الشجرة” من بطولة عبد الحليم حافظ ونادية لطفي وقصة إحسان عبد القدوس، وفيلم “الحياة كفاح” من بطولة عبد الوهاب الدكالي، إلى أن نصل إلى حديقة الألعاب الصغيرة والوحيدة، بين عين الشق والمنظر الجميل بمحاذاة البريد، التي تحتوي على بعض الألعاب أومأنا إلى أنواع منها سابقا. ويمكن أن تنفتح دائرة التباري، بهذا القدر أو ذاك، لتشمل ملاعب الشابو، والشومينو، وكوزيمار، وموبيل، والشيلي، والفداء… أو على فرق أخرى كالترجي والأهرام… أو تتشوف إلى محاولة الاندماج بين فريقين، كما حصل بين الحسنية ودفاع عين السبع، وإن لم يدم أمل هذا التشوف أمدا وتبدد مسعاه… مع العلم أن أرضية معظم هذه الملاعب لم تكن طيعة وسهلة لدحرجة الكرة بكل يسر، وإنما كانت أرضا متربة، صلبة، صلدة، صماء، من تراب الحمري أو من بياضة، يتحاشى اللاعب ويخشى السقوط عليها. بالإضافة إلى الكرة التي كانت من الجلد، ثقيلة، خشنة، وإذا خالطها الماء وشابها، تبدو أثقل ويزداد وزنها ويتضاعف، ومن أصابته تسديدة منها يكون، لا محالة، عرضة لخطر الموت.
وإذا حدث أن أصيب لاعب في الملعب إصابة ما، فإن مستوصف الحي (اسبيطار) كان الدواء فيه شحيحا ونادرا، والموارد البشرية من ممرضين وأطباء تعد على رؤوس الأصابع أو أقل من ذلك بكثير. فكما كانت البومادا (المرهم) الصفراء دواء لأمراض العيون في المدارس، كان الدوا لحمر والدوا لزرق علاجا لأنواع الجروح والأمراض الجلدية المختلفة. فهذا الطيف من الألوان: الأصفر والأحمر والأزرق هو الطيف الاستشفائي السائد في المستوصفات والمستشفيات العمومية بالإضافة إلى بعض الأدوية الأخرى القليلة. فكانت طائفة من الناس تقصد الرهيبات للعلاج، والأمهات والجدات يحملن إليهن أطفالهن. وكان شائعا بين هؤلاء القوم ما يتصف به الدواء عندهن من فعالية ونجاعة في الشفاء. فهن يهبن الدواء الذي يتشفى به الفرد ويبرأ ويتعافى إذا تعذر عليه البحث عن علاج في مكان آخر.
لذلك، ظلت هذه الجماعة من الشباب مطبوعة، في أقدامها وأجسادها، بآثار هذا الصنف من الملاعب، واللعب في الأزقة والشوارع والمدارات التي تسمح بذلك. موسومة بطابع هذه الأمكنة والفضاءات. كما يغمر الوشم جسد النساء المستوشمات. وإن لم يكن من نمط أشباه ونظائر طابع السلطات الفرنسية على أجسام المغاربة في قشلة جنكير قبل الذهاب إلى الكيرا في لاندو- شين وهوشي منه وحرب التحرير. فكل جسد من أجساد، هؤلاء الشباب، عليه علامة مشبعة، صورة ومحتوى، بهذه الآثار والندبات، وكأنهم أبطال الملاحم والأساطير الغابرة، وجسدهم شبيه بطرس اللوحة والكتابة الآسرة. وهم كذلك، بالفعل، كانوا يكتبون بأجسادهم قبل الرسم والمحو في لوحة الجامع بالقلم و الصمغ والصلصال والكراك والكتابة بالريشة (ريشة العربية وريشة الفرنسية) والحبر (المداد) والمحبرة (الدواة) على مقعد الدراسة كما هو الحال في مدرسة ابن امسيك العامرة. ويجتهدون في إزالة بقعة (لطخة) المداد من على سطح الكناش (الدفتر) بالمنشفة الغامرة. كما يسعون، عند الاقتضاء، إلى تضميد الجروح في كل بقعة من أجسامهم بأي لون من ألوان الدواء الشهيرة. فصناعة الألعاب في كرة القدم كصناعة المداد في المدرسة الأم. فالعملان صنوان. وقد برع هذا الجيل من الشباب في الصناعتين معا ونبغ فيهما نبوغا مغربيا، وتفوق وتميز. فأعطى لرحلة حياته معنى، ولعلاقة البدن، والنفس، والعقل دلالة.
ومن التقاليد السائدة في تلك الفترة، تمثل أسماء فرق من قارات أخرى، في تجاور بلاغي – كنائي مع الأسماء المحلية، كريال مدريد، وبلنسية (فلانسيا)، وسانتوس، وبوكاجنيور، وبوتافوكو، وغيرها من أسماء الفرق التي ذاع صيتها خارج قارتها إما لتقدم نشاط كرة القدم في بلدانها وإما لشهرة وسمعة فريقها الوطني كالمنتخب البرازيلي، الذي كان منتخبا نموذجيا، يضم بين صفوفه لاعبين من العيار الثقيل، ومن الطراز الرفيع، كبيليه، وريفيلينو، وتوستاو، وجيرزينو، وكارلوس ألبرتو، وجيرسون، وكلود والدو…وغيرهم من العمالقة – الأساطير الذين لا يشق لهم غبار، وينحني لبيان فنهم الساحر كل غطريس جبار. يقودهم، بكل حنكة وحكمة، بيليه (إدسون أرانتيس دو نسيمينتو) لاعب التاريخ الخرافي العظيم، عالم العلم وفنان الفن في كرة القدم، الذي لا تتكرر نسخة منه، على مدار العصور، مهما بلغت من شأو. ومن فرط عشق هذه الكوكبة من اللاعبين النوابغ الذين وهبوا ملكة تكليم الكرة تكليما يفوق الخيال، ويترجمون التشاكل الصوتي بين الهبة والموهبة إلى فعل كروي خارق للعادة، كانت زمرة من الشباب تعمل بجهد وكد على جمع صورهم واحدا واحدا وترتيبها في ألبوم إلى أن يكتمل لديها فريق بجميع عناصره ممهورا بتوقيع صاحبه. وقد جاور، هذه النجوم المتلألئة في آفاق كرة القدم، المغرب، بلاعبين من قيمة: علال، وقاسم السليماني، وحمان، وسعيد غاندي، والغزواني، والفيلالي، وبوجمعة، وباموس…
ولا يزال هذا الجيل من الشباب تراود مخيلته أحداث تلك المباراة التاريخية، وكأنها جرت بالأمس القريب، التي خاضها المغرب ضد ألمانيا الغربية في أول مجاز في قائمة مباريات كأس العالم في سبعينيات القرن الماضي في مكسيكو. كان الفريق الوطني فريقا مغمورا، وكان الفريق الألماني فريقا شهيرا، تشتمل تركيبته البشرية على لاعبين من المعدن النفيس: بيكنباور، ميلر، سيلير، سيب ماير…لم يكن جهاز التلفاز عاما في كل البيوتات. وخارطة المغرب الجغرافية كانت شبه مجهولة في تلك الأصقاع من الكرة الأرضية، على الرغم من أن ذرية المغرب كانت من الفاتحين الأوائل الذين وطئت أقدامهم ترابها. ويمتلكون رحالة عظيما هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن محمد، المعروف بابن بطوطة، اللواتي الطنجي، أحاط بالممالك والمسالك القائمة وغرائب أمصارها إحاطة جواب آفاق. سار في الأرض وساح. فترك للعالم تحفة للنظار لطيفة لا يسعها إدراك عقل ولا يشطها طيف خيال. فالكرة، بهذا المعنى، تعريف.
-4-
في المشهد الرابع من الحكاية، ربط الحاضر بالماضي.
كان يرتاد تلك الملاعب، التي أتينا على ذكرها، جمهور غفير من المتفرجين الذين يعشقون كرة القدم ويهيمون بحبها ويفتنون بسحرها. ويتردد صدى صوتهم ويرن في الأذن وكأنه حدث البارحة: إيلياه… إيليا… إلياه.. بيت .. بيت… عند تسجيل كل هدف. وإن كان جمهورا لا يوازي، بطبيعة الحال، ولا يضاهي الجمهور العريض لفريق من نمط ريال مدريد العريق وهو يساند ويحتفل بتحقيق فريقه بطولة الدوري الإسباني والبطولة الأوربية والكأس الأوربية الممتازة (كأس السوبر الأوربية) وكأس القارات للأندية؛ أو جمهور الرجاء البيضاوي وأنصاره من المشجعين وقوة طاقتهم الخلاقة واستثمارها في إبداع أعمال فنية رائعة من تيفوات، وشعارات، وأقوال وخطابات، وألوية وأعلام. بخلفية ثقافية وحساسية جمالية لا تخطئها العين. بحيث أمست، هذه الأعمال الفنية المثيرة للإعجاب والدهشة، مادة قابلة للبحث، وموضوعا لاختبار مناهج تستمد جهاز مفاهيمها من حقل نظريات مخصوصة. فالفرضية التي تطفو على سطح هذه الأعمال، لأول وهلة، هي أن نسق الدلائل أشكاله متعددة وصور إحالاته مختلفة وموضوعاته متداخلة. أي هناك إشكال على صعيد التنضيد بين المحايثة والتمظهر. مما قد يفضي إلى إنتاج دلالة هجينة، بالمعنى الإيجابي للكلمة. وإن كان التدريج بين الكيفية، والعلاقة، والقانون؛ وبين التمثيل والتوليد، يظل واردا بقوة منطق الأشياء. ولكن قبل الجزم في مثل هذه الفرضيات، وإذا انزحنا قليلا، وفي إطار هذا التصور المنهجي، يمكن عرض بعض المقترحات النظرية، لقراءة هذا المتن، على النحو التالي:
+ تضمين مكونات اللون، الخط، الكتابة، اللغة المرسومة، الصوت، الصورة، الموجودات والظلال، في نسق بنيوي كلي + الاستناد إلى مبدأ المتصل والمتقطع في التركيب + التمفصل بين الشكل والمحتوى، والتعبير والجوهر + التقاطع بين الفضاء والزمن والتصميم في الصناعة + احتواء سنن التواصل المركب لسنن التواصل البسيط + افتراض القصدية الاقتضائية لتحيين القصدية المتجلية + استنباط الرؤية الفنية والجمالية من البنية الدالة لمجموع العمل.
تصدق مقترحات هذه المقاربة ومستويات تحليلها على أعمال فنية من قبيل “الغرفة 101″، وتلك التي تستوحي حدود تقطيع الزمن والحركات في التأليف الموسيقي في قاموس اللغة الإيطالية.
وعطفا على إبداعات هذا الفريق، وفي السنة الجارية 2024، عمت فرحة الجمهور العارمة جميع أحياء الدار البيضاء ودروبها، الفسيحة والضيقة، كالتي أشرنا إليها، وغطت بإيقاع حناجرها ومقطعات أغانيها وفورة أهازيجها وتشكيل ألوانها المدن المغربية وربوع العالم، بعد إحراز الفريق ثنائية: لقب بطولة المغرب لكرة القدم والدرع الذهبي والتتويج بكأس العرش الفضية بقيادة المدرب الألماني جوزيف زينباور. فكان، في الحقيقة، موسما استثنائيا، بما في الكلمة من معنى، مطبوعا بسجل خال من الهزيمة، وموشوما، على الدوام، بالنصر المبين والحماس اليقين. أتى فيه، الفريق، على الأخضر باللون الأخضر على بساط العشب الأخضر تاركا اليابس للذين ينوون نزع ما في الصدور من غل وتغليب الروح الرياضية في كل نزال كروي على غرار بروتوكول الرجاء البيضاوي.
-5-
عود على بدء.
أولا، إذا كان أمبرتو إيكو لا يميل إلى كرة القدم، وتنفر منها جبلته، لذلك تحدث عنها بالكيفية التي أثبتنا مجمل أجزائها، في أثناء هذه الورقة، فإن رولان بارت في كتابه “أسطوريات” أهمل الكلام عليها كليا، ولم يدرجها في مدونة نصوصه التي اشتملت على نوعين من الرياضة فقط، هما: المصارعة وطواف فرنسا، الذي عده ملحمة. وهو ما يدعو ، في نظرنا، إلى التفكير في هذا “الغياب” وذلك “الحضور” في كلا الخطابين. ونحن، في سياق هذا التأمل الابتدائي، استحضرنا “الخطاب” الأول وأجلنا استدعاء ” الخطاب” الثاني والمقارنة بين الخطابين إلى لحظة للقراءة أخرى.
ثانيا، إن الشغف بكرة القدم لم يكن مرتبطا أبدا بغياب الغاية وإفشاء الغرور، وبإدراك الكائن باعتباره “ثقبا”، وبالفلسفات النافية، كما يعتقد السيد أمبرتو إيكو افتراء. بل على العكس من ذلك تماما، ارتبط بوضوح الفصول والغايات، وبكوجيتو الذات وشرفها في مقام السرد التاريخي، وبثبات الشخصية وأنماط تحولها، وبالكشف والحدس والاستبطان، وبفلسفة الجدل وفينومينولوجيا الروح، وبمعنى الحياة في أقصى تجلياتها.
إن الحكم الراجح في تعاليم رياضة كرة القدم هو الإيجاب وليس السلب، هو الإثبات وليس النفي، هو المحبة وليس المقت والارتياب. فكان أن استلهمت هذه التعاليم معارف الأخلاقيات، والطبيعيات، والرياضيات، والمنطقيات، وحساب الاحتمالات، والأسلوبيات، والجماليات، وتأويل الخطاب. وما يستجيب لفحواها. معارف يعلم بها صاحبنا جيدا ولا يجهلها، يستوعبها استيعابا لا يوصف ويقرها في أغلب مؤلفاته، لكنه يتغاضى عنها، وأكثر من ذلك، يزدريها ازدراء ويقدح في مقدماتها، وينظر إلى أشكال من خطاباتها المتمظهرة في الحقل الرياضي باعتبارها “ثرثرة رياضية ” لا طائل يرجى من ورائها، مستثمرا بالتضمين تعريف م. هايدجر للفظ الثرثرة في مؤلفه الوجود والزمان بكونها “إمكان فهم كل شيء من دون إحاطة أولية بالشيء “. يفعل ذلك بعلة تحرير مقال تحت الطلب، كثير الطنطنة قليل الفائدة، محمول على أغاليط السفسطائيات، وتبكيت فروض السيميائيات بمؤول حرب العصابات. من أجل تمييز قبلي لا يجدي نفعا بين الرياضة والفرجة الرياضية، وإسقاط وقائع خارج اللعبة وليست من صميمها على اللعبة نفسها باسم تمفصل السلطة، ورفع السياق الجزئي على حساب السياق الكلي. بعد أن طاله الشك، في سن مبكرة، في كرة القدم، بالتوازي مع الشك في وجود خالق للكون، متوهما أن العالم مجرد خيال معدوم القصد. فدخل، يومئذ، في أزمة عقدية. يضاف إليها أزمة كروية. ولم يعد الأمر متصلا بتعليقات على اليومي و”تكليم” الوقائع والأحداث والإبلاغ عن الأشياء وفحص مسألة الخطابات التي تحجب الخطابات الأخرى، أو ما يسميه رولان بارت “الفطنة السيميولوجية”، بل تعداه إلى الشعور بحالة نفسانية قصوى من القلق والتوتر وانعدام الأمن والخوف من الخطأ والصواب في تسليم الجواب. وبعبارة أخرى، تحول إلى شخصية قلقة في إدراك تحشية كل مسألة مسألة في التماس الرسالة ومحاولة ترتيب نوع الفهم ووسم الحدس وإنتاج المعنى المتعلق بها ومدى تأثير ذلك على المتلقي.
فلم تجنح، مقاصد اللعبة، في يوم من الأيام، نحو القلق، والبغض، والتسفيه، والإخلال بقواعد السلوك، والضلالة التي تقود إلى العمى، وإقرار بؤس الكرة، لسبب بسيط، وهو أن ذلك يتضمن تشنيعا فظيعا بجوهر كرة القدم الذي لا يتعارض مع شرائع الكون ونواميس الطبيعة، من جهة، ويدخلنا، بقوة، في مظان الخطاب المزيف الذي يحجب حقيقة الأشياء وهو يدعي الكشف عنها، من جهة أخرى.
وعليه، فإن أنشطة الخلاء الرياضية تعد فيضا من صور المحبة المثلى المرسومة لتحقيق السعادة في العالم وتعميم الخير المشترك على بني آدم .