كيف تطورت أميركا من الاضطهاد إلى القوة العظمى؟
![كيف تطورت أميركا من الاضطهاد إلى القوة العظمى؟](https://assoual.com/wp-content/uploads/2025/02/Comment-lAmerique-est-passee-de-loppression-a-la-superpuissance.jpg)
عقيل وساف
قبل 300 سنة فقط، كانت أمريكا عبارة عن أراضٍ بعيدة، لم تكن أكثر من مجرد مساحة غير معروفة في العقول الأوروبية. مع بداية الاستعمار الأوروبي للعالم الجديد، لم تكن الرحلات عبر المحيط الأطلسي تحمل سوى الوعود بالعواقب المجهولة. في تلك الفترة، قررت أوروبا أن ترسل المجرمين، وقطاع الطرق، وكل من يعتبرهم المجتمع غير مرغوب فيهم، إلى هذه الأراضي البعيدة التي سُميت بـ”العالم الجديد”، أمريكا. وعلى متن السفن، بدأ يتم إرسال هؤلاء إلى تلك الأرض المجهولة، ليشعلوا شرارة ما سيصبح فيما بعد أقوى إمبراطورية في تاريخ البشرية.
وبعد سنوات قليلة من وصول هؤلاء المهاجرين إلى الأراضي الأمريكية، بدأت المجموعات التي كانت تُرسل على سبيل الاضطهاد في تنظيم نفسها. وشكلت تحالفات مختلفة مع بعض السكان الأصليين، إلا أن هذه المجاميع سرعان ما تخلصت من هؤلاء السكان البدائيين. بحلول القرن التاسع عشر، شرع الأمريكيون في بناء نسيجهم الاجتماعي والسياسي، فبدأوا في التوسع على حساب الأراضي المجاورة، بما في ذلك مكسيكو، ثم تم تنظيم أنفسهم في دولة جديدة.
في وقت لاحق، في منتصف القرن التاسع عشر، عاشت أمريكا واحدة من أصعب فتراتها وهي الحرب الأهلية الأمريكية، التي دارت بين الشمال والجنوب، ما أدى إلى توحيد البلاد في النهاية. ومع ذلك، لم تكن التحديات قد انتهت بعد. فقد قرر الآباء المؤسسون أن يضعوا وثيقة تشكل الأساس لدولة أمريكا الحديثة، وتحدد شكلها السياسي والقضائي، فظهرت بذلك دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي أسس لحكومة اتحادية قوية تركز على الحرية والعدالة والمساواة.
بعد إتمام عملية التوحيد، أخذت أمريكا على عاتقها أن تفرض نفسها على الساحة الدولية، فبدأت في بناء جيش قوي يحقق لها التفوق العسكري، وكذلك أسطول بحري ضخم يحمي حدودها. ومع مرور الوقت، وبفضل المحيطين الأطلسي والهادي، استطاعت أمريكا أن تحافظ على أمانها، فتوسعت في مناطق جديدة معتمدين على القوة العسكرية في تكوين إمبراطورية جديدة.
ورغم ذلك، كانت تلك الحروب التي خاضها الأمريكان تثير جدلاً واسعاً حول الإبادة ضد السكان الأصليين، إلا أن العبرة الحقيقية من التاريخ تتجسد في الفعل وليس فقط في الأقوال. ففي تلك اللحظات التاريخية المفصلية، كانت القرارات تُتخذ، سواء على مرأى من العالم أو بعيدًا عن الأنظار، وتحدث التغييرات التي تكتسب قوتها مع مرور الزمن.
ففي بداية القرن العشرين، وجد العالم نفسه غارقًا في الحرب العالمية الأولى. ومن خلال تدخل أمريكا، استطاع الحلفاء أن يحسموا النصر، حيث قدمت أمريكا الدعم الكبير للفرق العسكرية المختلفة. وفي الحرب العالمية الثانية، كانت أمريكا تدخل المسرح بشكل أكبر، وبسبب الهجوم على بيرل هاربر، دخلت البلاد في الحرب بشكل مباشر، لتُحطم موازين القوى الدولية.
ومن خلال تدخلها، استطاعت أمريكا أن تسحق المحور الذي كان يحكم قبضته على العالم، ليصبح حليفها هو الذي يرفع راية النصر. وفي لحظة حاسمة في تاريخ البشرية، قامت أمريكا بإلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان في مدينتي هيروشيما وناغازاكي، وهو ما انتهى بإنهاء الحرب العالمية الثانية، لتعلن أمريكا للعالم أن عصر الإمبراطوريات القديمة قد انتهى.
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في فرض هيمنتها على العالم، حيث خاضت العديد من الحروب حول الأرض، من حروب فيتنام إلى حروب الشرق الأوسط. ومع مرور الوقت، أصبحت أمريكا القوة الوحيدة التي لا يمكن تجاهلها في الساحة الدولية. فتوالت الانتصارات على الأرض، وكما هو الحال في العراق، حيث دأبت أمريكا على معاقبة كل من يعارضها، كما دأبت على إسقاط الأنظمة التي ترى أنها تهدد مصالحها.
هذه القوة الهائلة جعلت الحلفاء يعترفون بأهمية العلاقة مع أمريكا، بل وأصبحوا يتطلعون إلى الدعم الأمريكي في مختلف المجالات. المساعدات الاقتصادية، التعاون العسكري، و التحالفات الاستراتيجية، كلها كانت أدوات تضمن لأمريكا التفوق الكامل على الساحة العالمية.
ورغم قسوة بعض القرارات الأمريكية على مر العصور، تبقى هناك العديد من الأسباب التي جعلت من أمريكا القوة الأعظم في تاريخ العالم. ففي الأساس، أمريكا ليست فقط قوة عسكرية هائلة، بل هي قوة اقتصادية صناعية جبارة. مع تكنولوجيا حديثة و ابتكارات تستمر في تغيير شكل العالم، أصبحت أمريكا محط أنظار الجميع. فبينما كانت الكسالى في المجتمع الأمريكي يُستبعَدون أو يُرمون في الشوارع، كان الأفراد المنتجون يتابعون طريقهم نحو النجاح، مدفوعين بالقيم الأساسية التي قامت عليها البلاد: الحرية، العدالة، والعمل الجاد.
فأمريكا قد لا تكون خالية من التحديات الداخلية، لكنها تملك إيمانًا راسخًا بالقانون والعدالة التي تصب في مصلحة الجميع. على خلاف العديد من الدول الأخرى التي تتسم بالصراعات الداخلية المستمرة والانقلابات السياسية، استطاعت أمريكا أن تكون دولة مستقرة على مر العصور بفضل التزامها بما خطه الآباء المؤسسون في الدستور كما يؤمن قادتها.
وبالطبع لا يُمكن لأحد أن يتجاهل تأثيرات أمريكا في مختلف جوانب الحياة اليومية. من الإنترنت إلى التكنولوجيا، من السيارات إلى الطائرات، كلها ابتكارات أمريكية غيرت حياة البشرية. وما يثير الدهشة أن أمريكا حققت هذه النجاحات الهائلة في 300 سنة فقط من عمرها، وهو ما يعد إنجازًا تاريخيًا لا مثيل له.
وفي النهاية، يجب على المرء أن يتعلم من تجربة أمريكا، وأن يسعى لبناء ذاته ومجتمعه كما فعلت هذه الأمة، لا أن يظل يترقب المخلصين في آخر الزمان. إن نجاح أمريكا لم يكن من خلال انتظار الحلول، بل كان عن طريق العمل الجاد، الابتكار المستمر، و الالتزام بالقيم الأساسية التي تم تحديدها منذ بداياتها.
وكما يقال في واشنطن، العاصمة الأمريكية، على لسان الآباء المؤسسين: “نحن أمة تمسك بغصن الزيتون بيد، وبالقوة الباطشة باليد الأخرى”، وهذه العبارة لا تمثل فقط تاريخ أمريكا، بل تظل خالدة كإرث يعبر عن قدرة الأمة الأمريكية على الجمع بين السلام والقوة في سبيل بناء دولة قوية ومؤثرة في العالم أجمع.