محكيات: محمد الطوبي “مَلِك الصَّعالِيك الجَميل”.. لاجئا في الدار البيضاء

عبد الرحيم التوراني
كلما مررت من أمام زنقة “كلوني”، المتفرعة عن شارع ابراهيم الروداني بحي المعاريف، إلا وحضرت أمامي صورة محمد الطوبي.
كان محمد الطوبي في آخر السبعينيات قد لاذ بمدينة الدار البيضاء كالهارب، قادما من مدينته القنيطرة، حيث كان يعمل موظفا بالمصالح البلدية.
ولأنه لا يشبه الآخرين، لم يستطع الانسجام مع باقي زملائه من الموظفين في مكاتب البلدية.
كيف لمبدع شاعر أن يتحول إلى موظف مرتشي؟!
ولأنه لم ينسجم ويصطف مع “الشلة”، أو”الجماعة” إياها، ما كان من زملائه في العمل سوى تدبير المشاكل له وإرغامه على طلب الانتقال. وهذا ما حصل.
انتقل محمد الطوبي من القنيطرة إلى الدار البيضاء التي افتتن بها، حيث كان يزورها من قبل بين حين وآخر، ونزل بضعة أيام ضيفا على ابن منطقته الكاتب محمد زفزاف.
عبد السلام زفزاف، الأخ الأصغر غير الشقيق للكاتب محمد زفزاف، (وقد كتب أيضا القصة القصيرة)، هو من ربط العلاقة بين أخيه من والدته وصاحب “المجد لينا يا حضرة النبيذ”.
تم تعيين الموظف القادم من القنيطرة في مصالح بلدية “السالمية”، الواقعة بهوامش مدينة الدار البيضاء الكبرى.
وطبعًا كانت المسافة بعيدة ما بين مقر العمل الجديد وإقامته في حي المعاريف، إذ تتطلب وقتا وتعبا، ولم تكن وسائل النقل متاحة ومتطورة بالشكل الذي هي عليه اليوم.
ولعل صاحب رواية “أرصفة وجدران”، الكاتب محمد زفزاف، هو من قاد الطوبي إلى زنقة “كلوني” المطلة على المبنى المركزي لإدارة شركة النقل “الساتيام”، قبل هدمه وبناء مجمع سكني ضخم مكانه. وبأول هذه الزنقة، على مقربة من مقهى شهرزاد، كان هناك فندق صغير يحمل اسم الزنقة، أي “فندق كلوني”. فندق بلا نجوم، لكن أصحابه السوسيين الأمازيغ لم يعرفوا أن نجما أدبيا كان من بين زبائنهم الدائمين.
الاسم “كلوني”، جاء من اسم بلدة صغيرة تقع شرق وسط فرنسا، أصبحت تشتهر في السنوات الأخيرة بمهرجانها الدولي للرقص الاحترافي. وقد اكتسبت أهميتها التاريخية بفضل طائفة متشددة من الرهبان المسيحيين، كانوا وراء تأسيس الكنيسة التي حملت اسم قديس اسمه ويليام كلوني. وفي العاصمة باريس كان يوجد نزل بالاسم ذاته: “فندق كلوني”، تم تحويله إلى متحف.
لاحقا، في عهد ولاية الاتحاديين على بلدية المعاريف، ستتخلى زنقة كلوني عن اسمها المسيحي، لتحمل اسما جديدًا لمؤلف يعد صاحب أهم مرجع في الأمثال العربية القديمة، أي “مجمع الأمثال”، وهو أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري، المعروف باسم “الميداني”. أما الفندق فقد بقي حتى اليوم مخلصا لعنوانه ولاسمه الأصلي الفرنسي.
ورغم تواضع الفندق الذي لا يتجاوز طابقا واحد إضافة إلى طابق أرضي، إلا أن السكن به كان يأتي على راتب الشاعر الفقير، فيقضي بقية الشهر بواسطة الدين والاقتراض.
***
تعرفت على الطوبي أول مرة في بيت محمد زفزاف، وسرعان ما نسجت بيننا صداقة إنسانية على خلفية أدبية. كنت أحرص بين الحين والآخر على مساعدة صديقي الشاعر وزيارته في غرفته بـ”فندق كلوني”، وغالبا ما كنت أجده يدخن سجائر “ماركيز” بعد مزجها بالحشيشة، (الجوانات). ويستمع من راديو كاسيط إلى أغاني المطربة وردة الجزائرية. أذكر أن أحب أغانيها لديه، أغنية حزينة بعنوان: “الوداع”، المشهورة بـ”خليك هنا خليك”، وكان لا يمل من الاستماع إليها مرات، ويدندن مرددا بعض مقاطعها. وهي من كلمات الشاعر الغنائي محمد حمزة وتلحين بليغ حمدي.
وتبدأ الأغنية بالمقطع التالي:
(الوداع .. ما بقيتش أخاف .. ف الدنيا دى ..غير م الوداع/ والضياع .. بحس لما تكون بعيد .. معنى الضياع .. معنى الضياع../ وخليك هنا خليك.. بلاش تفارق..
بتقول يومين.. وتغيب سنة.. بلاش تفارق../ خلتنى أخاف.. لما بحس بخطوتك.. واخداك بعيد بعيد/ عليك بخاف.. لما تقول كلمة وداع.. تانى من جديد..
خايفة من بكرة.. واللى هيجرى.. لما تروح../ وتغيب سنة.. وتفوت هنا.. حبيب مجروح..
ولا يا حبيبي لا.. الفراق ده لا../ شوف كام سنة من عمرنا.. ضاعوا مننا..
كام سنة.. كام سنة..
حرام عليك حرام.. وحياة عينيك حرام..
خليك هنا.. هنا.. بلاش تفارق../ وخليك هنا .. خليك .. خليك هنا).
***
عندما كانت تنشر قصيدة له في الملحق الثقافي لجريدة ” المحرر”، وكان ملحقا يصدر عادة كل يوم أحد، كان محمد الطوبي يهوى الاستعراض والتمشي فوق رصيف شارع ابراهيم الروداني، متمايلا مزهوا كالطاووس أمام زبائن مقهى “الصحراء”، ومقهى ومطعم “لابريس” الشهير، وجلهم كانوا من أسرة التعليم، ومن قراء يومية “المحرر” التي كان يصدرها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
لم تكن السياسة تستهوي كثيرا صاحبنا، كما لم يكن له أي انتماء حزبي، في الوقت الذي كانت تشغله القضية الفلسطينية، وقد كتب مجموعة قصائد في هذا الشأن، منها القصيدة التي سمى بها أول دواوينيه: “سيدة التطريز بالياقوت”، وهي قصيدة أهداها لروح الشهيدة الفلسطينية دلال المغربي.
غير أنه خلال حرب الخليج الأولى، التي اندلعت عقب إقدام صدام حسين على احتلال الكويت وتحويلها إلى “المقاطعة 19” تابعة لجمهورية العراق، وقف محمد الطوبي ضد التيار العام الذي ساد في المغرب أيامها، ونشر مقالات ونصوصا أدبية في مجلة “الحرس الوطني” السعودية، مناهضة للاحتلال العراقي، ومؤيدة للسعودية وللحلف الدولي الذي تكون بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ضد عراق صدام حسين. مع العلم أن وزارة الشؤون الثقافية العراقية، مع المشرفين على تنظيم مهرجان المربد الشعري السنوي في بغداد كانوا يدعون الشاعر محمد الطوبي باستمرار لحضور المهرجان قبل الغزو…
أثار موقف الطوبي هذا سخطا ونقمة عليه من نخبة المثقفين المغاربة، الذين وصفوه بالانتهازية وبالارتزاق.
أما علاقته مع محمد زفزاف فقد ساءت إلى درجة قصوى، صار معها زفزاف لا يرتاح لذكر اسم محمد الطوبي أمامه، ولذلك سبب غير سياسي، بل له صلة بواقعة ذات بعد “غير أخلاقي”، واقعة لم يغفرها زفزاف للطوبي بتاتا.
وقد أكد لي الصديق الكاتب محمد صوف غضب زفزاف لما أثير اسم الطوبي في إحدى الجلسات التي جمعت صوف بصاحب “المرأة والوردة”.
***
مما أذكره أيضا أن صديقنا الشاعر أحمد الجوماري كان من المعجبين بإنتاجات محمد الطوبي الإبداعية، إلا أن العلاقة بين الشاعرين لم تكن عادية، بسبب الخلاف غير الواضح بين الجوماري وزفزاف، وكان الطوبي محسوبا على هذا الأخير.
أما إدريس الخوري فلم يكن يرتاح لمحمد الطوبي، أو كما يقال كان “لا يشمه”، حيث كان لا يخفي عدوانيته تجاه الطوبي، ولا يتوانى في إطلاق أوصاف ونعوت ساخرة ومضحكة ضده، في حضوره وغيابه، ويصفه بالبداوة.
إجمالًا كان الطوبي إنسانا منزويا محبا للعزلة، لا ينفتح بسهولة على الآخرين. ولم يستطع أن يؤسس علاقاته الخاصة في الدار البيضاء والمعاريف خارج العلاقات التي كان يستفيد منها بواسطة محمد زفزاف، ومنها نزوله ضيفا لمرات على بيت المناضل النقابي المهندس مصطفى عزمي.
***
مرت أعوام لم ألتق فيها بالطوبي، خصوصا بعد أن رجع إلى مدينة القنيطرة، خلال هذه الفترة تبادلت وإياه بعض الرسائل البريدية، التي لا زلت أحتفط بها، وكلها كانت رسائل مودة وتقدير متبادلين. إلى أن بلغني خبر إصابته بداء السرطان، ثم نشر بلاغ رسمي يقول إن الشاعر يعالج على نفقة الديوان الملكي في مستشفى الأورام بالرباط.
في أحد الأيام من سنة 2003، سأصادف صديقي الشاعر محمد الطوبي يتجول ببهو محطة القطار في مدينة الرباط.. كان كالهائم وكمن يفتش عن لا شيء… بعينين مليئتين بالقلق والاغتراب، يتفرج على العابرين من المسافرين الرائحين والغادين.
كان يرتدي معطفا ثقيلا أسود وسروالا رياضيا بلون أزرق، أدخل قدميه في جوارب صوفية وصندالة من جلد أسود. أما الرأس فغطاه بطاقية مخططة باللونين البني والأبيض، لإخفاء نسل شعره بسبب السرطان. وكان الهزال باديا على ملامحه..
لم أتعرف عليه لو لم يقم هو بإيقافي. أخبرني صديقي محمد الطوبي أنهم يسمحون له أحيانا بمغادرة غرفته في المستشفى الأنكولوجي مولاي عبد الله بالرباط، لذلك يستغل الفرصة للنزول إلى وسط المدينة.
وقفنا أمام كشك الصحف والمجلات داخل المحطة (في صيغتها القديمة).. سألني الطوبي عما أبحث عنه، فأخبرته أني أفتش عن العدد الأخير من مجلة “الآداب” البيروتية، فرد علي أنه لم يصل بعد. ثم ذكر لي أنه ينتظر نشر ديوان شعري جديد له سيصدر عن دار نشر في ليبيا.
ثم تفاخر بحصوله على العطف الملكي، فسألته عن صديقته الكاتبة مليكة مستظرف، فأخبرني أنها لم تستفد من شيء، رغم أن القناة الثانية قد أذاعت في إحدى نشراتها المسائية بلاغا صادرا عن الديوان الملكي، يقول إن الملك قد أنعم على الشاعر محمد الطوبي والكاتبة مليكة مستظرف بالاستشفاء على حسابه.
ودعته بعد أن كتب لي رقم صندوقه البريدي الخاص على ورقة صغيرة صفراء، وكتبت له أنا عنواني مع رقم هاتفي في العمل.
في سنواته الأخيرة، وبعد طلاقه من أم أولاده، ربطت علاقة خاصة صاحب ديوان “ملك الصعاليك الجميل”، بالكاتبة الراحلة مليكة مستظرف، صاحبة رواية “جراح الروح والجسد“، وغلاف هذه “السيرة الروائية” في طبعتها الأولى كان رسما للشاعر محمد الطوبي.. ما غيره، وختاما لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى خطه الجميل، وكانت بعض الملاحق الثقافية والمجلات تفضل نشر قصائده مصورة بخط يده، وقد عمل مرات على استنساخ قصص وأعمال محمد زفزاف قبل إرسالها إلى النشر.