استحضار نموذج هابرماس للدولة في سوريا

نضال آل رشي
في ظل التحوّلات الكبرى التي تشهدُها سوريا مُنذ سقوط النظام الأسدي البائد في الثامن من ديسمبر من العام الماضي، تبدو الحاجة ماسّة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى إلى إعادة التفكير في مفهوم الدولة ودورها في تنظيم العلاقة مع المجتمع. ليظهر هنا الاختلاف الجوهري بين تصوّر كل من يورغن هابرماس وماكس فيبر للدولة، كمدخلٍ هام لفهم لماذا نحتاج اليوم إلى دولة هابرماس أكثر من دولة فيبر؟
يرى فيبر الدولة ككيان يحتكر استخدام القوّة والعنف الشرعيين، وتدار عبر نظامٍ بيروقراطي صارم وقوانين دقيقة، وتُبنى شرعيّتها على القوّة القانونيّة العقلانيّة. هذه النظرة، رغم ما فيها من تنظيمٍ وكفاءة إداريّة، إلّا أنّها تُغفل جانباً جوهريّاً وهو الجانب الإنساني والمجتمعي في الحكم.
لنبتعد قليلاً عن الجانب النظري ونطرح السؤال التالي: هل نستطيع تطبيق نموذج فيبر في سوريا؟
هذا النموذج يفترض توفّر مؤسّسات إداريّة قويّة واستقلاليّة بيروقراطيّة عاليّة، وقدرة على فرض القانون من مركز قوي والأهم واضح الشرعيّة. في حين أنَّ الواقع السوري بعيد كلَّ البعد عن هذه الشروط، إذ شهدت سوريا على مدى السنوات الماضية تفككّاً كبيراً، ما أفقدها السيطرة المركزية وشتّت مصادر الشرعيّة بين مجموعات طائفيّة وعشائريّة وإثنيّة مُختلفة. كذلك انهارت قدرة المؤسسات السوريّة على العمل بكفاءة، وتشظّى هيكلها البيروقراطي. ما يجعل من فرض نموذج فيبر للدولة الذي يقوم على القوّة والبيروقراطيّة وسيلةً لزيادة الانقسام وتعميق الصراعات بدلاً من حلها.
بالمقابل، يقدّم هابرماس نموذجاً مختلفاً كليّاً، حيثُ يرى الدولة فضاءً للحوار والتفاعل الديمقراطي، ومؤسّسة مهمّتها توفير الظروف اللازمة للنقاش العقلاني الحر، الذي تشارك فيه الكيانات الاجتماعيّة المختلفة بوصفهم شركاء حقيقيين في صناعة القرار. في دولة هابرماس، تُبنى الشرعيّة على الحوار والتوافق وليس على القوّة أو الخوف.
إنَّ الحاجة اليوم إلى نموذج هابرماس، تنبع من تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي، فالمجتمع السوري يعاني في ما يُعانيه أزمة ثقةٍ حادّة بين مكوّناته وبين مكوّناته والدولة المركزيّة. هذه الازمة ليست وليدة اليوم وإنّما تَرِكة ثقيلة خلّفها النظام الأسدي باستبداده على مدى عشرات السنين، ما عمّق المظلوميّات المناطقيّة والتباينات الثقافيّة والاحتقان المُجتمعي.
هذه المشكلات لا يمكن مواجهتها من خلال إجراءات بيروقراطيّة وقانونيّة بحتة كما تصورها فيبر أو كما تفعل السلطة الحاليّة في دمشق، بل تحتاج إلى حوار مفتوح يتجاوز القوانين الصلبة ليصل إلى توافقٍ مُجتمعي قادرٍ على إنتاج شرعيّة حقيقيّة ومُستدامة.
الدولة الهابرماسيّة ليست ضعيفة ولا هشّة كما قد يظنُّ البعض، بل هي دولة قويّة بقوّة الإجماع الاجتماعي وبناء الشرعيّة الديمقراطيّة الحقيقيّة.
إنّ الأزمة التي نعيشها اليوم في سوريا، من تصاعد للنزاعات وانهيارٍ للثقة بين الأقاليم والسلطة الجديدة في دمشق، تدفعنا نحو إعادة التفكير في النموذج الذي ينبغي للدولة الوليدة أن تتبناه. دولةٍ تفرض الشرعيّة بالقوّة أم دولة تستمد قوّتها من الحوار الحُر والتوافق؟
أظن بأن الاختيار واضح وأنّ المُمارسات الفايبريّة الحاليّة لن تؤدي إلّا إلى مزيدٍ من الانقسام، وأنّ الدولة الهابرماسيّة هي بلا شك ما نحتاجه اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى.