ولا تنس نصيبك من حصة الشيطان، في رواية “سدوم” (2-2)

لحسن أوزين
ثانيا: الأقدار التراجيدية
”لا يتم التواصل الأكبر إلا بشرط واحد أن نلجأ الى الشر يعني انتهاك المحظور، لذا علينا أن نبالغ. على الأدب أن يجعلنا نعيش المأساة، بدون مأساة لا نعرف الخروج من ذواتنا والتواصل مع خارج عنا غير قابل للفهم” جورج باطاي.
إذا كنا قد لاحظنا سابقا رعب القدر التراجيدي الذي عاشته كل من سامية وكاميليا، فإن رعب هذا القدر مع شخصية ميلاد يزداد شراسة وهو يعمق التناقض الوجداني الذي أسست عليه الرواية فنيتها الرائعة كإبداع أدبي خلص نفسه من التفاهة والرتابة المقرفة. ولم يكن ذلك ليتحقق الا في الجمع بين الخير والشر، الى درجة صارت فيه الرواية غير بريئة، أي مذنبة بتعبير جورج بطاي في كتابه “الأدب والشر”.
لم تكن الاقدار التراجيدية التي احتضنت ولادة ميلاد بين أم صبية حارقة ورجل” أب” سلخت منه الحياة بتوتراتها وصراعاته المجتمعية إنسانيته، وقذف به رعب الحياة في طاحونة ألم مُولد لعذابات الصمت القابضة على القلب الى حد الخرس الوجودي في وضع ما دون خط البشر.” ما الذي أجبر صبية حارقة الجسم على الزواج من رجل لا اسم له؟ كيف أفلت أنا وأختي من محارق رحمها لنولد كابنين لها؟ لم أكن أجد في مسامي وفي الفراغات الموحشة في أعماقي، أدنى علاقة بيني وبين أبي. كنت أشك في أن البؤس قد ترك لنقطة مائه المقهورة أدنى فرصة لتخصيب بويضتها النافرة.”144 من صدفة عمياء في الوجود يتبلور قلق مرعب وهو يزرع في الاعماق النصيب الملعون لنار الشر، فاسحا المجال لشحنة عدوانية أفرزها الانفعال الانشطاري الراغب في أسطرة الاب وإسقاط كل اللعنة عليه، وشيطنته كلوثة وبائية، أو رجس مدنس حامل لكل الشرور التي أصابت ليس فقط الطفل ميلاد بل الاسرة كلها في محنتها الرهيبة بين الفقر والقهر والاحتقار، محنة مؤلمة لم ترحم ميلاد على صغر سنه ضائعا بدون هوية أبوية تحميه في مجتمع ذكوري شديد القسوة والقهر” لا أحد ينسبني لأبي. لا أحد يذكر اسم أبي. وحتى عندما يتناسى أهل الحومة نسبتي لأمي، ينادوني: ” ولد البناي”. أنا ابن بناء، بل مجرد مساعد بناء بئيس، بلا اسم، بلا ملامح، بلا حضور… تعود على موال البؤس، يتثاقل في مشيته ليدخل المطبخ. أسمعه يشرب شايا باردا ويقرض خبزا بائتا، ثم يعود ليسقط من تعبه في فناء المنزل، وينام كأي حيوان تافه.53 هكذا كان ينتشر الحقد في دواخل الطفل كرغبة عارمة في قتل الاب، أو على الأقل تحويله الى مجرد أسطورة للشر المحض، الشيء الذي يسمح، وبشكل شرعي بسحب الاعتراف بقيمته الانسانية، الى درجة استنكار القدر المرعب الذي ورط أمه في حياة زوجية مبخسة لحقها في التمتع الوجودي بالحياة، ووضع البؤس يسرق منها بخيانة قصوى لحظتها وهي صبية في مقتبل العمر.” لم يكن لجسد زينة الأم أن يسقط في خرافة الأسرة الفقيرة المسحوقة الراضية. كان جسدا من ماس، من زمرد، لا يمكن أن يلمع ويعلن عن أصالته إلا بتعريضه لدرجة عالية من النار”.145 وهذا ما يفتح مجال حق التهجم على الأب واحتقاره دون عقدة الذنب والتأثيم، أو عذابات الضمير.” كعادته يعود كل يوم في تمام السادسة مساء، منهدا وبلا مجد. جسمه بلا ظل، وملامحه بلا ألوان، ويداه لا تنتجان غير انكسار الاعماق وخواء الامعاء… لم أكن أحس بالشفقة عليه، وربما أختي كذلك. تواطأنا في المنزل على احتقار نظراته. كنا في حاجة لصوت أبوي يملأ المكان قوة وطيبوبة، ويؤكد حرارة الدم العائلي في أحشائنا. كنا في حاجة لأب يسأل ويغضب ويحتج ويفرح ويعانق ويعنف ويصنع عالما من لا شيء. من كذبة. من حكاية. من مزحة. من بطولة مزيفة. لكنه كان يشبه عدته التي لا تدل سوى على بؤس صاحبها”149 في ظل هذه الأجواء المرعبة الى حد المأساة التي يستحيل الفرار من قدرها الملعون فتح ميلاد عينيه وشحنة الشر تشحذ نفسيته وذاكرته يوما عن آخر جاعلة منه مشروع قاتل أو مجرم. هكذا كان قدره التراجيدي ألا يكون طفلا بريئا وبالتالي صار شاعرا مذنبا في قوله الشعري. وإذا كانت آلية الانفعال الانشطاري قد وصمت أباه بالسوء والشر المحض في نوع من القتل الرمزي للأب لتبرير أحقيته في امتلاك الأم دون سطوة رعب طابو التحريم، فإن هذه الآلية في وجهها الاخر تسقط كل ما هو ايجابي على الأم في محاولة تبرير وبحث عن الاعذار لعلاقاتها الغرامية واحتفائها بالحياة من خلال متعة ولذة الجسد. إنه سدومي يخشى السقوط في متاهات الملل لذلك يصعد الراوي من سيرورة لعنة المأساة في الاشتغال على انتهاك المحرم المنخور بشقاء البؤس، المرهق للجسد والنفس الأمارة بالسوء في ثقافة الملة ” وأتسلل مثل قط لأسمع صوت الماء ينزل على جسد أمي. أسمعها تغني وهي تستحم. ربما لهذا السبب تجرأت على الاقتراب من المرحاض. كان غناؤها مثيرا ومستفزا، ويشبه الغناء الذي نسمعه من الشيخات في الاعراس الشعبية. هي لم تكن تغني. كانت تحتفل بجسدها. كانت تدلع لحمها كأنها تغري مجهولا لا يراه إلا هي.”53 وسرعان ما يدرك ميلاد أنه هو بالضبط ذلك المجهول الذي لا يراه إلا هي. وبموازاة ذلك القتل الرمزي للأب الذي يمارسه ميلاد في نفسيته ونظرته ودلالاته إزاء الأب، وبتحفيز ضمني من قبل الأم ” بغريزة غامضة، كنت أعرف أن الشخص الذي تريد أمي أن تمحوه من الحومة بممحاة، ليس إلا أبي.”144 كان نار الرغبة الجنونية يحرق دواخله في انتهاك المحرم، وهو يخلع المقدس الصراطي عن أمه، الشبيهة بالشيخات – وهي كلمة مرنة لتحاشي المعتم في لغتنا اليومية، أي لعدم قول القحاب – حين تخرق السقف الاخلاقي للفضيلة والحشمة والوقار في واقع حيث ” تنهار حدود الاخلاق والحرمات ويصبح كل شيء مباحا… فالكيان اللاشيء يقبل أن يمارس عليه أي شيء، كما يتدهور الى ممارسة أي شيء. نحن هنا بعيدون على مستوى الهدر الانساني عن حالات “نبل الفقر” والاحتفاظ بالكرامة رغم الفاقة والعوز. بينما تعلي الكرامة الذاتية وتقدير الذات من حرمة الكيان وحرمة الجسد في آن معا. ومن ذلك الإباء والأنفة والشمم على مستوى الموقع والمكانة والمأكل والملبس والحركة والسلوك والتفاعل وصولا الى الترفع. يكون ذلك ممكنا عندما لا يتعرض الانسان لما دون خط البشر”.
وفي هذا الصراع الظاهر والخفي الذي يخوضه ميلاد كرعب تراجيدي محتوم ينتصر لأمه في حقها الانساني في التمتع بالحياة، لكنه في الحقيقة يتورط في حصة سدوم بالتباساتها المغرية.” صعقت عندما رأيت أمي عارية تماما للأول مرة. كانت صبية مغرية تتلوى وهي تمرر كيس الصابون بين نهديها وتحت إبطيها وأسفل صرتها وبين فخديها وجذعها وخاصرتها، ليصل قدميها. في تلك اللحظة، كنت أنسى كل شيء، وأجد لأمي عذرها الأنثوي حين تسب أبي. كانت صبية منذورة للفتنة والحياة. وكان أبي جُعَلاً منذورا لتكوير فضلات البهائم.”54 وهو انتصار لبعده الحيواني الملتبس بالقواعد الاخلاقية المجحفة، وهي تضعه في قدر شيطاني لأسرة أنهكها القهر الاجتماعي والاقتصادي والنفسي، الذي قوض أسسها الاخلاقية في التواصل الانساني في تعبيراته الروحية والجسدية، أي التمتع بالحياة الآن هنا. ففي جو أسري ملؤه الفقر المدقع والحرمان العاطفي و الجنسي، واحتدام الإثارة واستفزاز الرغبة المقهورة بالتبخيس والاحتقار والعنف الرمزي والجسدي الذي كان المعلم يمارسه في حق ميلاد أمام أقرانه مستهدفا تفكيك نرجسيته حين عرى مؤخرته، وهو يشبعه ضربا مع سيل من الشتائم السوقية البذيئة التي نزلت كالصاعقة على هويته الفردية فخلخلت وجوده الذاتي مسيئة الى اعتباره الانساني. ” كان السي الجيلالي ينتقم من فقري ومن زفارة رجلي، وكانت أمي تنتقم من بؤس أبي وظلم العالم، وكنت أمحو كل فاصل بين السماء والارض، لكي أجد لنفايات جسدي وروحي مساحة نائية تغطي على نتانتها… وحده صوت أمي وغناؤها وتحرش الماء بجسدها الفتي خلف ستارة المرحاض، كان يخلق لي وميضا من سديم مطلق.”146 في ظل هذا الوضع كانت تولد الشرور كما لو كانت الخطيئة أو الجريمة تؤصل نفسها في الروح بنوع من التواطؤ الرهيب بين احتفاء الأم بجسدها واشتعال الظلال المعتمة بنار الرغبة في جوف ميلاد، و في غياب امكانية التماثل بالأب أو السلطة الابوية البديلة لم يكن ممكنا الحديث عن العلاقة الثلاثية المنفتحة لتثبيت عقدة أوديب وتجاوزها، مما ورط الطفل في صراع محموم مع مبدأ التحريم ” جسدها الفتي الرشيق الذي أخطأ موعده مع المتعة، وصوت الماء ينساب فوقه مثل عاشق رجيم، وهي تمرر كيس الصابون بين نهديها وبين فخديها وتحت إبطيها مثل أفعى ملتوية. خلف الستارة الشفيفة الفاصلة بين المرحاض ووسط المنزل، نتواطأ معا على لحظة محرمة تخترق رائحة البؤس المنتشرة في كل مكان. أنا وهي والصمت الزاني… كأنما تمعن في احراقي أو في احراق البؤس.” 143وفي اشتغال الذاكرة على هذا الماضي الحافر في القلب بالحديد والنار لوثة الاشتهاء الملعون يتأكد التواطؤ الخبيث لانطلاق الوحش من جحره الشيطاني دون فواصل أخلاقية تجاه مبدأ التحريم” والآن وقد كبرت، صرت على قناعة بأن أمي كانت على علم بشيطنتي، ولم تفعل شيئا. كنت أرى نظراتها الخبيثة التي توحي بأنها تعرف ولكنها تمكر. لقد تواطأنا على اللعبة من دون أن نتفق صراحة على ذلك.”54 و في خضم هذا الصراع المنهك للذات الى حد التحلل الحامل لمعنى الانحلال مما يشرع لرغبة إنتهاك المحظور، خاصة وأن ميلاد تورطه استيهامات عنف متخيل الشهوة في الاعتقاد بأنها صارت له وهي تقصده وتعنيه.” ولا ينقطع تلصصي على تحرش الماء بجسدها الحارق الذي لا يزداد إلا شبقا. لم تكن لأبي، ولم تكن لعشاقها الكثيرين، كانت لي. حمامها لي. غناؤها لي. سوالفها لي، وأمومتها ذات الرائحة الملتبسة بملوحة العرق والعطر الرخيص، كانت لي.”150
كان الراوي مدركا ضرورة مكابدة ألم هذا الرعب القدري الذي لا مفر منه ولا أمل في الخلاص منه إلا في توريط الرواية في مزيد من رعب الشر، وهي تشحن ميلاد بمزيد من القهر والعدوانية التي تزداد نارها وتكاد تحرقه بحمم بركانها الملتهب في الاعماق، فتكاد أن تدمره، في بحثه المشؤوم عن آخر موشوم بوصمة السوء حماية للذات من التفكك والانهيار، خاصة وهو يسمع تأوهات عشيق أمه.” عندما سمعت أول صوت، وضعت أصابعي على أذني وضغطت على طبلتيهما. لكن الأصوات كانت مجلجلة، وفوق احتمال طفل كان يرى الجنة تسحب من تحت أقدام الأمهات. في صوته كان موتي. في شخيره كان إعدامي. وفي تأوهاته كان اغتصابي. كنت أموت، وكان ذلك السوسي الحقير يمعن في قتلي دون أن ينظر في عيني، ودون أن يتحمل مسؤولية موتي.”151
لذلك ليس غريبا أن ينتهي هذا التوتر العنيف المروع بجريمة قتل الأم. ” إذا لم يستطع العاشق امتلاك معشوقه، يفكر أحيانا بقتله، إنّه في الغالب يفضل قتله على فقدانه”.
لذلك عندما نتعرف حجم المأساة التي عاشها ميلاد كطفل زج به في أتون المحرم الاخلاقي والاجتماعي والاقتصادي…، ندرك ما قالته سامية في حق ميلاد بعد أن قرأت مذكراته.” هل يعقل يا ميلاد أن تكون بهذه الشاعرية المؤذية في كثير من الاحيان، وقد عشت كل هذه المآسي؟”146 التي جعلت الشر يقترن بشعره الذي صار مذنبا، ولا سبيل له إلا أن يكون كذلك، وإلا صار مملا مقززا يبعث على الغثيان. وفي هذا السياق قلنا بأن الرواية غير بريئة في اشتغالها على الشر المعتم القابع في حصة الشيطان. ” لم أكن أتلذذ بجسد عشيقاتي العابرات. كنت أموت لأحيا في صورة طفل أنكرت عليه حقارات أبيه وعهارات أمه أن يصل الى ذاته. لكني وصلت حين انتهيت شاعرا. ولكن من أين أمتح حدوسي وصوري ومادتي الابداعية؟ هل يمكن لقاتل أن يختبئ في جبة شاعر؟ يمكن لمبدع أن يستبطن الموت الحقيقي كصف في كتيبة الاعدام التي كانت مستعدة لإطلاق النار عليه، لكن القدر أخطأه، مثلما حدث لدوستويفسكي، وأن يمتح من فكرة الاعدام، كل عالمه الروائي العظيم.”150
وفي هذا الصراع المؤلم الذي عاشه ميلاد كقدر تراجيدي محتوم تتبين لنا المشكلة الحقيقية التي يتستر عليها الراوي في جعله ميلاد مجرد قناع لمشكلته هو التي تتخطى سلطة التحريم لتطال واقع السلطة في القوانين والاعراف والتقاليد، والفضيلة الرفيعة، والعقيدة المتممة لمكارم الاخلاق، وفي سياسة الحياة العارية التي تقدف بالإنسان داخل الاقدار التراجيدية. فالقدر التراجيدي الذي عانى ميلاد ويلاته بشكل فظيع، ما هو إلا مجرد ظاهر صندوق الصوت بتعبير شارل مورون لما يخفيه الراوي من صراعات كشف المستور وفضح المعتم المظلم الذي تسيجه القوانين والاخلاق والاعراف الزائفة التي لا تملك أية مصداقية إزاء الوحل اليومي الذي يتمرغ فيه الناس في شروط لا إنسانية.، ينعدم فيها الاعتراف بالإنسان في حرمته وحصانته وقيمته. ” إذا صار الادب في ذاته شريرا من بعض الوجوه فالسبب يعود الى ما يقوم به من وصف للرعب والفظاعات التي يكون الانسان قادرا على ارتكابها. وعلى هذا النحو فهو يسمح للإنسان بأن يعيش تجربة نابعة من كيانه، وإن رفض القبول بها على الصعيد العقلي المحض باعتبارها تكون حقيقته.”
وما قلته عن كاميليا وسامية وميلاد ينطبق بشكل أو بآخر على أحلام وإسلين ونوري والراهب في عيش الاقدار التراجيدية بنوع من الاحساس التراجيدي العميق بالوجود، كصراع ظاهر لما يعتمل في جوف الراوي من هزات وزلازل مشبعة بالظمأ اللانهائي بتعبير دوركايم نحو المخاطرة في تخطي الحدود، وخلخلة السائد، واختراق حاجز الصمت والتهميش والاقصاء لكل مناطق الظل المعتمة ليس في الفرد فقط، بل في المجتمع ككل.
ثالثا: فن الوجود
جمالية الرواية في متعتها ككتابة تدرك اللحظة كأبدية، تعاش بكل الجوارح وفق جدل رائع بين الحواس والجسد في مغامرة تتخطى القيم السائدة، وفي بحث مستمر لكل ما يمكن أن يمتع الذات، ويجعل الحياة، سواء كانت شعرا سامية وميلاد، لوحة كاميليا، مسرحا إسلين، فيلما نوري، رواية الراهب، جميلة وساحرة أخاذة. هذا ما حاولت جماعة الشلة لشخصيات الرواية تشخيصه وممارسته، في تعريتها لمناطق ظلالها وهي تشتغل على ما هو معتم وشيطاني في الذات والاخر والواقع الحي باحثة عن المتعة واللذة إثراء للحواس و للجسد كحاضر لا ينتهي في سخاء اللحظة دون خشية الصيرورة والرقابة المجتمعية. ولعل في مكابدة جماعة الشلة كما يسميها الراوي للأقدار التراجيدية ما جعلها تمتلك الاقتدار الادبي والفني والاجتماعي للاستثمار في شهوة ومتعة الجسد والابداع إدراكا منها لضرورة الاهتمام والعناية بالذات بعيدا عن السقف الاخلاقي والفكري والثقافي والعقائدي في تحرير حق الحياة كمتعة ولذة وتعبيرات جسدية من كل أشكال الوصايا والاوامر والنواهي التسلطية التي تعمل على هدر الرغبة والجسد إلتفافا على إنسانية الفرد والجماعة والمجتمع.” مع إزرا دخلت عالم الأنوثة الحقيقي. طوحت بعذريتي في وجه الظلام، ومنحت جسدي هسيس النار وصخب الصمت وانفجار الاعماق في غرفة خافتة الضوء… لم يكن سهوي عن تناول منع الحبوب عاديا. كان جوابا لا شعوريا عن رفضي لخازوق العقيدة. كنت أحبّني وأحبه ككائنين منحتهما الشمس حرائق الشهوة “77و80 هكذا كانت الشهوة متعة ولذة واعترافا برغبات الجسد كحاضر يعاش الآن هنا، بعيدا عن سطوة التقليد الذي يتستر على البعد الحيوي في الانسان بشكل فيه الكثير من النفاق والتحايل والمنع والكبت المقصود للتحكم في الرغبة والجسد تكريسا للقهر والتسلط والحجر العقلي بما يسهل عبودية الانسان ، وتأبيد الوضع النتن الذي يسهل هدر حياة الناس في شروط ما دون خط حياة البشر. واشتعال روعة الرواية أيضا يتمثل في قدرتها على التقاط التحولات المجتمعية التي اجتاحت العالم العربي، خاصة على مستوى ظهور مختلف الجماعات الشبابية المتمردة على السائد بشكل يثير السخط والتذمر من قبل العقليات المحافظة. التي تنظر بالريبة والاستهزاء الى سلوكاتها وطقوسها ونمطها الوجودي وأساليب الحياة التي تتبعها في الموضة واللباس والموسيقى والرياضة( الالتراس) وفي استهتارها بكل الاعراف والتقاليد الاخلاقية والاجتماعية والسياسية، وفي استغلالها لكل الفضاءات لتأكيد وجودها الذاتي و الفني والادبي، وفي الملاعب بأغانيها وشعاراتها الخاصة المتصعلكة الى حدود الشر في غالب الاحيان المتجسد في أعمال الشغب العدواني. وفي اللامبالاة والعزوف والمقاطعة للشأن العام الرسمي والانتخابي… وهي ظاهرة سوسيولوجية و انثربولوجية ناقشتها الكثير من الاقلام. لذلك تبدو لنا جماعة الشلة في الرواية جزء من هذه الجماعات المختلفة، وهي الظاهرة التي تطرح نفسها كضرورة مجتمعية أفرزتها تحولات وعوامل شديد التركيب والتعقيد، وليست مجرد رؤى وأفكار تعسف الروائي في الاشتغال عليها مقحما إياها بشكل متعسف. هذه هي السياقات التي تقرأها الرواية بشكل حواري فني( تعدد الاصوات واللغات والرؤى…) وهي تحاول كشف الغطاء عن منطقة الظل للشر القابع في أعماق الفرد والجماعة والمجتمع. لهذا ليس غريبا أن تخرج علينا الرواية بهذا الشكل من التشخيص الروائي. ” نحن حيال تشظ حقيقي للشرنقات الفردية بموازاة انتعاش وضعيات التعاطف والحميمية وأشكال الانصهار الجماعي الأخرى. والظاهر أن الوضعيات إياها تسير في هذه النقطة بالذات، على خطى نبوءة نتشه القائلة(فلنتعلم شيئا فشيئا، كيف نتخلص من هذه الفردية المتوهمة.)ض كل هذا معناه أن التيه ما عاد قضية أدبية بل ممارسة يومية تتأبى على الوظيفة الضيقة الموكولة لفرد معزول.” وهذا ما نلمسه بحدة واضحة في العلاقات واللقاءات التي تجمع بين شخصيات الرواية كجماعة الشلة من بين جماعات الكثيرة آخذة في البروز والفعل والحركة. ” هكذا هي أمسياتنا دائما. على هامش كل ملتقى إبداعي، نصر أن نلتقي جميعا، نسهر.. ندخن.. نشرب.. وكثيرا ما نصحو، وقد وجدنا أننا لم نختر رفيق السرير. كانت أسرارنا التي لا يعرفها غيرنا.”18 هكذا كانت تعيش مغامراتها كتيه في الذات والمكان، بين دروب المدينة وفضاءاتها المتعددة، أو بين جبال الاطلس في عمقه الثقافي والمجتمعي، كهوية في صيرورة تعدد واختلاف. ورغم ما تتميز به شخصيات الرواية كقبيلة جديدة، من تخط وانتهاك للسائد فهي لم تكن قادرة على أن تخلو من الأسرار، لأنها بطبيعتها هامشية منفلتة من عقال المألوف الراسخ تحت حكم العادة والقهر. لكنها مع ذلك ورغم خيباتها وانكساراتها وتراجيدية مصائرها تحاول كرواية أن تحتفي بالمتعة والرغبة والجسد، أي تحتفي بالحياة ككتابة إبداعية، مؤسسة أفقا نقيضا لاحتقار المتعة والجسد، والكراهية للحياة العاجلة في انتظار رعب الموت الحامل لوعد الفوز والنعيم. وبشكل واضح تمارس فن الوجود في الاهتمام بالذات والعناية بها وعشق الحياة.
إذا كانت شخصيات الرواية قد خاضت صراعا مؤلما سواء كتجربة فردية ذاتية، أو كتواصل وتفاعل جماعي من أجل حرية الجسد كقيم اجتماعية ثقافية، فإن شخصية إسلين قد مثلت الشكل الراقي لهذا الاحساس والوعي والعيش الجمالي لتجربة الجسد كحرية، من خلال المسرح فرجة حية ملموسة لتعبيرات الجسد في انتزاع حقه في الاعتراف والوجود ليس كفكرة فكرية فلسفية، بل كفرجة احتفالية جمالية خالقة لمتعة وسعادة الانسان. بمعنى نمط وجودي في الحياة، حيث الاحساس والمتعة بروعة الانسان جسدا حاضرا لا مغيبا ومحتقرا في جسده وبالتالي في حريته وجمالية حياته. أي أن يعيش الانسان خِفّته وفرحة وجوده في متعة جمالية ينجزها، يكتسبها عن جدارة الفعل الخلاق للمتعة، ويستهلكها دون أن يتحول جسده الى عبء ثقيل من القوانين والاعراف والاوامر والنواهي الدينية التي تحول دون انطلاق طاقاته الحيوية. أو أن يتحول- الجسد- الى عقبة وجودية أمام تحصيل سعادته وعيش فرحته في التمتع بكامل جسده في حواسه من لمس وسمع وبصر وذوق، وفي متعه ولذاته بعيدا عن رهاب العورة المحبط والمقيد لحريته في العيش بصحبة الجسد، لا باعتباره عدوا مسكونا بالرجس والذنب والخطيئة والسوء، مما يتطلب قمعه ووشم ذاكرته بالرعب كما حدث لميلاد في المدرسة، أو ما فعلته الأم للراهب بالسفود الاحمر، أو في احتقاره وتسييجه بالمعتقدات والفكر التجريدي الذي يجهل جمال وروعة العيش بصحبة الجسد الآن هنا وليس من خلال الوسواس القهري لاستيهامات الحور العين في جنة الخلد. لقد استطاعت إسلين أن تذهب في نزالها لجذور الشر الى عمق التاريخ الحافل بالقهر والدم باسم نشر المعتقد الشرعي الحق للواحدية في الايمان والتفكير والممارسة والسياسة، والمؤسسة للاستبداد والتسلط باسم السماء. كما سافرت في أدغال الهوية الاجتماعية والثقافية، من خلال فرجة أحيدوس كعمق أثربولوجي استطاع فيه الانسان تدبير منطقة ظلاله المعتمة وحسن استعماله للشر في نوع من الاحتفاء بما اعتبر حصة الشيطان- الجسد – في التمتع بجمالية وروعة الجسد كحرية خالقة للمحبة والتلاحم والتعاطف.
وعرت إسلين أسطورة البغاء، تلك الوصمة السيئة للأطلس غير البريئة من فعل السياسة ، للتغطية على التاريخ المجيد لفعل المقاومة المسكوت عنه في تاريخ الحروب والبلاط الى درجة إسدال الستار على جزء من الذات والتشهير بهويتها الثقافية والاجتماعية. وكانت للشرع أو الدين السياسي لوثته الخبيثة في دعم هذا الاغتيال الرمزي لثراء وخصوبة العمق التاريخي الاجتماعي والثقافي الامازيغي خوفا مما يحمله كنمط وجودي وأساليب حياة تعلي من شأن الحرية والمتعة والجسد بشكل جمالي إيثيقي شوهه تسلط الشرع وقهر الاستبداد، الشيء حال دون ولادة مفهوم الجمهور بالمعنى الفني المسرحي، لا بمعنى الجمهور الرياضي. لذلك ليس غريبا أن يسود النص المسرحي المتوفر بكثرة، وتقل أو تنعدم الفرجة المسرحية التي غالبا ما يشوش عليها الممثل على الهامش الذي يصعب عليه أن يكون جمهورا مسرحيا. لهذا تم الاعتداء على إسلين فوق خشبة المسرح، وهي تخلق متعة الفرجة، متعة الحياة وجمال الوجود كجسد يستهلك بنهم فرحته الآن هنا، وليس في الدار الآخرة تحت وطأة عبء الموت، كما تعتقد نصية الممثل على الهامش. ” إن من يحرم الناس من الفرح يحرمهم أيضا من كمالهم، من منبع اقتدار الجسد الذي فيه ينفصل الكمال عن اللامتناهي، لان الكمال لحظة يغدو فيها الحاضر كثيفا بفعل القوة المتضمنة في الانتشاء والاشباع. فالكامل أكثر هو المستمتع أكثر، المشبع في حواسه والمنتشي في جسده. ولا خير إلا فيما يبهج ويقوي قدرة الجسد على الفعل، ولا شر إلا فيما يجعلنا أكثر كآبة”.
رابعا: هسيس الرواية
“لم يكن الأدب أبدا يفكر ي نفسه… بحيث يكون في آن واحد موضوعا روائيا وموضوعا مرئيا. كان يتكلم دون أن يكلم نفسه. وبعد ذلك… بدأ الأدب يعي كيانه المزدوج، أي كونه موضوعا ورؤية لهذا الموضوع، خطابا وخطابا لهذا الخطاب، أدبا- موضوعا وميتا- أدب” رولان بارت
لاحظنا منذ البداية بأن الرواية تكلم نفسها تحاورها ككتابة لها منطقها الداخلي و آلية اشتغالها في انتاج المتعة الجمالية، وهي تمتح تصوراتها من خلال الاشتغال على الرغبة والشهوة والجسد كمتعة متحررة من سطوة القهر الاخلاقي القامع للجسد في تجلياته المختلفة شعرا ومسرحا وفنا…،” يكتب مثل روائي حقيقي يضع فنه فوق كل مبدأ أخلاقي. أجمل ما في الراهب هو أنه قتل صوت الفقيه في أعماقه.. أنا لا أكتب أيها السفلة… أنا أضاجع.. بدون استبطان للذة الجنسية لا يمكن أن نكون مبدعين حقيقيين. والاولى أن نتخلى عن أقلامنا ونبيع المواعظ في الأسواق.”200 هكذا كانت الرواية تقدم تصورها الخاص للإبداع، أي أن أدبيته في متعته وانعتاق حرية الرغبة في اطلاق الطاقات الحية الجمالية للجسد في الاحساس الجمالي بالوجود” لهذا كنت أعتبر كل ابداع لا يحتفل بأسرار الجسد ثقيلا ثقل مواعظ الفقهاء”105. وهي تحيلنا في ذلك على ملاحم الاغريق ومسرحيات سوفوكل ، وحكايات ألف ليلة وليلة…، التي استطاعت بقوة جمالية رائعة أن تكون خالدة من خلال تعريتها لما هو معتم في حياة البشرية، أي لمتعة الجسد في الفرح بالحياة ” تضيء جوانب من العتمة البشرية المتعلقة بالجانب الجسدي الايروتيكي، الذي حاول التقليد الفقهي الشرعي قمعه والتستر عليه واعتباره غواية شيطانية”109 لذلك تنتصر الرواية لتوجه خاص في الكتابة الابداعية باعتبارها نصا متعددا في أصواته ولغاته ورؤاه، وفي هدم الحدود بين الاجناس الادبية. إنها كتابة تنتصر للحياة في احتفائها بمتعها الجسدية والابداعية ، ضد المنطق الاخلاقي السائد في انتصاره لثقافة الموت والخطيئة، و المتطفل على الابداع وبالتالي على الحياة” أحس أن الشعر هو انتصار الانسان على حتمية الموت”202 .
ولم تكن الرواية وهي تفكر في نفسها لتغفل عن نقدها اللاذع للكثير من الانتاج الروائي الغارق في الخنوع الاخلاقي خوفا من عتمة الجسد الموشوم باللغة الشيطانية.” أجد الرواية مضاجعة حقيقية. معظم الروايات العربية هي مجرد عوالم أخلاقية متأدبة.”44
وقد عانت الرواية كثيرا من سطوة الراوي الذي لم يتحرر كليا من الرقابة المجتمعية، ومن اللاشعور الثقافي الجمعي في تبخيسه لقيمة الانسان من خلال أحكام قيمة جاهزة لتدمير فرديته وتفكيك وجوده بتحطيم عمقه النرجسي المحصن لوجوده الذاتي. وهذا ما ورطه في مشكلة البحث عن تبريرات واهية لإقناع القارئ بالحد الفاصل بين المتخيل والواقع، بين القصة والخطاب، أي بين واقعية المتن و متخيل المبنى.
” فمثلما يكون الهلع معيارا للحب يكون العطش للشر معيارا للخير. إن قراءة هذه اللوحة الساحرة وما يتعتم فيها يكمن في عدم امكانية القبض على أحد جوانبها دون الجانب الآخر المكمل له. يبدو أنه بالإمكان القبض على الشر، لكن بالقدر الذي يكون فيه الخير مفتاحه. فإذا لم تمنح القوة النورانية للخير سوادها لليل الشر، سيفقد الشر كل جاذبيته. ثقيلة هي هذه الحقيقة، ثمة شيء ينط في وجه من يسمعه. وبالرغم من ذلك نعرف بأن التوقعات الأكثر قوة للحساسية تنبثق من المتضادات.”
الهوامش مأخوذة من الرواية، عبد الحميد شوقي، “سدوم”، دار الآداب – الطبعة الأولى- عام 2015