هل حقا تحولت الأنظمة في العالم إلى نظام التفاهة؟

هل حقا تحولت الأنظمة في العالم إلى نظام التفاهة؟

يزيد البركة*

كانت مفاهيم: التفاهة، السخافة، الرداءة، الخرقاء، تستعمل في وصف أفعال أو أقوال بشرية، ‏فردية أو جماعية في المجتمعات، وقد استعملها كتاب وصحافيون ومثقفون في مناسبات ‏لوصف إجراء ما أو تصريح ما لحكومة من الحكومات في العالم؛ غير أن الفيلسوف الكندي ‏ألان دونو ‏Alain Deneault‏ ، (بحدود معلوماتي)، كان أول من قال إن “نظام التفاهة” أصبح نظاما ‏يبسط أسسه على العالم، وذلك في 2015 عندما أصدر كتابه بعنوان: 

“‏la médiocratie‏” (نظام التفاهة)، وهو لم يقفز إلى هذه الحقيقة قفزا، فقد فضح عددا كبيرا من المؤشرات الدالة ‏على هذا التوجه في سياسة بلاده، كما يفعل العديد من الكتاب والسياسيين والصحافيين ‏التقدميين حول بلدانهم في العالم، بحيث صدر له كتاب قبل هذا في سنة 2008 بعنوان: 

” ‏noir ‎canada: Pillage,corription,et criminalité en Afrique‏‏”

 (كندا السوداء: النهب ‏والإفساد والإجرام في افريقيا)، وقد توبع قضائيا بسبب هذا الكتاب من طرف لوبي التعدين ‏في كندا. 

‏بعد سبع سنوات من إصدار كتاب “نظام التفاهة”، اتضحت الصورة أكثر من ذي قبل، ويمكن ‏لأي متتبع موضوعي أن يلاحظ علامات كبيرة تدل على ذلك التحول، الذي عرفته الأنظمة في ‏مضامينها وأشكالها، فعندما كنا نصف نظاما ما بأنه ديكتاتوري أو ديموقراطي، كان ذلك ‏بتجاوز أن قراراتهما كانت تتصف بشيء من الحكمة والجدية والذكاء، وبشيء، ولو بسيط من ‏القيم، إلا أن ما يلمس الآن عند الديكتاتوريات والديمقراطيات على حد سواء، تفاهة وسخافة ‏ورداءة، ليس في إجراءات وأقوال، كما كان يحدث في بعض الأحيان في السابق، بل أصبح الأمر ‏في صلب النظام ونسقه العام.‏ 

يرصد “ألان دونو” العديد من أسس هذا التحول، ويعطي مثلا بالخبير والمثقف، حيث يلاحظ ‏أن نظام التفاهة أصبح يعتمد على الخبير ويبعد المثقف، لأن الخبير يضع كفاءته خارج قيمه ‏وعقله وأخلاقه، ليوظفها النظام أو الحيتان المفترسة المالية والتجارية والصناعية، أو المؤسسات ‏المالية الدولية. وفعلا عندما ينزل خبراء مؤسسة مالية دولية إلى بلد ما، ينزلون إليه وقد ‏زُودوا مسبقا بهدف محدد يجب تحقيقه، مثل تخفيض أعباء الدولة، وكل التقارير التي ستنجز ‏هي في الحقيقة ستخدم ذلك الهدف، والخبير لا يمكنه أن يمس بطبيعة الحال الأسس ‏الاستغلالية التي انبنت عليها العلاقات الاقتصادية الدولية، ولا أسس العلاقات الاستغلالية في ‏ذلك المجتمع الذي أُرسل إليه. لذا يذهب مباشرة إلى حقوق الطبقات المقهورة ليمس بها.‏ 

وفي الصحافة والإعلام لا يمكن ألا يلاحظ المتتبع ما أصاب هذا الميدان من تردي على جميع ‏المستويات. وهنا لا يجب علينا أن نلوم الصحافي وحده، فإذا تجاوزنا عددا قليلا ممن يشبهون ‏الخبير الذي رمى كل القيم ولا يحمل إلا قلما في الخدمة لمن يشتري، فإن هناك نوعان من ‏الصحافيين، نوع يقاتل ويكافح، ونوع يداري ويساير، وأغلب هؤلاء الأخيرين تحت رحمة ‏المؤسسة الرسمية، أو المؤسسة الخاصة الكبيرة.

‏اطلعت على مكالمة اعترضتها روسيا ونشرتها، بين مسؤول مؤسسة إعلامية كبيرة غربية، ‏وبين صحافي أرسل إلى أوكرانيا، ويظهر من الكلام أن الصحافي أرسل من طرف وسيلة ‏الإعلام من أجل إنجاز تقرير عن انتهاك الجنود الروس لحقوق المدنيين. يقول الصحافي ردا على ‏المسؤول:

– لا.. الجنود هنا ودودون مع الناس، كل شيء تمام..

 يرد المسؤول: 

– يظهر أني مضطر ‏لتعويضك بفلان، وذكر اسم صحافي آخر.

 يرد الصحافي: 

– أوكي، سأبحث عن بعض الجنود ‏الروس الذين يمكنهم أن ينتقدوا.. 

لكن هناك أساليب أخرى أكثر ذكاء، تقوم بها المؤسسات ‏الكبرى مع أمثال هؤلاء، وقد ظهرت بجلاء في عدد من مناطق النزاعات والحروب، مثل ‏العراق وسوريا وليبيا، والآن في أوكرانيا، وهي إرسال صحافي إلى مكان محدد لكتابة تقرير ‏بموضوع محدد، وبدون أن يزور أو يختلق الأخبار، وتكون الوسيلة الإعلامية بذلك قد وصلت ‏إلى هدفها، لأن العبرة تحصل في النهاية، بحيث يوضع ذلك التقرير في إطار دائرة كبرى من الرسالة ‏الصحافية السياسية التي تبنتها الوسيلة الإعلامية، مثل إرسال الصحافي إلى المدن الحدودية ‏بين أوكرانيا وبولندا بمهمة إنجاز تقارير عن معاناة المدنيين، من نساء وأطفال وشيوخ، الذين ‏يعبرون الحدود هربا من الحرب. هنا لا يحتاج الصحافي إلى الاختلاق، وهو يعتقد أنه يمارس ‏مهنته بصدق، لكن الواقع أن تقريره يودع داخل رسالة سياسية كبرى مزيفة ويخدمها.

‏نظام التفاهة يتعلق بكل أوجه نشاط الحياة العامة، أو ما يسمى عادة الفضاء العام، وتتحكم في ‏دواليبه فئة قليلة من المجتمع، حولته من نظام مبني على العلاقات الاقتصادية والسياسية ‏والاجتماعية والثقافية والفنية، لامتصاص أكبر قدر من الفائض الإنتاجي، إلى لعبة مبنية على ‏نفس تلك العلاقات، لكن بأداء فرجوي سخيف ورديء. أي بمعنى آخر العلاقات الاستغلالية ‏ازدادت سوءا وتغلغلت إلى كل المسام الفردية والجماعية، بحثا عن حتى فتات المداخيل، ولو ‏كانت بسيطة وبأسلحة جديدة انضافت إلى القديمة، مع  تغيير  من يتحكم في الاستغلال ومن ‏ينظمه ومن يزينه إذ  أصبح سخيفا وتافها وينتج في نفس الوقت التفاهة.

‏يمكن للقاريء أن يطلع على الكتاب في طبعته الأصلية بالفرنسية، وقد ‏ترجم إلى العربية، كما ترجم إلى الإنجليزية، وسيجد أن المؤلف لم يبالغ أو ‏يضرب أخماسا في أسداس.‏ 

*كاتب وناشط سياسي مغربي

Visited 4 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة