الصراع الغربي ـــ الروسي: كر وفر
د. جمال القرى
يتفاقم الصراع بين روسيا والدول الغربية في الشرق ومناطق أخرى في العالم، لأسباب تعود لمحاولات روسيا تعزيز مواقعها السياسية في الشرق وفي مناطق أخرى من العالم واستعادة لقوتها الإمبراطورية السابقة وتلك التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي من جهة، ولمحاولات الولايات المتحدة والغرب كبح جماحها واستبعادها عن الساحة العالمية من جهةٍ أخرى.
على أن هذا الصراع ليس وليد يومه، بل يشكّل استمراراً للصراع التاريخي الطويل بين الإمبراطورية الروسية والإمبراطوريات الغربية، خصوصاً الفرنسية والبريطانية ليصبح اليوم بين روسيا الإتحادية من جهة وبين الغرب الذي ضعف لصالح الولايات المتحدة الأميركية. على أنه لا يجب أن يغيب عن البال العامل الديني والطائفي والعرقي في تأجيج هذه الصراعات. فروسيا الأرثوذكسية، التي كانت ترى في نفسها حامية للأرثوذكس في العالم ووريثة الإمبراطورية البيزنطية وروما الثالثة، واجهت العالم الغربي الكاثوليكي الذي كان ينظر ولا يزال نظرة دونية إلى كل ما عداها بما في ذلك العالم الأرثوذكسي والعرق السلافي تحديداً.
لقد تحدّدت بؤر هذا الصراع التاريخي واتّخذت أشكالها الحادة في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان وأجزاء من أفريقيا، بالإضافة إلى مناطق الشرق الأقصى. وكان كل ذلك يحدث على أساس المصالح الاقتصادية والجيو – سياسية المرتبطة بفتح أسواق جديدة وبالسيطرة على الطرق التي تربط الدول المستعمِرة بالدول المستعمَرة. وفي هذا الإطار، لطالما شكّل الشرق وآسيا الوسطى والقوقاز منطقة متنازع عليها استُخدمت فيها كل أنواع المواجهات.
الأهمية التاريخية لآسيا الوسطى والقوقاز للإمبراطورية الروسية والإمبرطوريات الغربية، كان لروسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مصالح مباشرة في آسيا الوسطى التي شكّلت أهمية كبرى نظراً لموقعها الجغرافي ومساحتها وأرضها الخصبة ونشاطها الصناعي والتجاري، بالإضافة إلى تنوّعها السكاني والقومي. وجرى تركيز الانتباه على القبائل العربية والكردية وعلى أحوالهم المعيشية وعلاقتهم بالإدارة المحلية ومدى نفوذ هذه الإدارة عليهم، كما على علاقاتهم فيما بينهم، وبين القادمين من الأصول القوقازية الشيشانيين وغيرهم. وهنا يتبيّن أن السياسات الروسيّة كانت تتحسّب لتداعيات هجرة مسلمي القوقاز داخل الإمبراطورية العثمانية. بالإضافة إلى ذلك، أولت روسيا أيضاً أهميّة للمعلومات حول نفوذ عملاء الدول الغربية في أوساط هذه القبائل، وخصوصاً الإنكليز منهم.
على أنه يمكن القول أن السياسة الروسية حينها، اتّسمت بالروح المحافظة المرتبطة بالزاوية الدينية. فالمسألة الأرمنية التي اولتها اهتماماً خاصاً ارتبطت بتوجّسها من نشاط الحزب المتطرّف للأرمن الأتراك الخاضعين للنفوذ الغربي، كونه يهدّد بإضعاف الدور الودّي للمجمع المقدّس مع البطريركية الأرمنية الغريغورية. وهذا ما جعل روسيا تعتمد على الأرمن الذين يعيشون في الجبال ويحافظون على هوّيتهم ويدافعون عن قيم تقاليدهم الدينية.
في ذلك الوقت، كانت خطط الدول الغربية (ألمانيا، فرنسا وبريطانيا) تهدف إلى الحصول على إمتيازاتٍ لإنشاء الموانئ، خطوط سكك الحديد والشوارع الأساسيّة التي لها خصوصية استراتيجية وتوصل إلى منابع المواد الخام، وتكون في الوقت نفسه قريبة من حدود روسيا ما يسمح لها في حال نشوب حرب أوروبية معها من نقل جنودها عبرها إلى الاماكن المحاذية للحدود القوقازية. وفي نفس الوقت، تصادمت مصالح الدول الاستعمارية على تقاسم مناطق النفوذ تلك وتغلغلت مخابراتها وتصارعت فيما بينها في تلك المنطقة المحاذية لروسيا ووصلت إلى ما وراء وشمال القوقاز.. فعلى سبيل المثال، كان آندرس الألماني، الشخصية العسكرية ونائب القنصل الذي وصل إلى الموصل في كانون الاول (ديسمبر) العام 1905، قد ذهب إلى روسيا عدة مرات في مهمّة استخباراتية، جاب خلالها كل المناطق الحدودية الجنوبية لروسيا والدول المجاورة من بلاد فارس وأفغانستان ودرس سبل وظروف التحرّك العسكري المحتمل عليها من خلال الاراضي المجاورة؛ ووصل في تلك الفترة أيضاً إلى الإسكندرون ثلاثة ضباط بريطانيين موفدين بمهمةٍ من الحكومة البريطانية من أجل دراسة المنطقة، وذهب كل واحدٍ منهم باتجاه، صوب بغداد، الموصل ومنها إلى حدود بلاد فارس، وقام الثالث بالتصوير الطوبوغرافي للأماكن المحاذية لخليج الإسكندرون وزار القرى التي كانت تُعتبر أكثر الأوكار الثورية الأرمنية خطورة. أما دور الباب العالي فعمل حينها على توزيع الاستثمارات بين عدة دولٍ غربية لتُتاح له إمكانية المناورة ومنع تعزيز تأثير واحدةٍ منها.
مرحلة ما بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي
تعود منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز لتشكّلا مسرحاً للصراع بين دولة روسيا الاتحادية وحلف الناتو المتمثّل بالدور الأكبر للولايات المتحدة في محاولة لإضعاف روسيا عبر خلق أزمات بين دول المنطقة التي كانت جمهوريات في الاتحاد السوفياتي السابق. وتبدو الصراعات القائمة اليوم والتي سبقتها في بداية القرن الحادي والعشرين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، فتغليب دول الناتو إحداها على الأخرى وتأجيج الصراعات فيما بينها في وقت واحد تحت مسميات مختلفة، إنما يهدف إلى تشتيت قوة روسيا في اتجاهات عدة لعل أبرزها وأكثرها خطورة هي الحرب الروسية – الأوكرانية التي جعلها حلف الناتو حربه بالوكالة مستغلاً ضعف الخاصرة الأوكرانية وجاعلاً من زيلينسكي بيدقاً مطواعاً لا يدرك مدى خطورة ما ينفّذه، والتي باتت تأخذ طابعاً عالمياً نظراً لتداعياتها الاقتصادية والعسكرية والجغرافية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الصراع المتجدّد بين أرمينيا وأذربيجان وبين قيرغيزيا وطاجكستان وبالأمس في جورجيا وأوسيتيا ومحاولة الولايات المتحدة إنشاء قواعد عسكرية لها في المنطقة بعد انسحابها في العام الماضي من أفغانستان، إنما سيفتح باب الصراع في كل المنطقة الحدودية المجاورة لروسيا. على أن الأمر سوف يتفاقم أكثر ما أن تدخل دول إقليمية أخرى بشكلٍ مباشر على خط الصراع والنفوذ وتغلّب مصالح دولة على أخرى كإيران وتركيا لتتوسّع المواجهة.
<
p style=”text-align: justify;”>الصراع اليوم، لا يمكن اختزاله بتراند الحرية والديموقراطية، أو بتوسّع جغرافي واحتلال، إنه صراع على الموارد الاقتصادية يًضاف إليه تصفية حسابات مع الاتحاد السوفياتي السابق. فبينما توصّف الولايات المتحدة عملية دخول القوات الروسية إلى الجزء الشرقي من أوكرانيا كعملية غزو، تتناسى حربها في يوغوسلافيا وغزوها الدموي للعراق وأفغانستان وغيرها من دون وجه حق، والغزو الاستعماري الغربي السابق لعددٍ كبيرٍ من الدول في كل القارات بحثاً عن مواد أولية وأسواق واستعباد السكان المحليين وجعلهم يعملون بالسخرة والأغلال تشدّ على أياديهم وأرجلهم ورقابهم. وها هي تؤلّب العالم الغربي وتفرض معه العقوبات الموجعة على روسيا في محاولة لكسرها وإضعافها، بل لشطبها عن الخارطة مستخدمة لذلك أكثر الأدوات تحريضاً ضدها وصولاً إلى التهديد باستخدام السلاح النووي التكتيكي أو الاستراتيجي، وهذا ما يصحّ فيه المثلان الشعبيان: “اللي بيدري بيدري، وإللي ما بيدري بقول كف عدس”، “ضربني وبكى، وسبقني واشتكى”، صحيح أن روسيا دولة توسّعية وفقاً لمصالحها، ولكنها ليست استعمارية أو استغلالية. ويمكن لها أن تتعب أو تضعف أو تخبو، ويمكن أن تستبدل قياداتها، ولكنها تبقى روسيا، الدولة العظيمة بقدرات شعبها العظيم وحضارتها المتنوعة الموزّعة بين الغرب والشرق. إنه صراع فيه كرّ وفرّ ولا يمكن لأحد أن يلغي الآخر من خلاله.