جريمتا العصر والرئيس المرتقب
د. وفيق ريحان
جريمتان لا مثيل لهما في هذا العصر، شكلتا سقوط الوطن بالضربة القاضية، ألا وهما جريمة إنفجار مرفأ بيروت وتداعياتها الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والإنسانية، وإنعكاسها السلبي على حسن سير أهم المرافق الحيوية العامة للدولة اللبنانية. وجريمة تهريب الأموال الى الخارج من المصارف التجارية في لبنان، والسطو على أموال المودعين في تلك المصارف تحت حجج وذرائع واهبية، والتكتم الشديد من قبل بعض أركان السلطة عن تلك الحقائق وعرقلة التحقيقات الجنائية ذات الصلة من قبلهم خشية إفتضاح الحقائق المدوية. وكي لا تنكشف الأقنعة عن بعض الوجوه القذرة التي تحتمي بالطوائف والمذاهب ومكوناتها السياسية، حتى تصدع بنيان الوطن خلال السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السابق “ميشال عون” ، وتفاقم الدين العام ليتجاوز المئة مليار دولاراً أميركياً، بإستثناء أموال المودعين التي لا يعرف مصيرها حتى الآن، والتي تزيد هي أيضاً عن المئة مليار دولاراً أميركياً، في ظل التدهور المستمر في الناتج الوطني وميزان المدفوعات وإنكماش حركة الصادرات وتدهور سعر العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية، وإنخفاض مستوى دخل الفرد الى أدنى مستوى عالمي، بعدما كان وحتى نهاية العام 2018 محافظاً على بعض التوازن والإستقرار في مستوى المعيشة والرواتب والأجور، وحيث كان الإحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان يناهز السبعة وثلاثين مليار دولاراً أميركياً مع موجودات المصارف من الودائع المصرفية، وحيث كانت الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الوقت تبحث عن مصادر جديدة لتمويل العجز في الموازنة العامة بالحصول على قروض جديدة بالعملة الأجنبية بواسطة “سيدر3 ” وسواها من المصادر الخارجية، من أجل تدارك السحوبات الكبيرة وغير المسبوقة من الإحتياطي الإلزامي لدى مصرف لبنان والتي لم تتمكن تلك الحكومات من سدادها أو الوفاء بها نظراً لتفاقم كتلة الدين العام الداخلي والخارجي، بسبب السياسات الفاشلة وغير المسؤولة لتلك الحكومات، وإنعكاس ذلك على الأوضاع المعيشية للفئات الشعبية والفقيرة من اللبنانيين وعلى أوضاع المؤسسات والشركات التجارية الخاصة، مما أدى الى إعسارها بنسبة تجاوزت الستين بالمئة، وإعلان إفلاس العديد منها، وتسريح عشرات الآلاف من العاملين فيها نتيجة الظروف والعوائق التي رافقت تلكالحقبة الزمنية،
منذ أوساط العام 2018 حتى أيامنا الحاضرة. بالإضافة الى المؤثرات السلبية الهائلة لفيروس كورونا على الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية، وعلى أداء الإدارات العامة والمؤسسات العامة للدولة، وتدهور قيمة الرواتب للعاملين فيها أضعافاً مضاعفة، مما أدى الى إضمحلال الطبقة الوسطى التي تشكل عصب الحياة في الميدان الإقتصادي والإجتماعي والمصرفي، وإنتشار فوضى السوق وعجز الدولة عن لجم تفلت الأسعار ومافيات الدولار، وصدور التعاميم المجحقة بحق المودعين عن حاكمية مصرف لبنان، والتي إنطوت جميعها على “إقتطاعات قسرية” من أموال المودعين (الهيركات) والتي وصلت نسبتها في بعض التعاميم الى إقتطاع نسبة (70%)، لا سيما التعاميم ذات الأرقام (158 و154 و151) وملحقاتها من التعاميم الوسيطة، حتى إنفجر الشارع اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول للعام 2019، في العاصمة بيروت وإنتشار حالة الغضب الشعبي لتشمل كافة المناطق اللبنانية، ومما أدى أيضاً الى إستقالة رئيس الحكومة السيد “سعد الحريري” تحت وطأة الإنتفاضة الشعبية العارمة، وعجز حكومته عن التصدي للأزمات المتفاقمة والمحدقة، ثم تلتها عدة حكومات متعثرة لم تتمكن جميعها من الإستجابة للمتطلبات الإصلاحية الملحة على جميع الأصعدة، وكان لجريمة إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب للعام 2020 الأثر المدوي في تدهور قيمة النقد وتراجع الدخل الوطني، وزيادة الخلل في الميزان التجاري وميزان المدفوعات، عدا عن الخسائر البشرية والمادية والإقتصادية التي فاقت كل التوقعات.
وإذا كانت حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها الرئيس ميقاتي، قد إٍستجابت الى شروط وتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بنسبة محددة، ووضعت خطتها المزعومة للتعافي الإقتصادي، وساندها في ذلك مجلس النواب في إقرار بعض مشاريع وإقتراحات القوانين المسماة إصلاحية،، إلا أن موازنة العام 2022 كانت مخيبة للآمال لإستنادها الى تشريعات ضريبة متصاعدة في ظل التدهور الإقتصادي، وضمور الناتج المحلي وإفتقارها لأي رؤية إقتصادية أو إنمائية أو حتى إجتماعية، مما يجعل المسؤولين عن هذا الصندوق غير مقتنعين بجميع تلك الإجراءات، في ظل الفراغ الرئاسي القاتل وعدم وجود حكومة أصيلة وكاملة الصلاحيات لكي يتم التفاوض معها?
بالإضافة الى أساليب المراوحة غير المشؤولة في عملية إنتخاب رئيس جديد للبلاد، وإنسداد آفاق التغييرات الإصلاحية في هذه المرحلة، وإحجام المجتمع العربي والدولي عن مد يد المساعدة للبنان، نظراً لإنعدام الثقة العالمية بالطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ الطائف حتى اليوم، بأساليب المحاصصة الطائفية وتوزيع المغانم على أمراء الطوائف وعدم الإلتزام بتطبيق دستور البلاد في أغلب الأحيان، والتدخل السافر في القضاء والأجهزة الأمنية وسير الإدارة العامة والتوظيف العشوائي، وتهميش دور الأجهزة الرقابية، على حساب بناء دولة القانون والمؤسسات والعدالة الإجتماعية والإنماء المتوازن وتنمية القطاعات المنتجة، وتأمين فرص العمل للأجيال الصاعدة التي هاجرت الى بلاد الإغتراب بحثاُ عن المستقبل في أوطان يسودها الأمن والإستقرار السياسي والإقتصادي والإجتماعي.
نقول ذلك، ونحن أمام الإستحقاق الرئاسي الذي لم يعد ممسوكاً من قبل أي فريق من الكتل السياسية والنيابية المتنافسة، ولعل جلسات الإنتخاب السبع الماضية لهي خير دليل على ذلك، ولعلها الفرصة المؤاتية اليوم لمغادرة النهج الفئوي والتدميري السابق لمنظومة الفساد في السلطة منذ ما بعد الطائف حتى اليوم، وهي رسالة نوجهها الى جميع نواب الأمة على إختلاف إنتماءاتهم الفكرية أو السياسية أو الطائفية، للإبتعاد عن سياسة المحاور الخارجية، والإلتفاف نحو مصلحة الوطن والمواطن، وإختيار الرئيس الذي يعبر عن مشاعر جميع اللبنانيين الذين جمعتهم المصائب والأزمات العابرة للطوائف والمناطق، لأن الجوع والغلاء والحاجات المعيشية والحياتية قد دخلت الى كل بيت على أرض الوطن، وتواصلت مع جميع المغتربين في بلاد الإنتشار الواسعة والذين ما زالوا يشكلون حتى اليوم خشبة الخلاص لأهاليهم المقيمين في الوطن، ويحلمون بالعودة الى بلدهم مستقبلاً في جو من الإطمئنان والإستقرار والإزدهار.
نحن نريد رئيساً لجميع اللبنانيين، يكون مخلصاً لوطنه وشعبه، وقادراً على مواجهة الأزمات المحدقة، وبعيداُ عن الممارسات الطائفية والمذهبية، لإنقاذ الوطن.