تعدد الأقنعة والإنسان فينا واحد في رواية “ليلة مع رباب”

لحسن أوزين
” أما قال فرانز كافكا: (الكتابة هي انفتاح جرح ما) ؟183
تضعنا رواية “ليلة مع رباب” لفاتحة مرشيد، من أولى صفحاتها أمام جراحات السرد العاري. فهي بوح من الأعماق تفجر الكثير من الأسئلة التي تخص القيم والعلاقات الاجتماعية والإنسانية. هي لا تريد أن تتهم أو تدين وتصدر الاحكام جزافا، بقسوة طاغية ظالمة، بل سعيها وأفقها الإنساني أن تتفهم الانسان في شموليته، في جدلياته وتناقضاته، في المسخ الذي طال أو جرد منه قيمته الإنسانية، واختزله في بعد نمطي واحد. لذلك تحاول الرواية أن تفهم عمق الجراحات الغائرة المكبوتة والدفينة في عمق الذات. باحثة في البنى التاريخية الشخصية، وفي الابعاد النرجسية المشكلة للذات تبعا للرؤى والتصورات والأفكار والقيم والدلالات والعلاقات. وفي دوائر التكون والتطور للسيرورات النفسية والاجتماعية والثقافية التي تؤسس الذات مجتمعيا وثقافيا وتاريخيا ونفسيا. هدفها تسليط الضوء على الكثير من العتمة والشر الذي نتستر عليه، باعتباره حصة الشيطان التي يجب التنكر لوجودها، كجزء عضوي جدلي لما يحددنا ويشكلنا عبر مسارات ومنعرجات تطور سيرورة العمر، الممعن في الهروب فينا ومنا الى حد الشعور في لحظة ما، من رحلة الحياة أننا تعرضنا في محطة، أو مرحلة،، لنوع من اغتصاب العمر. الشيء الذي يفاجئنا بشيخوخة لم تكن في الحسبان. تهجم دفعة واحدة لتقضم بشراسة وألم ممزوج بسخرية لاذعة، ما تبقى من ساعات الاحتضار الرهيب. فيشعر المرء عندها، كما لو أنه مر ليلا في هذه الحياة يطارد سحابة بيضاء، تمثلت له حينا في صورة امرأة ساحرة الجمال. وفي حين آخر في الثروة والجاه والمكانة الاجتماعية، الناجمة عن عقدة المشهدية. وفي لحظة فجائية في سيرورة العمر تنزل الشيخوخة بكل ثقلها الرهيب، ليكتشف أنه كان يركض ليلا بعيدا عن أمل التمتع بجمالية ضوء النجوم.
لهذا تستفزنا الرواية، توقظنا من غفلة الركض الجنوني وراء حمى التملك والامتلاك الجهنمي، الذي لا يمنحنا روعة جمال احتضان في النفس السكينة، وتقوى السؤال الإنساني العميق. ومن ثمة تنشر الرواية بشكل أو بآخر غسيلنا القذر الذي كنا نحجبه عن الأنظار. و نتبرأ منه، وننسبه للآخرين، متحصنين وراء قناع وهم الخير والفضيلة ومكارم الأخلاق الكاذبة. وغالبا ما نتلبس صورة الملاك التي تميزنا عن الاخرين.
هكذا في سياق سيرورة تفاعل القارئ مع أسئلة الرواية، تنفجر تلقائيا الكثير من الجراحات التي كنا نعتقد أنها خارجنا وليس داخلنا. فيكون لجمالية التلقي هذه دورا رفيعا في عملية إنتاج المعنى وتوليد الدلالات الكامنة، ليس فقط في شقوق النص وطياته، بل أيضا في العتمة التي نتواطأ ذاتيا على ترسيخها وتكريسها بطريقة مبدأ نكران الواقع. وحجب الذات عن نفسها، والحيلولة دون تعرفها زلاتها وسقوطها ونقاط ضعفها وقوتها. مساهمين من حيث لا ندري في إعادة إنتاج قذارة الشفرة النفسية الاجتماعية للاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي، المولدة للحقد والكراهية والالغاء والاقصاء ونبذ الاخر كأنا نفسي.
لهذا الأسباب وغيرها كثير بين صفحات الرواية، وجدت نفسي أمام صفحة الكتابة، ليس رغبة في اغتصابها أو فض بكارة عذريتها، كما يقول سيف الراوي وهو يعانق وجع الكتابة. بل بحثا عن نوع من التواصل اللاعنفي المنمي للذات والأخر.
تؤكد رواية “ليلة مع رباب” لفاتحة مرشيد، قدرة الأدب، وبشكل خاص الشكل الروائي على تناول القضايا والظواهر التي تهتم بها العلوم الإنسانية والاجتماعية. فالمعضلات والمشكلات والأسئلة الحارقة الاجتماعية والسياسية والنفسية، والمعرفية الفكرية…، التي تتناولها العلوم السابقة بصورة تخصصية، من زاوية نظر محددة، تُغيب فيها الكثير من الوجوه والأبعاد والعوامل والتفاعلات والدلالات، يستطيع الإبداعي الروائي، المتمكن من صنعة أدواته الأدبية، وشغل آلياته الفنية، والرؤى الفكرية العميقة المتسعة المنظور، الإلمام والإحاطة بكل الأبعاد والوجوه المختلفة، بشكل تفاعلي يحقق جدل التكامل في وصف وفهم وتفسير القضايا والظواهر، وبحث الأسئلة الحارقة…
هكذا تمكنت رواية ليلة مع رباب من تناول تعقد الإنسان في أنماطه الحياتية، الوجودية التاريخية والاجتماعية. و تفكيك دينامياته النفسية الشديدة التركيب والتعقيد. فهي لم تكتف بالأبعاد السطحية الوصفية الذاتية، بل تخطت هذا المستوى الأحادي الضيق، الى محاولة تفسير، أدبيا أوجه القصور والضعف والقوة. ومختلف الأسباب التكوينية، في تاريخ شخصيات الرواية، في ارتباطها بالعوامل والتفاعلات الاجتماعية العلائقية، بين ما هو ذاتي متعلق بتاريخ بنية الشخصيات النشوئي والتطوري. وخارجي عبر الحفر العميق فيما هو اجتماعي تاريخي متعلق بالبنيات الثقافية والاجتماعية والقيمية. مع استحضار كبير للتصورات والمعتقدات والتمثلات، ومختلف التعبيرات الثقافية الشعبية التي تؤطر وتشكل منطق وآليات التفكير الذهني والنفسي المجتمعي. هذا يعني أن الرواية، من خلال أدواتها الفنية، وآليات الكتابة الأدبية التي تشتغل تبعا لمنطقها الداخلي في التمثيل والتشخيص، وإعادة التركيب لوحل الواقع الحي، تمارس النظر والتأمل العميق الى الانسان، باعتباره محصلة لكل هذه المعطيات الذاتية الداخلية والخارجية في تفاعلاتها وعلاقاتها وارتباطاتها المتبادلة التأثير والتأثر.
أولا قراءة للعنوان في سياق النص: ليلة مع رباب “سيرة سيف الراوي”
يبدو العنوان من جانب، ساحرا جذابا، محفوفا بشعرية خلاقة لوهم تذويق القارئ متعة التوحد الصوفي الناذر، الأقرب الى العشق الجنوني في امتطاء السحاب الأبيض، هروبا في خيالات هوامات العتمة، التي ولدتها ظروف الولادة الكارثية، والنشأة الاجتماعية الموشومة بقسوة الرفض والوصم البشع. إنه هروب من وحل الواقع الذي رسب في أعماق النفس الممنوع والمحرم والتابو، والالتباس والغموض والالتفافات، المتلبسة للكثير من الأقنعة.
ومن جانب آخر فالعنوان تنضح من مسامه لعنة الفحولة التي تختبئ في ممراتها النفسية العميقة، أشكال من الحرمان الجزئي أو الكلي، والنبذ العاطفي الاجتماعي، الذي يجد في هوامات الدافع الجنسي، (ليلة)، امتيازا ذكوريا،(سيف) كبديل نفسي للتعويض عن مشاعر النبذ والاقصاء والدونية، واستحالة حل عقدة الحب المستحيل، الدفينة في جوف التاريخ الشخصي المجروح في بنية هوية ذاكرته النرجسية.
ثانيا الأنماط الوجودية والديناميات الشخصية والنفسية
1- عبد الحفيظ: الوصم السيئ
نتعرف على المتن الروائي من خلال الراوي الذي عاش كشخصية محورية، تحولاته وتقلباته وصيروراته، التي جعلته يدرك التعدد والاختلاف الذي صاره، من مرحلة عمرية لأخرى. فقد صادفت ولادته، وخروجه الى الحياة، في لحظة صغيرة من الزمن، كارثة طبيعية لزلزال أدى الى وفاة أمه وجدته. الشيء الذي عجل بإسقاط الوضم السيئ على كيانه الإنساني. وأسطرة وجوده البشري باعتباره كائنا غريبا، موشوما بلعنة النحس والشر والبؤس و النبذ والاقصاء المشحون بمسافات التطير والكراهية. لهذا وجد نفسه ملفوظا من طرف الجميع، خارج الدائرة المجتمعية، وغير مرغوب فيه بشكل صريح. كما لو أنه شر يجب عزله، أو التخلص منه تجنبا للكوارث والمآسي اللصيقة بوجوده الحي. هكذا كانت تنشئته الاجتماعية الثقافية القيمية، موسومة بحالة من التصحر الإنساني. مما جعله يعاني ويلات الحرمان العاطفي الكلي في المرحلة الأساس ” الطفولة” من وجوده البشري، المحاط بالكثير من العنف الرمزي، الناتج عن لعنة الوصم السيئ الذي كان توأم وجوده. وبما أنه لم يكن يقبل من أقرانه احتقاره وقهره، فقد كان يرد على العنف الرمزي المشبع بالكلام الساقط المبخس لقيمته الإنسانية، بكل ما أوتي من قوة وعدوانية، تورطه في تكريس مصداقية الإلغاء والنبذ والرفض لوجوده العلائقي الاجتماعي والإنساني.
لذلك كانت العقلية المجتمعية الغارقة في التفكير الخرافي الغيبي والسحري، في وصمها السيئ للوجود الإنساني للطفل، تُضيق عليه حق وجوه الإنساني الاجتماعي. مما يضاعف من حرمانه العاطفي، وعزله الاجتماعي، كما لوكان وباء معديا ينبغي عزله والتخلص منه.
لقد ساهمت النظرة والمعاملة المجتمعية الخبيثة في الزج به في أقدار، كانت في صالحه للتحرر من عبء سطوة القهر الاجتماعي والمجتمعي. حيث وجد نفسه صاحب ذاكرة متميزة في حفظ القرآن. وتعلم المعتقدات الغيبية في العلاج الديني الأقرب الى ذكاء تدبير الحال، في استغباء الناس والتحايل على الجذور النفسية الاجتماعية الرهيبة، و الدفينة التي تفجر آلام وعذابات الناس في صورة أنواع من المرض البدني والنفسي. كما صادف في مشواره الحياتي شخصيات ساعدته بشكل أو بآخر في تحقيق طموحاته وأحلامه الدراسية والمهنية. فقد كان لبعض العلاقات دورا حاسما في رسم أقداره التعليمية والمهنية من الكُتاب لتعلم القرآن وصولا الى تعلم مهنة المحاماة، مرورا بالدراسة في الوسط التلاميذي والطلابي. وفي هذا العبور كانت تتفجر ظلال الحرمان والنبذ، فتأخذ مظاهر وأقنعة مختلفة حسب السياق والظروف والالتباسات التي يتورط فيها بإرادة واختيار، أو بالصدفة العمياء التي جعلته مثلا يتعرف على رباب التي سحرته كليا الى حد الاستيلاب العاطفي المستعذب للقهر والاستغلال العبودي. في نوع من التعلق العشقي المرضي برباب، دون أن يحظى بأبخس اعتراف بكونه شخص محبوب أو مرغوب فيه. وقد أدى به هذا الحب الأعمى الى التورط في الفساد المالي والاجتماعي، من خلال المشاركة كمستشار قانوني للشراكة العقارية التي كانت تقيمها رباب مع مافيا العقار الممارسة للنهب والثراء غير القانوني والأخلاقي، بأدوات وآليات النصب والاحتيال. الى أن وجد نفسه بين جدران السجن يجتر تاريخه المأساوي في الحلم الهارب وراء حب الظهور استجابة لعقدة الوجاهة والمشهدية التي تفجرها المشاعر الدفينة للحرمان الكلي العاطفي والاجتماعي من قبل العائلة وجماعة الانتماء المجتمعية التي لفظته منذ الولادة خارج دائرة الانتماء والهوية الاجتماعية. كما ساهم تعلقه العشقي الأحادي في تكريس مشاعر الإحباط و الحرمان المتجذر في أعماق الذات. كما لو كان يستلذ بصورة لا واعية عقباه الذاتي، لكونه شخصا غير مرغوب فيه، وغير محبوب.
وإذا كانت بعض العلاقات الاجتماعية دمرته وحفرت في جوف نفسيته أخاديد الحرمان، والحقد والاقصاء، فإن لشخصيات أخرى أدوارا إيجابية في حياته مثل المعلم حمزة الذي لعب دورا كبيرا في رسم مساره الدراسي. كما أن لقاءه بهشومة ومنار وآخرين ساعده على رؤية الوجوه المختلفة للحياة. وفي التعرف على التناقضات المجتمعية، التي تأخذ غالبا صورة أقنعة مظهرية يتمترس خلفها الناس إخفاء للجزء العضوي الشيطاني في الانسان. وفي عدم الاعتراف بجدلية الخير والشر التي تشكلنا في تفاوت في الشدة والنسبة والحجم والاقتراف والتجنب…
يخبرنا الراوي عن تجربة السجن التي أسهمت في تأسيس أرضية المراجعة النقدية لتاريخه الشخصي. حيث انفتح الجرح الحافر في أعماق الذات واندلعت منه نيران البوح، من خلال الكتابة، كوسيلة فعالة للولادة من جديد، وتصفية الحساب مع الماضي الذي يستحيل البحث فيه عن موجهات إرشادية لتجربة الشيخوخة واحتياجاتها الضرورية و متطلباتها الأساسية.
تأتي الكتابة لترمم الذات وتحقق نوعا من التعافي، و المصالحة الذاتية. وتعرية الظلال والمناطق المعتمة التي يتستر عليها الانسان. وتمنعه من رؤية الجدليات الرهيبة التي تشكل الانسان، بين الخير والشر، الملاك والشيطان، الإيجابي والسلبي، السقوط والنهوض…
هكذا يضع الراوي الكتابة على الجرح لرؤية الذات بوضوح أكبر لا يقبل المخاتلة والخداع.
لأن الهدف هو تكوين الصورة الواضحة الشاملة لكل الجوانب والوجوه، في النظر الى الحياة والانسان. والابتعاد قدر الإمكان عن عملية الاختزال للفرد في سلبياته، أو ايجابياته. لأن جدلا ما رهيب في طبيعته القائمة على مبدأ التناقض الاجتماعي المؤسس للوجود البشري الإنساني، يتحكم بشكل قهري في جدلية الخير والشر، الملاك والشيطان، الموت والحياة…، لذلك عليك أن نفهم ونتفهم الناس قبل اتهامهم وإدانتهم. هذا يعني أن نفترض البراءة في الانسان. بعيدا عن الوصم السيئ والحقد والكراهية والتواصل العنفي…
هكذا مارس سيف الرواي التعافي بالكتابة والولادة من جديد، فصارت شخصيته قوية مضيافة متسعة للآخر. ومحتضنا عذابات المهمشين والمظلومين في السجن وخارجه. مسلطا الضوء على الجوانب المظلمة في الفرد، وعلى الكثير من العذابات والآلام التي مسخت الناس وشوهت وجودهم البشري وجردتهم من قيمتهم الإنسانية.
يتبع
الهامش:
فاتحة مرشيد، ليلة مع رباب- المركز الثقافي- الطبعة الأولى 2025