كان ذلك منذ زمن مضى

كان ذلك منذ زمن مضى

حميدة نعنع                               

            زمن بعيد ولكنه مازال حاضرا في حياتي، حاضر يعذبني، يعيش معي، لكأن القدر كتب لي “أناشيد امراة لا تعرف الفرح”. هذا عنوان ديوان شعري الأول الذي قدم له الشاعر محمد الماغوط. كتبت هذا الديوان إثر هزيمة حزيران. في مساء من أمسيات صيف دمشق المشبعة برائحة الياسمين، والحزن المضني على شباب مضوا للقتال من أجل فلسطين ولم يعودوا. اقترحت علي زميلة في كلية الآداب، خجولة، ذات شعر يميل للحمرة، ووجه مشرب بالبياض، لكأنها قادمة من بلاد الشمال، أن ألتقي شاعرًا صديقًا لها، هو الشاعر محمد الماغوط. لم يكن محمد الماغوط آنذاك بشهرة شعراء كانوا في حياة دمشق الثقافية، مثل نزار قباني الذي ملأ الدنيا وشغل المدينة التي تتنفس شعرًا، رغم غيابه عنها في عمله الدبلوماسي في اسبانيا، أو عمر أبو ريشة الذي كان سفيرنا في الهند، وبدوي الجبل (أحمد سليمان الأحمد)، الذي كانت كل قصيدة يكتبها تشكل حدثًا ثقافيًّا.

 كنت أمر في بعض الأمسيات من أمام بيته في شارع أبي رمانة، فأجده كالعادة جالسًا على شرفته يتأمل المارة، وربما يتذكر زمنًا كان فيه أحد رجال السياسة في سورية، التي تغيرت كثيرًا بعد تسلم حزب البعث السلطة.. ولا بشهرة أدونيس المتمرد، وصاحب ديوان “أغاني مهيار الدمشقي”، الذي كان قد غادر دمشق غاضبًا إلى بيروت، باحثًا عن الحرية التي كانت العاصمة اللبنانية أرضًا لها وملجأ لكل الغاضبين والرافضين من السوريين.

 كان اسم محمد الماغوط قد انتشر في أوساط ثقافية محدودة. ذهبت للقائه أنا والصديقة التي كانت مثلي تحاول كتابة الشعر، سنية صالح، التي أصبحت في ما بعد زوجة محمد وأمًّا لابنتيه. في حديقة كازينو دمشق الدولي القريب من متحف دمشق وتكية السلطان سليم، على طاولة منزوية كان يجلس شاب ذو هيئة أنيقة، وسيم، عينان خضروايتان، معتدل القامة. نهض لتحيتنا أنا وسنية خجلا. هذا الرجل هو الذي سيغدو الصوت المعارض لكل ما يحصل.. محمد الماغوط.

قدم لي هديةً ديوانيْ شعر، عبارة عن قصائد نثرية. لم أكن بعد قد قرأت شعرًا يماثلها، هذان الديوانان هما “غرفة بملايين الجدران”، و”حزن في ضوء القمر”. ديوانان صدرا عن دار نشر مجلة “شعر” في بيروت. كان محمد من الشعراء الذين التحقوا بمجلة “شعر” مع عدد من شعراء الحداثة العربية، مثل السياب، وفدى طوقان، وسلمى الخضراء الجيوسي، وخليل حاوي، وانسي الحاج… وبالطبع، يوسف الخال، الذي كان قد عاد من أميركا واطلع على الشعر الأميركي. كان يوسف مفتونًا بأزرا باوند وكل شعراء الحداثة الفرنسيين .

 عدت ذلك المساء إلى البيت. بدأت قراءة ديواني محمد الماغوط حتى الصباح. اكتشفت أن ذلك هو الشعر الذي أبحث عنه، شعر كل سطر فيه عالم متفرد من عوالم تحمل حزنًا عميقًا وثورةً ورفضًا لكل ما يحيط بحياتنا. 

أضحك في الظلام

ابكي في الظام

أكتب في الظلام حتى لم أعد أميز قلمي من أصابعي

كلما قرع باب أو تحركت ستارة

 سترت أوراقي بيدي كبغي ساعة المداهمة

 آه يا حبيبتي

 عبثا أستردّ شجاعتي وبأسي

 فالمأساة ليست هنا

 في السوط، أو في المكتب، أو في صفارات الإنذار

 إنها هناك، المرأة هناك

 شعرها يطول كالغصن، يدوي ويصفر

 بعد قراءتي هذا الكلام عشقت الشعر، وكان لي شرف أن قدم ديواني الأول “أناشيد امراة لا تعرف الفرح”. محمد الماغوط الذي سيرافقني في شعره، ومسرحه، وثورته حتى اليوم.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حميدة نعنع

صحفية وكاتبة سورية مقيمة في باريس