من أجل ثورة اجتماعية تحرّر المجتمع من نظامه البطريركي

من أجل ثورة اجتماعية تحرّر المجتمع من نظامه البطريركي

دكتورة جمال القرى

   عن واقع النساء في بلدنا التائه بين تحرّر اجتماعي فعلي وبين نسوية تخدم بطريركية النظام القائم وذكورية المجتمع.

هل تحرير المرأة والنضال من أجل تحقيق العدالة والمساواة والنسوية حالتان متماهيتان، أم انعكاس لتطور المجتمعات من انتشار للأفكار الاشتراكية والرأسمالية والعولمة والنيوليبيرالية؟ وكيف تؤثّر الأنظمة السياسية الفاعلة في تحوير مطالب هذا التحرير واختزالها إلى مطالبات جزئية متفرّقة تخدم الأنظمة نفسها؟ وهل يمكن اعتبار أن شكل الظلم اللاحق بالمرأة هو ظلم اقتصادي بحت دون التطرّق إلى الظلم الاجتماعي والسياسي والثقافي وسلوكيات التعسّف والتقاليد، أو ظلم يطال الهويّة الجنسانية فقط دون إيلاء مسألة العدالة الاجتماعية ما يخدم النظرة الليبيرالية؟ وهل الحل يكمن بالعمل على إنشاء رعاية اجتماعية تكافلية تشاركية للنساء لتمكينهن من العمل والإنتاج خارج إطار البيروقراطية، والجمع بين النضال من أجل تغيير النظام المبني على ثقافة ذكورية وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بعيداً عن الفردانية والتسليع وسياسات الهويّة؟

هل كُتب على النساء العيش في ظلّ الاضطهاد العائلي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وهل يمكن فصل معاناتها عن معاناة المجتمع ككل، الرازح تحت سلطةٍ بطريركيةٍ تنهل من سلطة التقاليد الاجتماعية القائمة على أساس العائلة والعشيرة والقبيلة، وسلطة دينية تحدّ من قدراتها وتشكّك بأهليتها، وسلطة سياسية قائمة على أحزاب دينية ومذهبية، وهل يمكن مقاربة هذا وذاك بناءً على الكفاءات أو المستويات التعليمية لنساءٍ تفوّقن على رجالٍ في قطاعاتٍ علمية وميدانية وفكريةٍ وذهنيةٍ واسعة، وهل يمكن فصل هذا وذاك عن المستوى العام لكل مجتمعٍ بناءً على إنجازاته في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، وهل المسألة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وهل يغدو تحرّر المجتمع تحرّراً لنسائه، وما هي العوامل المطلوبة لكي تتحقّق المساواة القانونية والإحترام للنساء، فهل يكفي التعليم لذلك، أو العمل العام والخاص، وهل يكون التحرّر الاقتصادي شرطاً كافياً لتحرّر النساء أم بحاجةٍ أيضاً إلى ما هو أبعد من ذلك، هل المشكلة هي مشكلة أنماط أنظمة الحكم السياسية في الدول أو مشكلة طبقية أو بنيوية، وهل المشكلة لدينا في عدم وجود نقاباتٍ نسائية متخصّصة تُعنى بشؤون حقوقهن، وهل يمكن فصل عدم الوجود هذا عن تشظّي المجتمع ككل، وهل تكفي أن تكون هناك أصوات مطالبة بحقوق النساء على أساسٍ دينيٍ ومذهبيٍ لتحصلن على الحقوق، وهل حقوق المرأة المسيحية تختلف عن حقوق المرأة السنيّة والشيعية والدرزية وغيرها، وهل يمكن إيقاف التحيّز السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي ضد طبقة النساء وكأنهن حركة نسويةٍ محدودة في مواجهةٍ مع طبقةٍ هي طبقة الرجال، وهل يمكن اعتبار المرأة حيّزاً مجتمعياً واقتصادياً وثقافياً قائماً بذاته أو مُلحقاً بأولي الأمر، وهل يمكن أن تقوم ثورة نسائية لتحصيل الحقوق وفرض الذات من خارج ثورةٍ اجتماعية عامة وشاملة لكافة مكوّنات المجتمع، ومتى يمكن أن تتحوّل النظريات الفردية والوعودات السلطوية والانتخابية إلى سلوكيات يمكن البناء عليها، وهل يمكن تحقيق كل ذلك في ظلّ التشبّث بالنظام التقليدي القديم؟ 

لا شك أن الحركة النسائية قد حقّقت في بلادنا قفزة نوعية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ما ساهم في تحسين ظروف حياة وعمل نساء عاملات كثيرات وغير عاملات، عبر انتزاع قوانين تحميها من حيث عدد ساعات العمل والمساواة بالأجر مع الرجال، والضمانات الإجتماعية والأمومة وغيرها الكثير. غير أن تراجع الحياة السياسية، وانهيار أسس المنظومات السياسية الاجتماعية والثقافية والحريات النسبية التي كانت قائمة حينها نتيجة الإنفتاح وعدم تشدّد القبضة الأمنية على البلاد، ولوجودٍ أحزابٍ وتياراتٍ علمانية مواكبةٍ للتطوّر السياسي والاجتماعي، لصالح موروثٍ قديمٍ قائمٍ على تسلّط وهيمنة البطريركيات المتنوعة، قد أدّى إلى تحلّل غالبية تلك الإنجازات، أو تفريغها من أهميتها لصالح ذكوريةٍ فاقعة أكثر ما تتمثّل بتقييد الحريات الفردية والشخصية للمرأة عبر وقوف كل ممثّلي الطوائفيات السياسية ومن أمامهم كافة السلطات الدينية بوجه إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية ورفع سن الزواج إلى 18 عاماً؛ أو بوجه تعديل قانون العقوبات وإلغاء المادتين 508 و518 وتشديد معاقبة مغتصبي القاصرات وسفاح القربى؛ أو بوجه سنّ قوانين تحميها من العنف الشامل والمضايقات الجنسية والإستغلال في أماكن العمل، أو تحميها من العنف الأسري والقتل المتعمّد إن ارتأى “ولي الأمر” ذلك، وهذا ما فاق بمعدلاته كل حدود، وبات يتفشّى بسببٍ من الانهيار العام؛ أو بوجه إعطائها حقوقها المادية أسوة بالذكور وإدخالها في نظام الضمان الاجتماعي؛ أوبوجه حقّ إعطائها جنسيتها لزوجها ولأبنائها؛ أو عدم سنّ قوانينٍ تحمي العاملات المنزليات من العنف والتعنيف وسلب الحقوق؛ أو بوضع العراقيل بوجه مشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والقيادة عبر استخدام سلوكيات ذكورية استعلائية وتنمرّية فاقعة للقول بمحدودية قدراتها. فهل يكفي أن تُستخدم المرأة كسلعةٍ أو كترويجٍ ليكون بلدنا بألف خير؟ لا بدّ من ثورة اجتماعية فعلية تحرّر المجتمع ككل من نظامه البطريركي، ولكن المعضلة الكبرى تكمن في القوى التي بمقدورها حمل هكذا مشروع اجتماعي تحرّري!

Visited 2 times, 2 visit(s) today
شارك الموضوع

د. جمال القرى

طبيبة وكاتبة لبنانية