صدام الأنْسَاق في مغرب المونديال
د. محمد الشرقاوي
لم نتأهل إلى مباراة نهاية كأس العالم لعدة أسباب أهمّها تداخل “براديغميْن” أو نسقيْن لا يلتقيان أو بلغة هانتغتون Clash of Paradigms: أوّلا، نسق الإخلاص للغاية والقتال من أجلها مجرّدة من كل التوظيفات الرمزية أو الأيديولوجية أو السياسية. وقد أثمر هذا النسق المتأصل في القناعة بالمسؤولية الوطنية العليا إزاء كل المغاربة، واصطلح عليه المدرب وليد الرگراگي بعبارة “دير النية”، في تحقيق التقدم المتدرج عبر خمس مبارايات مع فرق أوروبية وأمريكية شمالية يُعتد بعراقة سجلها في تاريخ المونديال.
يمكن فهم مقولة “دير النية” أو “استحضار النية” في سياقها المغربي بأنها ترجيح كفة بعض الوجدانيات أو الزخم الروحي في الاستبشار وحسن الفأل بفوز المغرب. ولها مرجعية نفسية ودينية باعتبار أن “الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى”. بعبارة أخرى، محاربة التشاؤم بأكبر قدر ممكن من التفاؤل وترك الأمور تسير على أعنتها. ولا تتأتى القدرة على استنباط حدس أو رؤية أو قناعة استباقية إلا من خلال صدق الشعور الباطني وسكينة الذات في التمسك به. وقد تكون بمثابة جذبة وجدانية تتمالك الذات، وتأتي الفراسة من منطقة بعيدة في الصدق مع الذات. قال أحدهم: “هذا الكلام لا ينبع الا من روح شديدة التفاؤل، وهذا نجده عند الصوفية المتميزين الذين عرفوا الله عن قرب”.
جسدت دعوة “دير النية” أنها نسقٌ براغماتي يركز على إحراز النتائج وتجاوز الخطابيات، ويلهم اللاعبين بدوغمائية العقيدة الرياضية والروح القتالية المتماسكة، وهذا هو مفتاحُ التفوق على بلجيكا وكندا وإسبانيا والبرتغال. ولهذا النسق الجاد الفضل في إلهام الصفوة من لاعبين الخارج والداخل، نجوم الشتات ونجوم الكفاءات المحلية، وتناغم فريق متميز بقدرات عالمية غير محدودة. وحافظ هذا النسق الرگراگي أيضا على نقائه وأصالته الشعبية، ويتجاهل مجموعة من الوصايا والإملاءات البيروقراطية من بعض الوجهاء ومدراء الجامعة المغربية لكرة القدم. وللمرة الأولى في تاريخ مشاركات المغرب في بطولات العالم، يطبق الفريق خطة احترافية مدروسة ومتحررة من الأوامر والنواهي من أعلى، خارج المعادلة التقليدية: مركزية الجامعة وهامشية المدرب. ويمكن القول من الآن إن وليد الرگراگي لن يبقى في قيادة الفريق الوطني حتى عام 2024.
ثانيا، يكمن النسق الموازي في كونه نزعة توظيفية انتهازية لإنجازات اللاعبين ومدربهم وأيضا مجانية التذاكر وضيافة قطر من قبل بعض سماسرة الاستغلال والنفعية، وتحويرها نحو مكاسب رمزية ومادية. ويمكن الاصطلاح عليه بنسق استغلال النية والركوب على هذه العروة الوجدانية بين المدرب واللاعبين والجمهور. وعلى غرار أثرياء الحرب، لا يتردّد سماسرة الأحداث الكبرى في تحويل الانجازات أو الأزمات، وحتى القيم والرصيد المعنوي المشترك، إلى بضاعة للمساومة والاتجار في سوق النخاسة. وقد جاءت عبارة الرگراگي صريحة في كشف الغطاء عما تدبره الكواليس داخل الجامعة المغربية لكرة القدم ودوائر أخرى بقوله “هناك الكثيرون الذين يُريدون الاستيلاء على هذا النجاح، لكن المجموعة هي من تستحقه”.
يشمل مجتمع الانتهازيين عدة فئات: بعض المحسوبين على لصحافة ممّن يخلطون بين التغطية الميدانية والسؤال الاحترافي واستغلال اللحظة للتّرويج لخطاب معدّ سلفا في الرباط، وليس لخلاصات تكون وليدة الأحداث الجارية على الميدان في الدوحة. حضرت فصيلة أخرى تسميها جامعة لقجع وممولو الريع الخطابي بأنهم”مؤثرون”، كناية عن التكاثر والضجيج عبر منصات التواصل ونشر ما يعتقدون أنه تلميع لخطاب معين أو سمعة مؤسسة محددة. وليس من الواضح علميا بماذا يؤثرون، وفيمن يؤثرون، وهل لهم دراية فعلية بهندسة الخطاب العام؟
منطق “الهمزة” في الدوحة
جاء إلى الدوحة سماسرة التذاكر المجانية والعابثون بمسؤولية توزيعها داخل الجامعة. وقد تصورت الجهات الرسمية القطرية المانحة لآلاف التذاكر لحضور المباريات أن مندوبي الجامعة ومسؤولي السفارة المغربية في الدوحة سيوزعونها مجانا على “حاملي الجوازات المغربية” في الدوحة. لكن أخطبوط الفساد في المغرب صمّم على تمديد رجل أخرى حتى إلى الدوحة، ووجد فرصة مواتية للاتجار بالتذاكر في السوق السوداء. وإذا أضفنا العدد الآخر من التذاكر الذي تدبرته الجامعة المغربية لمن كانوا من المفترض أن تنقلهم ثلاثون طائرة من الدار البيضاء إلى الدوحة، يصبح الموقف في كل من الدار البيضاء والدوحة مهزلة حقيرة بتغيير مجانية التذاكر إلى سعر 900 أورو حسب عروض السوق السوداء، وأيضا إهدار الرصيد المعنوي الذي حققه رفاق الرگراگي في أرض النضال الرياضي سواء لدى المسؤولين القطريين أو مسؤولي الاتحاد الدولي لكرة القدم.
والأنكى من هذا أن مونديال قطر كان يمرّ في أجواء تنظيمية نموذجية إلى أن أصبح بعض المحسوبين على الجامعة المغربية لكرة القدم والبرلمان في الرباط موضع سرديات “التلاعب”، و”الفساد”، و”العربدة” مما استدعى تدخل قوات الأمن في مطار الدوحة، وأيضا “الاعتقال”، و”الإفراج بكفالة”. هذا هو جديد الفساد المغربي في أرض المونديال القطري، ويمكن مناقشة مضاعفاته السلبية على دبلوماسية السفارة في الدوحة، وعلى وزارة الخارجية في الرباط، وحتى على النبرة الراهنة بين القصر الأميري القطري والقصر الملكي المغربي.
عادة ما تبادر الحكومات العريقة في معايير المسؤولية والمساءلة، وتصر برلمانات الشرعية الديمقراطية الراسخة على فتح تحقيقات صارمة في ربع ونصف مثل هذا الاستهتارات التي يرتكبها الفاسدون، ومحاكمتهم قانونيا وأخلاقيًا أمام الرأي العام. لكنها “بدعة ضالة” في الاستثناء المغربي عندما تنفر منها المنظومة السياسية في المغرب لأن نسق استغلال النية وحماته في شتى المستويات ضمنوا مسبقا أن ألمعية الجامعة المغربية لكرة القدم، وبعد نظر قائدها فوزي لقجع، وحكمة أعضاء الأغلبية ورئيس مجلس النواب في الرباط، ومهنية الإعلام النافخ في قربة “تستاهلو أحسن”، وبقية المؤسسات المشاركة سيغضُّون الطرف عن المتابعة بانتظار هدوء العاصفة، وتعود النعامة إلى غرس رأسها في الرمل. وسيخرج لقجع مجددا بعد أيام لترميم الصورة وتعزيز الانطباع ببصيرته وسداد رأيه، وللتبشير بسردية “العالمية”، وتحوير الخطاب إلى التركيز على صورة الواجهة وتجاوز الحاجة لمساءلة ما حدث في الكواليس.
عدتُ أطالع نسخة من الطلب الرسمي الأخير للمغرب لاستضافة كأس العالم، وهي مسألة سيتحرك الحديث عنها قريبا، وسألت نفسي: كيف سنقنع الاتحاد الدولي لكرة القدم ونحن لم ننجح في توزيع تذاكر مجانية بنزاهة وأمانة؟!
الريف المحتفى به.. والريف المغضوب عليه
يثير الحديث عن النسقين المتصادمين في مغرب المونديال مقارنات أخرى من أجل أن يتساوى الميزان بين السكرة والفكرة. وبين حماسة الكرة المستديرة وتجليات الحقيقة البصيرة، ينبغي أن ننظر بتأنٍّ ورويةٍ إلى الوجه الآخر للعملة الرائجة هذا الشهر: انتصارات فريق المغرب في تصفيات كأس العالم في قطر.
صفقنا وهتفنا عاليا باسم حكيم زياش وهو يراوغ ويخطف الكرات ويصنع فرص التسجيل في شباك الخصم. ولا ننسى أنه و13 لاعبا آخرين وُلدوا في دول أخرى ونشأوا بثقافات وجنسيات أوروبية. هم أبناء مغاربة هولندا وبلجيكا وإسبانيا وفرنسا، أو بالأحرى جلهم أبناء “الريافة” الذين تصنفهم بعض الجهات في الرباط، بحكم الأمر الواقع، إلى “الريافة النافعين” مقابل “الريافة غير النافعين”، إسوة بثنائية “المغرب النافع” و “المغرب غير النافع” التي بشّرت بها الخطة السياسية للمقيم العام الفرنسي الجنرال ليوطي.
خطابية الاحتفاء الحماسي بزياش والمرابط وغيرهما من أبطال كرة القدم اليوم تختزل انتقائية “الريف النافع”، وإن جاءوا مستوردين من خلف الحدود من امستردام وبروكسيل وبرشلونة وباريس وبجوازات أوروبية. لكن الصورة تخفي مفارقة تستحضر أبناء الريف المحليين مثل ناصر الزفزافي، ونبيل أحمجيق، وسمير ليفيد، ووسيم البوساتي، وبقية المعتقلين بأحكام وصلت عشرين عاما في السجن.
قد يكون زياش ابن عم الزفزافي، وقد يحمل المرابط نفس كرات الدم لدى أحمجيق أو البوساتي. وقد تكون أمهات زياش والمرابط وحكيمي المحتفى بهن في ملاعب الدوحة من بين “العالقات والعالقين الريافة” الذين منعتهم سلطات مطار الدار البيضاء من العودة إلى ديارهم في ربيع وصيف 2020 تحت إمرة شماعة الاحترازات الكورونية.
زياش والمرابط وحكيمي وبقية الأبطال ووليد الرگراگي أحفاد “ريافة” المغضوب عليهم منذ 1921 عندما نجح عبد الكريم الخطابي في فرض معادلة جديدة في ظل الاستعمار الإسباني لشمال المغرب. الفرق الوحيد أنهم فئة من ريافة الماضي اختاروا الهجرة إلى أوروبا لكسب قوتهم، ولم يديروا ظهورهم لا للريف، ولا للمغرب، ولا لآمال شعب بكامله في مونديال قطر وغيره من المناسبات التاريخية.
الوجه الآخر الذي لا يستسيغه أهل الحل والعقد في الرباط هو أن الزفزافي ورفاقه نادوا بتحقيق مقومات تنمية محلية: جامعة ومستشفى ومرافق حيوية تمنح الريافة المحليين القدرة على تحقيق ذواتهم، كما سمحت امستردام وبروكسيل وبرشلونة للريافة المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم الفرصة لملاحقة أحلامهم وتحقيقها في كرة القدم ومجالات أخرى.
ثمة مفارقة أخرى تنمّ عن ازدواجية المعايير البئيسة: 14 من اللاعبين الأساسيين في فريق المغرب أوروبيون، وإن كان الخطاب الرسمي يعتبرهم “مغاربة” وأن عليهم التضحية بكل ما لديهم من أجل هذا المغرب الحالم. لكنهم وبقية الملايين الخمسة من مغاربة الشتات أو “مغاربة العالم”، ممنوعون من التصويت في الانتخابات ومن أي مستوى من مستويات المشاركة السياسية.. هذه حقيقة تؤكد واقعيتها كل يوم، وكل شهر، وكل عام منذ سبعة عشر عاما، وإن جاء الخطاب الملكي بخلاف ذلك عام 2005، أو نص دستور 2011 على المشاركة السياسية بشكل معياري، لكنها تظل حتى الآن حبيسة الرفوف والتبريرات المطاطية.
لم تتحرك أي من المؤسسات التي تعنى بأوضاع “مغاربة العالم”، ولم تبادر الأحزاب على اختلافها، ولا ترتفع أصوات “ممثلي الأمة” داخل البرلمان في الرباط بتصحيح هذا الحيف المستدام في حق “مغاربة” ممنوعين من الاعتراف، وممنوعين من تصريف رؤاهم وإراداتهم في توجيه سياسة البلاد.
مشهد زياش والمرابط وبقية “مغاربة” النضال في جبهة المونديال يكشف المفارقة الثالثة عن حقيقة الخطاب المبشر بإشراك الكفاءات من الخارج. لكنه خطاب برّاق لا يكمل الدائرة، بل يعتمد منطق الانتقائية والميزان المكسور بأن يقدم مغاربة الشتات خبراتهم وتجاربهم ومدخراتهم المالية دون أن يسألوا عن المشاركة السياسية، وعن دورهم ككتلة تمثل 15٪ من مجموع الشعب، أو بقية مقومات الاعتراف المعنوي والمادي التي تعتمدها دول أخرى تعتبر الشتات رصيدا استراتيجيا حيويا في تحقيق التنمية.