اليوم العالميّ للغة الضّاد: لغتنا الجميلة وتأثيرها في لغة سيرفانتيس

اليوم العالميّ للغة الضّاد: لغتنا الجميلة وتأثيرها في لغة سيرفانتيس

د. محمّد محمّد خطّابي

يشير الخبراءُ المتخصّصون أنّ خطوة منظمة اليونيسكو العالمية للإعلان عن اليوم العالمي للغة العربية فى 18 ديسمبر من كلّ عام  جاءت في سياق سلسلة من القرارات الدولية الأخرى للأمم المتحدة، ومنظماتها حول اللغة العربية، من بينها القرار رقم (878) الصّادر عن الدّورة التاسعة للأمم المتحدة المنعقدة عام 1954، والذي كان قد أجاز الترجمة التحريرية لوثائقها إلى اللغة العربية، لتقرّر منظمة اليونسكوالعالمية عام 1966 إستخدامَها في المؤتمرات الإقليمية التي يتمّ تنظيمها في البلاد العربية، بالإضافة إلى إجازة المنظمة ترجمة الوثائق والمنشورات الصّادرة والمنبثقة عنها إلى اللغة العربية، ثم قرّرت اليونسكو كذلك فى نفس هذه السّنة تقوية، وتعزيز استعمال العربيّة في أعمالها من خلال إقرار خدمات التّرجمة الفورية من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات الأخرى والعكس في جلساتها العامة، وعند مشارف عام 1968 تمّ إعتماد العربية لغة عملٍ في هذه المنظمة الدولية، مع ترجمة  مختلف وثائق العمل، والمحاضر إليها فضلاً عن توفير، وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية، وهكذا حتى نصل إلى قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة بجعل اللغة العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة وهيئاتها المختلفة، وأخيراً الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة  الحيّة فى 18 ديسمبر من كل عام كلغة رسمية متداولة فى مختلف الهيئات، والمنظمات، والمحافل الدّولية .

لغة الضّاد

انفردت اللغة العربيّة الجميلة عن سائر اللغات الحيّة الأخرى بخاصّية النّعت الذي ألحق بها عن جدارة واستحقاق وهو “لغة الضّاد”، تأثير واسع و بليغ في اللغة الإسبانية، التي تُنعتُ هي الأخرى بلغة “سيرفانتيس” نظراً للشّهرة الواسعة التي طبقت الآفاق، والصّيت البعيد الذي حقّقهما صاحب رواية «دون كيخوته دي لا مانشا» في مختلف أنحاء المعمورة منذ خمسة قرون خلت ونيّف، حيث استقرّ فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور والدهور، وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتُستعمل في مختلف مجالات الحياة، وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء لغتنا الجميلة التى ما فتئت تتألق وتتأنّق، وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مِطواعة،ً سلسةً، عذبةً، مرنةً، متفتّحةً، ينبوع جَنان و نبع حنان تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب مَعينهما بل تزداد غنىّ وثراءً وسعةً وانتشاراً مع مرور الأيام .

(Auge) (أوْج) لغة سيرفانتيس!

اللغة الإسبانية أو لغة “سيرفانتيس” تعيش بدورها في الوقت الراهن تألقاّ وازدهاراً وانتشاراً واسعا في مختلف ربوع المعمور، ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من سموٍّ ورفعةٍ، و”أوجٍ»، حيث يحلو لهم عند الحديث عن انتشار هذه اللغة والإشعاع الذي أصبحت تعرفه ثقافتهم استعمال هذه الكلمة بالذات العربية الأصل وهي (الأوج)، التي تُنطق عندهم (Auge) «أَوْخيِ» حيث تُقلب أو تُنطق الجيمُ خاءً، كما هو الشأن في العديد من الكلمات العربية الأخرى المبثوثة فى اللغة الإسبانية مثل: جبل طارق الذي يُنطق عندهم (خِبْرَلْطَارْ)، وكلمة جَبَليّ يُنطق (خبليِّ)، وهو «الخنزير البرّي الذي يعيش فى الجبل»، وكلمة الجامع التي تحوّلت عندهم إلى (أَلْخَامَا)، والجرّة التي غدت (خَارّا) وهو الدنّ أو إناء الفخار، وشريفة التي أصبحت «خريفة» ونهر أو مدينة «وادي الحَجارة»، التي تحوّلت إلى (غْوَادِيلاَخَارَا)…إلخ. إنهم يبذلون جهوداً مضنية، ويرصدون إمكانيات كبرى للتعّريف بلغتهم وثقافتها وإظهار كلّ ما من شأنه أن يبثّ الاعتزاز في ذويها، وأصحابها وأبنائها وأحفادها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والملتقيات والمناظرات التي كانت تُعقد في هذا السّبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني الأسبق خوان كارلوس الأوّل، واليوم  ما فتئت تنظّم مع نجله العاهل الإسباني الحالي فيليبي دي بوربون السادس، حيث يحرصان على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية، أو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصّة في حالة انضمام عضو جديد إليها، أو عند تكريم أحد الرّاحلين عنها، وتصرفُ الدولة الاسبانية أموالاً طائلة، ومبالغَ باهظة في سبيل نشر لغتها وثقافتها والتّعريف بها وبتاريخها وآدابها وفنونها وتراثها وموسيقاها وبمختلف أشكال وضروب الإبداع فيها.

عوامل انتشار اللغة الاسبانية

وغير خافٍ أنّ التنسيق القائم بين مختلف البلدان الناطقة باللغة الإسبانية في مجال توحيد المصطلحات اللغوية، والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان يهدف إلى توحيد هذه المصطلحات، ومحاربة الدّخيل لجعل حدّ «للغزو اللغوي الأجنبي» العارم الذي أمست تعرفه اللغة الإسبانية – مثل بقية لغات العالم- من طرف اللغة الإنكليزية على وجه الخصوص، وقد أعدّ لهذه الغاية معجم إسباني فريد في بابه من لدن هذه البلدان (إسبانيا وبلدان أمريكا الجنوبية) وهو: «معجم الشكوك الموحّد في اللغة الاسبانية» بمعنى أنّ أيّ متحدّثٍ أو مستعملٍ أو مشتغلٍ أو دارسٍ للغة الإسبانية الذي قد يخامره شكّ أو تساوره ريبة، أو ينتابه أيّ تردّد حول أيّ إستشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته  وهدفه في هذا المعجم الكبير الذي تمّ إعداده بين طرف الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية  بالتنسيق والتعاون جميع أكاديميات اللغة الإسبانية الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاّتينية التي يبلغ عددها اليوم 21 أكاديمية.                         .
الإسبان واعون كلّ الوعي بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوّأها في بلدهم وفى  مختلف بلدان العالم ، وهم يدركون كذلك أنّ لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر وأوسع اللغات الحيّة تأثيراً وحضوراً وانتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن وفى القرن الذي بعده. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها (حسب الإحصاءات الرسمية والتوقعات العلمية المستقبلية) من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها ما ينيف على 100 مليون عام 2050. و في بلداننا العربية تعرف اللغة الإسبانية فى الوقت الرّاهن تقدّماً مهمّاً وعناية فائقة واهتماماً متزايداً، وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والدّارسين والباحثين، وهي تُدرَّس اليوم في مختلف الجامعات العربية ولا ينبغي ان يعزب عن بالنا الدور الطلائعي الكبير الذي اضطلعت به “جامعة الألسن” في مصر في نشر هذه الله الحية والعناية بها، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة لشبه الجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً وفي طليعتها المغرب ،والجزائر، وتونس،وموريتانيا، نظراً لعوامل تاريخية، وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان بحكم الجيرة والقرب الجغرافي .

 ويرى الملاحظون أنّ تقدّم اللغة الإسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصّدفة، بل يؤول لعدّة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، ذلك أنّ نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أنّ «الأوج» الذي تعرفه اللغة الإسبانية في العالم اليوم حقّق للثقافة الإسبانية انتشاراً واسعاً فى مختلف أنحاء المعمور، كما حقق حضوراً مهمّاً في العديد من المحافل الدولية في مجال النشر والتأليف، والمسرح والفنون التشكيلية والجميلة والموسيقى، والشعر والأدب وأخيراً في السينما وفى مختلف الفنون الاخرى. وتتعاون إسبانيا في هذا  المجال مع شقيقاتها بلدان أمريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة بهدف تقوية وتعزيز الهويّة الثقافية فيما بين هذه البلدان جميعها، باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر، وتعاون أوثق في ما بينها، فى مختلف الميادين، وقد قامت هذه البلدان بالإضافة إلى مشروع معجم الشكوك اللغوية الموحّد (المشار إليه آنفاً) بإصدار أوّل معجم لتوحيد النّحو والحرف الإسبانيين كذلك. والإسبان وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الإسبانية على وعي تامّ بأنّ هذه الجهود لابدّ أن تؤتي أكلها، إذ لابدّ أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم وثقافتهم وبالتالي تقدّم اقتصادي، وازدهار سياحي، خاصّة أنّ إسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحية في العالم، إذ تعرف هذه الصناعة عندها تقدّماً هائلاً، وتطوّراً مذهلاً، وتلعب المآثر والمعالم الحضارية الإسلامية في اسبانيا وعلى وجه الخصوص في الاندلس دوراً حاسماً ومحورياً في جذب السّياح من مختلف أنحاء العالم مثل “قصر الحمراء” في غرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في إسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب الذين يتقاطرون ويتوافدون عليها) و”مسجد قرطبة الأعظم” بقرطبة، و”صومعة الخيرالدة” و”برج الذهب”(من بناء دولة الموحدين المغربية)، و”قصر الجعفلرية” بمدينة سراقسطة، بالإضافة إلى العديد من القصور والحصون والقلاع والمعالم التاريخية  والمآثر الحضارية الأخرى المنتشرة في مختلف المدن الإسبانية التي لا حصر لها في إسبانيا والبرتغال. قال العالم الإسباني  اللغوي الشهير “أنطونيو نيبريخا” وهو أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية أي إنه يعتبر (بمثابة الخليل بن أحمد الفراهيدي ومعجمه كتاب «العين» وهو أوّل معجم في العربية عندنا)، قال  هذا العالم الاسباني في مقدّمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إيزابيلاّ (المعروفة بعدم تسامحها) ما يلي: «اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة أي اللغة الاسبانية) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية»، وواضح أنّ نيبريخا يريد أن يقول بهذا المعنى إنّ اللغة سلاح أو وسيلة أوّلية وأساسية لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة، وتأصيل الجذور، وتأكيد الحضور، ونشر الثقافة ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الإسباني في أبعد الآفاق» (يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الإسباني في ذلك الإبّان).

لغتنا الجميلة وتأثيرها فى الإسبانيّة

ولا يمكن أن يستساغ الحديث عن «أوج» اللغة الاسبانية، وتراثها وغناها وانتشارها من دون التطرّق إلى الأصول والجذورالتي تنبثق، أو تستمدّ، أو تنبني عليها هذه اللغة، فعلى الرّغم من جِذرها وأصلها اللّاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين، وغير الباحثين مدى التأثير البليغ الذي أحدثته لغة الضّاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م. إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة عام 1492، بل لقد تأكّد بما لا يترك مجالاً للشكّ والرّيبة للباحثين، والمتخصّصين أنّ الوجود العربي والأمازيغي في الأندلس استمرّ حتى القرن السابع عشر عندما وليس الخامس عشر كما يقال من باب الشطط ، إذ معروف أنه تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا  منتشرين ومتستّرين في المدن والقرى والضيع والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم سبعة آلاف عام 1588، وعشرات الآلاف عام 1609 وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحقّ، وصَوناً لمجرىَ التاريخ وحفاظاً للأمانة العلمية والتاريخية في هذا القبيل. ففي هذا السياق يؤكّد جميعُ الباحثين والمؤرّخين والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضُهم أبعد من ذلك، حيث أكّد الرّوائي العالمي الراحل “خوان غويتيسولو” والكاتب الإسباني المعروف “أنطونيوغالا”، وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان “إميليوغارسيا غوميس”، وكذا الباحث الإسباني المعروف “بيدرو مارتنيس مونتافيس” (الذي أشرف على رسالتنا في فقه الله الاسبانية في جامعة مدريد المستقلة أواسط الثمانينات من القرن الفارط) وسواهم  الذين يتفقون في القول: إنّه يستحيل فهمُ واستيعابُ تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين، من دون معرفة اللغة  العربية وثقافتها. والسؤال الذي يطرح نفسَه بإلحاح فى هذا السياق هو: كيف إذن لا توجد هناك أيّ دراسة معمّقة أو تحليل ضافٍ لهذه البدهية في مختلف المؤتمرات والندوات والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار  التي قد تحدّق، أو تداهم اللغة العربية، أو حول التأثير المتبادل بين  هذه اللغة أو تلك؟، بل إنّ هذا الشطط قد يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب والروائي الإسباني الراحل “كاميلو خوسي ثيلا الحائز جائزة نوبل في الآداب، فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة وبكل وفاء إلى هذه الحقيقة البدهية، وإبراز فضل اللغة العربية على الإسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته المتواترة، ورواياته العديدة عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع روايةً تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة «رحلة إلى القارية» والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله، أو القرية، إلاّ أنّ هذا الكاتب نفسه تراجع – على الرغم من ذلك – وأكّد خلال ندوة دولية أخرى لاحقة أنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهميةً وانتشاراً، حيث قال بالحرف الواحد: «نحن الإسبان، وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالإسبانية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الحيّة الباقية وهي الإنكليزية والعربية والصينية» وكانت ابنتنا البارة الدكتورة أمل خطابي قد نشرت تعليقا ضافيا في جريدة “أ.ب.ث.” الاسبانية الواسعة الانتشار (رداً على ما كان قد ذهب اليه خوسيه كاميلو سيلا) وهي لمّا تزل في صفوف الدراسة حيث نبهته إلى سهوه أو نسيانه الإشارة إلى “الدور الطلائعي الكبير الذي لعبته اللغة العربية في جسم لغة سيرفانتيس وفى روحها”.

كلمات عربية وأمازيغية في اللغة الاسبانية

يشير الباحث اللغوي عدلي طاهر نور في مقدمة كتابه “كلمات عربية في اللغة الاسبانية”: أنه لا جدال في أنّ اللغة العربية ظلت لعدّة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السّائدة في العالم، ولا عجب أن نسمع “ألبارُو القرطبي” وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي يستنكر انصراف المسيحيين في إسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم  بعلوم المسلمين وباللغة العربية وآدابها، وإنفاقهم الكثير في سبيل إقتناء كتبها، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاّتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له”.

خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص فى الأندلس، تعايشت كلّ من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب،بل لقد كان لهما تأثير بليغ فى لغة سيرفانطيس، وبحكم هذه المعايشة  هناك العديد من الكلمات العربيّة والأمازيغيّة  التي استقرّت فيها، يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أن معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل، والسّقي، أو الريّ، والبناء، كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل Albañil (بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصر Alcázar، القبّ Alcoba ، السّطح Azotea أوالسقف (وهي بالتوالي تُنطقُ فى الإسبانية: ألكَاسَرْ، ألْكُوبَا، أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية  Acequia، والجُب Aljibe، وألبِرْكَة Alberca (و هي تُنطق فى الإسبانية):أسِيكْيَا، ألْخِيبِي، ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّرAzúcar، الأرزArroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa، التّرمُسAltramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas (وهي تُنطق فى الإسبانية بالتوالي: أسوُكار، أرّوث، نارانخا، الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس). وبماذا تزدان بساتيننا، أوتُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín  والزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا،) بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها كلّها دخلت واستقرّت فى هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها، والكتب والتآليف والمجلدات، والأسفار، والمخطوطات، والوثائق، والمظانّ تحفل بها بدون إنقطاع إلى اليوم سواء فى إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات فى مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد.

وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي استقرّت بدورها فى اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير)، واستعملها كولومبوس فى يومياته، بصيغة الجمع Azagayas (الزغايات) وهي موجودة، ومُدرجة فى معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية، وغير موجودة فى المعاجم العربية لا “لسان العرب ” ولا “مقاييس اللغة” ولا “الصّحّاح في اللغة ” ولا “القاموس المحيط ” ولا “العُباب الزّاخر” لا فى صيغة المفرد، ولا فى صيغة الجمع، مِمّا يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المُستشرق الثقة المعروف (رَيِنْهَارْت دُوزِي ـ (بالهولندية: Reinhart Dozy) (ليدن، هولندا، 21 فبراير 1820 ـ الإسكندرية، مصر، 29 أبريل 1883)، وكلمة (آش) تُجمع بـ “أشّاون” وتعني القرون ومنها اسم مدينة (الشّاون) المغربية، ويؤكّد صاحب “الإحاطة فى أخبار غرناطة” لسان الدين ابنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد فى شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسماً أمازيغياً هو”مدينة آش”، ونهر”وادي آش” أيّ وادي القرن وهو فى الإسبانية  “Guadix”، أو “río de Acci”، “Wadi Ash”،” río  Ash ” بالقرب من مدينة غرناطة. إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من مدينة سراقسطة) المقتبسة من اسم مدينة “تروال” المغربية بالقرب من مدينة وزّان (وسط المغرب) (وهي من قبائل بربر صنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع اسم هذه المدينة إلى القبيلة البربرية “بني رزين” التي عاشت بها واستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدرمن “بني رزين” وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة فى الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة شمال المغرب، ومنها كلمات مثل Gomera من “غمارة” وهي عند الإسبان اسم جزيرة فى الأرخبيل الكناري،  de Gomera Vélez  وهذه الكلمة من اسم “بادس” وهو (اسم شبه الجزيرة المحتلة الكائنة بجوار شاطئ “قوس قزح” وبني بوفراح ونواحيها بإقليم مدينة الحسيمة)، وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي، الذي ذكره ابن خلدون فى مقدمته بكل تبجيل، كما تحمل اسمَه الكريم أعرقُ ثانوية فى جوهرة البحر الأبيض المتوسّط مدينة الحسيمة، واسم بادس مُستعمَل بكثرة فى إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ، ناهيك عن أسماء المنتوجات، والصنائع التي أدخلها المسلمون إلى أوربا فى مختلف الحقول والمجالات وما أكثرها.

ويصل “أمريكو كاسترو” إلى نتيجة مثيرة فيقول: “إنّ فضائلَ الأثر والعمل عند المسلمين، والثراء الاقتصادي، والثقافي، واللغوي، والعمراني وفى مختلف مظاهر الحياة اليومية الذي كان يعنيه هذا العمل، وهذا الأثر كلّ ذلك قُدِّمَ قُرْباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان”. ويختم “كاسترو” بكلماتٍ مغلّفةٍ بسخريةٍ مُرّة من بني طينته مُشيراً:” أنّ ذلك الثّراء، وذلك الرّخاء، لم يكونا يساويان شيئاً إزاء الشّرف الوطني”..!! .

ويذكّرنا الباحث الأستاذ محمد بدوي في ذات السياق: إن لغة الضاد تحتوي على الكثير من الكلمات ذات الأصل العربي تفوق 6,000 كلمة. وأن تأثر اللغة الإسبانية باللغة العربية عميق جداً، وهذا يعود إلى انتشارها الواسع في الأندلس وبعض المقاطعات الإسبانية على مدى 781 سنة من الزمن إبّان الحكم الاسلامي الذي بدأ منذ سنة 711 م واستمر سنة 1492 م، ويضيف الأستاذ بدوي نماذج من الكلمات الاسبانية ذات الاصل العربي :

Aceite: الزيت، Acequia الساقية، Aduana: الديوان, جمرك، Ajarafe: الشرف ، Alacena: الخزانة، Alafia: العفو، : Alambra  قصر الحمراء، Alamud: العمود، Alarde: العرض، Algodón: القطن، خزانة alacena،Almacen المخزن، حبق ريحان= albahaca، بناء= albañil، بِركة، حوْض= alberca، خرشوف= alcahofa، القلعة = Alcala، القائد= alcalde، الكرز = Alcarazas،  Cerezasالقبّة = alcoba  ، كحول= alcohol، الجبْر= algebra، كراء= alquiler، الكيمياء = alquimia، قطران= alquitran، زعفران= azafran، Jarra= الجرة ، Rebato رباط, هجوم مباغت, ناقوس خطر، Rambla رملة  وغيرها من عشرات الكلمات في مختلف الحقول والمجالات الأدبية، والشعرية،والتاريخية، والعلمية، والزراعية، وفى علوم المعمار، والبستنة، والكيمياء، والفيزياء، والفلك وسواها”، وهذا غيض من فيض أو قطرة من بحر في هذا المجال .

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا