المرأة في يومها العالميّ.. آهات وتأوُّهات!

المرأة في يومها العالميّ.. آهات وتأوُّهات!

د.محمّد محمّد خطابي

   المرأة في يومها العالمي الذي يصادف الثامن من شهر مارس من كل عام  مناسبة تحتفل بها المجموعات النسائية في العالم. كما يتمّ الاحتفال  أيضا بهذا اليوم في الأمم المتحدة، ولقد جعلت منه  بلدان عديدة يومَ عيدٍ وطنيّ. وعلى الرغم من  الحدود والفروق العرقية واللغوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، يحتفل النساء في مختلف أرجاء العالم في هذا اليوم باستعراض تاريخ نضالهنّ من أجل المساواة والعدل والسلام والتنمية على امتداد عقود طويلة بعيدة. ويوم المرأة العالمي هو يوم نضال المرأة من أجل المشاركة في المجتمع على قدم المساواة مع الرجل. ويُحكى في هذا الصدد أنه في الإغريق قادت ليسستراتا في الأزمنة الغابرة بهذا البلد إضراباً عن الجنس ضدّ الرجال، بهدف جعل حدٍّ للحروب التي كانت تثار بين الوقت والآخر؛ وخلال الثورة الفرنسية، قامت نساء باريس الداعيات لـتأصيل مبادئ “الحرية والمساواة، والأخوة” بتنظيم مسيرة كبرى إلى قصر فرساي للمطالبة بحق المرأة في الاقتراع. وفكرة يوم المرأة العالمي ظهرت لأوّل مرّة في بداية القرن الفارط حيث شهد خلالها العالم ثورة صناعية كبرى كما عرف العالم اضطرابات وقلاقل بالاضافة إلى نموّ واسع في عدد السكان كما ظهرت في هذا الإبّان مختلف الأيدلوجيات.

    ومع ذلك ما زالت المرأة – في عُرف البعض – ذلك المخلوق القويّ- الضعيف الذي هو في حاجة إلى كلمات الإطراء والإعجاب، وقد عيب على أمير الشّعراء أحمد شوقي كونه وضع المرأة في ذلك الوضع الضّيق حيث جعل المرأة  توّاقة إلى الثناء، شغوفة  بالإغراء ، أليس هو القائل:

خدعوها بقولهم حسناءُ /  والغواني يغرّهنّ الثناءُ

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ /  فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ

   ولم يتوانَ، ولم يتأخّر شاعرُ النّيل حافظ إبراهيم في تقديم النصح، والإدلاء بدلوه وبسط جهةَ نظره في المرأة، وبشكلٍ خاص في بنات وصبايا أرض الكنانة المحروسة فقال:

الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها/ أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ

الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَه الحَيا/ بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ

   وتحضرني في هذا المضمار أبيات للشاعر  ” البحتري” شادياً متغنّيّاً في قصيدته الشّهيرة “بِرْكة المتوكّل”، فيقول:

يا مَنْ رأى البركة الحسناء رؤيتها  /  والآنسات إذا لاحت مغانيها

مَا بَالُ دِجلةَ كالغَيْرىَ تنافسُها / في الحُسْنِ طوراً وأحياناً تباهيها .

   فما كان له أن يقول أنّ دجلةَ تغار وتنافس وتباري “بحيرةَ المتوكّل” في الحُسن والجمال والبهاء، لولا أنّ صورة المرأة كانت حاضرة في مخيّلته، وماثلة نصب عينيه، ذلك أنّ أبا عبادة يعرف جيّداً أنّ المرأة تغار وتتلهّف وتتوق إلى كلمات الإطراء، والإغراء، وتميل إلى التحلّي بالتميّز والكمال، وهي تسعى في ذلك لتتفوّق وتبذ رفيقاتها ونظيراتها من بنات جنسها، جمالاً وبهاءً وذكاءً ودهاءً.

الحسناء لوسالوميه بين العقل والعاطفة  

   كانت المرأة مصدرَ وحيٍ وإلهامٍ لدى الفنّانين والمبدعين “الإلزا” التي يحلم بها كلُّ شاعرٍ، أو أديبٍ، أو فنّانٍ، ليستلهمَ من سحر عيونها وذكائها ودهائها، ودلالها ورقّتها، وعذوبتها وعذابها موضوعات لشعره وفكره وفنّه وأدبه وإبداعاته، على شاكلة المبدع لويس أراغون الهائم المتيّم العاشق لعيون  خليلته “إلزا” وقد شطّ الخيالُ بالفيلسوف فردريك نيتشه، حيث قال عنها مُستهترا، هازئاً ظالماً ومُجحفاً” إنّها راحةُ الجندي بعد المعركة”. كان فردريك نيتشة يقاسم الموسيقار ريتشارد فاغنر حبّ الغادة الإيطالية  الحسناء “لوسالوميه” حيث كان الأوّل يمثّل بالنسبة لها الصّرامة والجديّة والرّزانة والثبات والعقل الخالص، وكان الثاني يمثل العاطفة المتأججة، والرقّة والعذوبة، والخيال المجنّح، وبعد تردّد وحيرة وقلق بين هاذين العبقريين مال قلبُ الغادة الحسناء أخيراً إلى ريشارد فاغنر فأحبّته دون نيتشة، فشعر هذا الأخير بغيرة شديدة وحنق وضنك، ومضض وألم وامتعاض، فكان من فرط غيظه وغضبه يصعد إلى غرفة صغيرة منزوية توجد في سطح منزله ويحزّ أصابعَه بسكّين حادّ حتّى تُدمى أنامله، وبعد ذلك، عندما حاق به اليأس، وأخذ منه الإحباط كلّ مأخذ في الظفر بحبّ وقلب معشوقته لوسالوميه، قال معلّقا قولته الشهيرة التي ما فتئ العشّاق والمتيّمون الذين لم يظفروا بقلب معشوقاتهم يردّدونها إلى اليوم، قال ساخراً متهكّماً منتقصاً من قيمة الموسيقار فاغنر: “لقد حلّق طائرٌ في سماء حبّي، واختطفَ الملاكَ الذي أحببت، ولكنّ عزائي الوحيد أنّ هذا الطائر لم يكن نِسْراً “.

لو كان أنف كليوباترا مستقيماً!

   يُقال والعهدة على القائل أنّه ما من نجاح، أو تطوّر، أو تغيّر، أو قفزة، أو طفرة إيجابية في تاريخ البشرية، إلاّ وكان للمرأة دخل أو يد فيها، ولولا ذلك لما قال “نابليون بونابارت” قولته الشهيرة في المرأة.. (وراء كلّ عظيم امرأة). ولما قال أيضاً في السّياق نفسه: “إنّ التي تهزّ المهدَ بيسارها، تحرّك العالمَ بيمينها”.. ولولا ذلك للمرّة الثالثة، لما قال باسكال عن كليوباترا: “إنّه لو كان أنفها مستقيماً لتغيّر وجه التاريخ” !. ومن حسن الحظ أن أنف كليوباترا كان مُحْدَوْدباً، ولم يكن مستقيماً. فليس منّا من يشكّ في أنّ المرأة الفاضلة هي قبل كل شيء هي أمّ لكلّ رجل، هي التي ولدته وأرضعته، ورعته، وفطمته، وربّته، ودللته، حتى شبّ عن الطّوق. ولا أحد يشكّ كذلك أنّ عظمةَ الرجل إنّما تأتيه عن طريق المرأة.. وهي نصفُ الرّجل الآخر الذي لا يستغنى عنه أبداً، وهو دائمُ الحنين إليها.. ولا يزال يركض وراءها، ولا أحد يشكّ – للمرّة الثالثة – أنّ المرأة هي التّربة الطيّبة التي تنبت فلذات الأكباد الذين من أجلهم نحيا ونعيش ، الجميع يعرف هذا جيّداً، ولكنه مع ذلك ما فتئ يتطاول ويتحامل من دون رويّة على هذه المرأة وينتقص من قدْرها، والواقع ان كلّ امرأة أيّان كانت، هي جديرة بكل تقدير واحترام.

مباريات الجَمال.. ما لها وما عيها!

   بعد سلسلة من المعارك الضارية التي خاضتها المرأة  منذ عقود دفاعاً عن ذاتها، ونفسها وعزّتها وكرامتها ومساواتها وحقوقها المشروعة، قرّرت منذ زمنٍ غير قريب أن تخرج بهذه المعارك الطاحنة من حيّزها الضيّق إلى مجال أوسع وفضاء أرحب في مختلف أرجاء المعمورة.. عندئذ خلقت لنفسها أحقاداً وخصوماً متوجّسين ومناهضين لها في كلّ مكان. واستخفافاً بها واستهتاراً بأنوثتها، وانتقاصاً من ألمعيتها نصبوا لها الكمائنَ، وفرشوا لها المكائدَ، فأوجدوا ما يسمّى بمباريات ملكات الجمال، وأيُّ خداعٍ يكتنف هذه الكلمة، ذلك أنّه ليس من اليُسر والسّهولة أن يعرِّف الإنسانُ الجمالَ، فقد حار في تعريفه حتى كبار الفلاسفة والمفكّرين والأدباء على مرّ العصور.

   وينبري المنصّة شرذمة من السّكارى، والصعاليك ليقولوا: إنّ الجمالَ هو طول القوام، وهيافة الخصر، وبروز النّهدين، وتناسق الردفين، ورشاقة السّاقين، ولمعان الشّعر وانسداله وانسيابه، والتعرّف على أسماء عواصم فرنسا، وبريطانيا واليابان ولبنان، بالإضافة إلى مقاييس ومعايير أخرى لا تمتّ بصلة إلى مكانة المرأة الحقيقية وقيمتها ومنزلتها، ودورها الريّادي ومهمّتها الأساسية الشريفة التي لا محيد لنا أبداً عنها في تكوين الأسرة، والإسهام في بناء المجتمع  الشريف الذي هي نصفه، فضلاً عن تربية النشء الصّاعد ورعايته. في حين معروف ان مقياس الجمال لا يكون في المظهر بل فى الجوهر، فقد اصبح للجمال على أيامنا صناعة وحقن النفخ وشدّ الوجه وحشو السلكون، يرى البعض أن البراءة قد اختفت من وجه المرأة وأصبحت الصبايا الحسنوات متشابهات مع انتشار صنّاع الجمال الاصطناعي وقيل في هذاالصدد على سبيل الدعابة والمزاح لو عاشت أفروديت نفسها في عصرنا الحاضر لخضعت لعمليات  التجميل!

 فساتين المرأة ترفعها..

يقول الشاعر السّموأل ابن عاديا اليهودي:

إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ / فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ

وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها/ فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ

   ويزعمُ البعض أنّه ليس أقبحَ، ولا أسوأ لدى المرأة، من أن تتجرّأ وتقول لها هذا الرّداء أو ذاك اللباس، أو ذاك اللّون لا يليق بها أو عليها، كما أنّك لا تستطيع أن تنتقص حبّةَ خردل، أو قيدَ أنملة من جمالها، أو هندامها، أو منظرها، أومظهرها.

   ألهذه الدّرجة تفرّق اللّغة بيننا..؟! ألهذه الدّرجة تضع بيننا هذه الهوّةً السّحيقةً، المُوحشةً، الرّهيبة.. وتُقحم هذه “ن” (النّسوة)، و”ت” (التأنيث) (المقصورتين عليهنّ والمحصورتين فيهنّ) ؟! ألهذه الدّرجة تُقصينا،اللغةُ، وتُبعدنا عن بعض.. وتضع بيننا سدّاً منيعاً من “نوناتٍ” و (تاءاتٍ)؟!.

 وأخيراً في عيدكِ سيدتي، آنستي، وابنتي  :

أترعي الأقداحَ يا حوّا فإن الليلَ عسعس

وينم الورد إن شاء إذا الصّبح تنفّس

 يقول الصديق أبو إلياس المُرسي.. من المفارقات العجيبة أن نجد في الميتولوجيا الأغريقية الملهِمات أو “لاس موساس” Las musas  بصيغة المؤنث, وهنّ بنات الآلهة زيوس ومنيموسين التسع، فنجد “كلييوبي” ملهمة الشعر الحماسيّ البلاغة، وأختها “كلييو” ملهمة التاريخ… ونجمع الشعر بالتاريخ ليخرج شاعرنا العربي من بين ثنايا الوديان وهيادب المفاوز والقفار وجبال عبقر التي تسكنها الغيلان وشياطين الشعر ليتباهى بشيطان شعره الذكر الفحل ويقول:

إنيّ وكلّ شاعرٍ من البشر *** شيطانه أنثىَ وشيطاني ذكر!

Visited 11 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا