أفق: الثقافة المغربية بين البدايات والامتدادات
يكتبه: صدوق نورالدين
بداية
إن الثابت الذي يجدر أن نؤسس من خلاله منطلق القول، في محاولة لفهم الدور الأساس للثقافة المغربية، يقتضي الاعتراف بأن هذه الثقافة وعلى امتداد تاريخها لم تكن إلا خلافية. والأصل أن السمة الخلافية جسدها اليسار في رهاناته على التحول وإرساء البدائل الممكنة في سياق الشرط الإنساني. ويتمثل ذلك، أقول يتجسد انطلاقا من المسؤولية التي اضطلع بها كتاب ومثقفون من حيث إدارتهم للشأن الثقافي، وتصورهم الناضج الرابط الثقافي بالاجتماعي والتربوي، دون الغفل عن الخلفية السياسية التي تعد المهاد لما يمكن أن يعكس الصورة الحقة للثقافة المغربية.
من هذا المنطلق تولدت الغاية متمثلة في ضرورة إشاعة وعي تنويري عقلاني وحضاري. الوعي الذي يجعل من مرحلة ما بعد الاستقلال، فاتحة الطريق لإرساء قواعد ومرتكزات النهوض والتقدم. وبالطبع فإن سيادة صيغة الوعي المطلوب، لا يمكن تحققها دون مجابهة عثرات ومزالق تستلزم التغلب عليها.
مجلات رائدة
إن محاولة تدوين وكتابة تاريخية الثقافة المغربية الجادة، تتأسس انطلاقا من رسم صورة عن الدور الريادي الذي أسست له مجلات مغربية استطاعت برغم قساوة الظرف، ترسيخ صورة عن الثقافة التي يجدر أن تسود وتتداول، إذا ما ألمحنا لكون الضرورة فرضت تجديد الرؤية إلى صيغ التعبير الأدبي كما المناهج التي تعتمد في مقاربة الفكري والأدبي. وليس غريبا أن يكون من وراء التأسيس أساتذة جامعيون خبروا متطلبان اللحظة المغربية وما تستلزمه من تجديد يضاد الأشكال التقليدية التي استنفدت إمكانات مسايرة التحولات التي طبعت الحركة الفكرية على مستوى الغرب، دون غض الطرف عن التأثيرات المشرقية، إذا ما ألمحنا لكون نخبة من هؤلاء الأدباء والكتاب والمفكرين تابعوا دراساتهم سواء في مصر أو سوريا، وبالموازاة تحقق الاستكمال في فرنسا تحديدا.
أ_ صدر العدد الأول من مجلة “أقلام” في يناير 1964. وأشرف على إدارة وتحرير المجلة نخبة من الأدباء والمفكرين نذكر من بينهم الراحلين: الأستاذ محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي، وعبد السلام بنعبد العالي ومحمد إبراهيم بوعلو، أمد الله تعالى في عمرهما.
ورد في التقديم للمجلة الموقع من طرف الأستاذ أحمد السطاتي:
” إن المثقف – كمواطن، يستطيع أن يدرك الأمور بوضوح، وأن يتبين المزالق والعثرات التي يصطدم بها تيار التقدم_ مطالب بأن ينقل هذا الإدراك إلى غيره من المواطنين، وأن يشركهم فيه بأمانة، وأن يبتدع الحلول الصادقة التي تضمن سلامة الجميع، فأمام المثقف فرص كثيرة لإحداث تقدم في بلاده ما لم ينفصل عن الجماهير من جهة، وما لم ينفصل عن ذاته من جهة أخرى”.
يتضح من خلال هذه الفقرة، المطمح الذي سعت المجلة لترسيخه، وينبني على ضبط تعريف لشخص المثقف، كما الوظيفة التي يجدر القيام بها. فالتفرد بالإدراك مسؤولية تقتضي أمانة النقل بصدق لما يجسد معرفة وفكرا، إذا ما أريد تحقيق التقدم المنشود.
فـ” أقلام” _ وبامتداد عمرها _ كشفت منذ البدء _ وهو المعمول به أصلا_ عن المسار الذي ستنحوه بغاية تأكيد ثقافة مغربية بديل للمتداول في صيغته الرسمية. يتضح ذلك من الأسماء التي أسهمت بالكتابة: الراحل أحمد المجاطي، محمد برادة، محمد إبراهيم بوعلو، إبراهيم السولامي ومحمد بن دفعة. كما انفتحت على أسماء عربية نذكر من بينها: غادة السمان، سنية صالح وخليل الخوري. والملاحظ أن الأستاذ عبد الله العروي نشر نص مسرحيته “رجل الذكرى” باسم مستعار “عبد الله الرافضي”، وكان أشار في تقديمه للنص أو الحوار التلفزيوني وفق التحديد، إلى أنه بعث النص لمجلة “دعوة الحق”، لولا أن مدير التحرير اعتذر لعامل الغموض الذي يسم النص. يقول الأستاذ العروي:
” ظننت طيلة شهور أني أضعت تلك الورقات ثم عثرت عليها بالمصادفة وأنا في القاهرة أثناء صيف 1960. أعدت صياغتها وكلفت أحد الأشخاص بطبعها على الآلة.
لا أظن أني وفقت فيما قمت به من تحرير وتنقيح. لما عرض النص على مدير مجلة “دعوة الحق” الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، اعتذر قائلا إنه لا ينشر نصا لا يفهمه.
أميل اليوم إلى تصويب رأيه، رغم أن مؤسس مجلة “أقلام” رحب بالنص ونشره في العدد الأول.” (“رجل (الذكرى”/بيروت/ ص/ 5).
إذن نحن أمام تصورين للكتابة أو التعبير، أو عموما للثقافة: التصور الرسمي الذي يدعي النزوع للوضوح، والتصور المغاير الذي يؤسس لكتابة بديل.
ب _ جاءت مجلة “آفاق” لتعكس تمثيلية دالة عن واقع الأدباء والكتاب في المغرب. وفي الآن ذاته لتجسد الصوت الناطق باسم اتحاد كتاب المغرب، حيث صدر العدد الأول في يناير (1969) تحت إدارة الكاتب والأديب الراحل عبد الكريم غلاب (وكان في الآن نفسه رئيس اتحاد كتاب المغرب لثلاث مرات). بينما تحمل مسؤولية “آفاق” اتحاد كتاب المغرب العربي الأستاذ محمد عزيز الحبابي رحمه الله. ومن جانب ثالث، أسهمت المجلة في دعم وترسيخ أسس ثقافة مغربية مواكبة للتحولات الفكرية العربية، كما مستجدات الكتابة والتعبير الأدبي.
تصدر العدد نص قصيدة الشاعر الراحل أحمد المجاطي “السقوط”. وهو التصدير الدال عن تغيير في مفهوم الكتابة الشعرية، وعن ارتباط المعنى بالواقع في بعده السياسي والاجتماعي، وهي الخطوة التي قادت إلى خلق متلق جديد يعي تمام الوعي ما يقدم على قراءاته والتفاعل معه.
على أن مقالة الأستاذ محمد برادة “الأدب المغربي واللحظة التاريخية”، ألمحت إلى ضرورة الرهان على التغيير فيما يتعلق بمسار الثقافة المغربية، خاصة وأن ما سلف من أنماط الوعي لم يعد يؤدي وظائفه ومن منطلق كون العلامات والقرائن تحتم كسر “الاعتياد” و”الأحكام المسبقة” وتدعو إلى التغيير.
يقول الأستاذ محمد برادة:
“يصعب دائما في غمرة الأحداث المتلاحقة، وفي دوامة الصراعات الآخذ بعضها برقاب بعض، أن نستبين العوامل التي تتراكم لتشكل “اللحظة التاريخية” المنذرة بالتغيير، وبهبوب رياح جديدة، الهزة العنيفة هي وحدها التي تفصلنا عن أسر الاعتياد، وتخلخل أحكامنا المسبقة، ومقاييسنا المطمئنة، وتنبهنا إلى وجود قوى “غريبة” تسللت في غفلة لتلغم الوجود الطبيعي وتدعونا إلى التغيير أو الاندثار.”
ونشر الأستاذ عبد الكريم غلاب رحمه الله في نفس العدد، مقالة وسمها بـ”بعد المؤتمر”. وهي المقالة التي تملك راهنيتها إلى اليوم بالرغم من الفارق الزمني البعيد، خاصة وأنها تضع الأدباء والكتاب أمام خارطة طريق لما يجدر أن ينهضوا به بعد انتهاء المؤتمر، من حيث تجذير أسس النقد الذاتي، ومناقشة واقع الثقافة المغربية، على أن يشكل ما بعد المؤتمر، مرحلة جديدة في الكتابة وعلى الإبداع. يرى الأستاذ غلاب:
“حينما عقد “اتحاد كتاب المغرب” مؤتمره الثاني، لم يكن يهدف من ورائه أن يكون مؤتمرا تنظيميا تلقى فيه الخطب، ويخرج منه بتوصيات نظرية وانتخابات مكتبية، وإنما كان يستهدف منه أن يكون مؤتمرا للنقد الذاتي، يقف فيه الكتاب ليناقشوا المستوى الذي وصلت إليه الثقافة والفكر والإنتاج الثقافي في المرحلة التي يجتازها المغرب، وليبتدئوا من المؤتمر مرحلة جديدة في طريق الخلق الأدبي”.
ت _ أعلنت مجلة “الثقافة الجديدة” عن لحظة صدور عددها الأول في خريف 1974، حيث تحمل مسؤولية إدارتها الشاعر محمد بنيس. وأما التحرير فتكفل به القاص الراحل مصطفى المسناوي. ومثلما هو واضح في العنوان الذي اختارته، فلقد جاءت لتعلن عن ضرورة إرساء ثقافة جديدة بديل. الثقافة التي ترتبط بالواقع وتسهم في إنتاج معناه، وبالتالي تواكب مسار التحولات التي تعرفها الحركة الفكرية عربيا وعالميا. وتمثل هذا الاختيار، في قناعة الاستمرارية بالرغم من صعوبة الظرف، إلى المواكبة القوية للنتاجات الأدبية والفكرية التي كانت تصدر بشكل فردي في المغرب.
إن الاستشعار المعبر عنه في “مقدمة للقارئ” بكون الثقافة تعيش في أزمة، فرض مطلب البحث عن مفاتيح لتجاوزها. والأصل أن التجاوز لا يمكن تحققه إلا انطلاقا من ترسيخ وعي هادف بمتطلبات المرحلة وما باتت تفرضه. ولقد عملت المجلة من خلال تراكمها المتحقق، على التفرد بتخصيص أعداد لقضايا فكرية وأدبية وفلسفية هامة يمكن عدها اليوم مراجع للباحثين والدارسين، وبالأخص ما يرتبط بنهضة الثقافة المغربية. ومن جملة ما ورد في تقديم العدد الأول:
” إن الثقافة المغربية / فكرا وإبداعا تعيش في أزمة. هذه حقيقة لا نغامر حين نجهر بها. إن ثقافتنا منفصلة عن الواقع، لا تنطلق منه ولا تتفاعل معه، ثقافة شقية بوعيها الزائف، تدور حول نفسها وتجتر انهزاميتها و شقاوتها، مما دفعها لتقف ضد سير التاريخ، واندفاعه المتتالي نحو محوره المشرق. وأزمتنا الثقافية جزء من الأزمة الثقافية التي يعرفها العالم العربي، مع الاحتفاظ ببعض الخصائص النوعية المميزة لوضع المغرب الثقافي. بعض مثقفينا أصبح مقتنعا بهذه الأزمة، والبعض الآخر لم يقتنع بعد. ونحن حين نصدر هذه المجلة ننطلق عن اقتناع بوجود هذه الأزمة الثقافية”.
وتحق الإشارة إلى كون العدد الأول ضم من الكتاب والأدباء: الأستاذ عبد الله العروي، مصطفى الإدريسي، عبد القادر الشاوي، محمد الواكرة، عبد الله راجع و الطاهر بنجلون.
عود على بدء
إن ما جيء على رصده بخصوص تاريخية الثقافة المغربية انطلاقا من المجلات التي نرى بأنها الأطول عمرا وحياة ومقاومة، لا يلغي من الاعتبار تجارب أخرى نحت المحنى ذاته من حيث الخصوصية والدعوة إلى ترسيخ ثقافة جادة وعقلانية. ونستدل بـ: ” المشروع”، “المقدمة”، ” الزمان المغربي”، “البديل”، “الجسور”، “علامات”، وما فاتني بالتحديد فيما يتعلق بالمجلات التي صدرت باللغة العربية.
فالغاية تتجسد في:
1/ الوقوف على نواة التأسيس لثقافة مغربية حديثة تفيد من الإرث المشرقي، وتنفتح على مستجدات الغرب بحثا عن وعي مستنير يدعو إلى التقدم.
2/ إن التعدد المرتبط بهذه الإصدارات التي أقدم عليها _ كما سلف _ أساتذة جامعيون أكفاء، أسهم في إنتاج المعنى ذاته، وإن اختلفت صيغ الدعوة كما أسماء الكتاب والأدباء.
3/ إن الإحساس بفاعلية هذه الثقافة _ وإلى اليوم_ دعا بالضبط في (1984) إلى إيقاف صدور هذه المجلات، دون العلم بأن التعبير وإن لم يتحقق عبر المجلة يتم بواسطة ثانية هي الكتاب.
<
p style=”text-align: justify;”> إن الثابت الذي أشرنا إليه في التقديم هو السائد والمعتمد في ضوء الراهن، ومطلوب من اتحاد كتاب المغرب كما الفاعليات الثقافية الجديرة بالتحديد، الاستمرار في ترسيخ هذه القيم الثقافية المناهضة لكل ما يعد رسميا، وذلك باعتماد الحوار والمشاركة، والاعتراف بأن تجديد النخب ضرورة لا محيد عنها و إلا فإن ما تعمد الثقافة إلى محاربته كاستبداد بالرأي وإجهاز على الحريات هو ما يتحقق تكريسه في زمن يرفض مثل هذه الأساليب والقناعات الذاتية المغرضة.