َأفْيَنَةُ الإسلام: بينَ شريعتي وعدنان إبراهيم…

َأفْيَنَةُ الإسلام: بينَ شريعتي وعدنان إبراهيم…

 نجيب علي العطار

لطالَما كانَ التَّاريخُ مُدخلًا ضَروريًا لفَهمِ الحاضرِ وإعادةِ تَشكيلِ المُستقبل. وفي هذا المَقامِ يَقولُ المُفكِّرُ الفِلسطينيُّ عَدنان إبراهيم ما مَفادُه أنَّ أعجزَ النَّاسِ عن إدارةِ حاضرِهم وفهمِه هُم أعجزُهم عن فَهْمِ ماضيهِم. وليسَ ثَمَّةَ من كيانٍ فِكريٍّ أشدُّ تَجذُّرًا وتَرَسُّخًا في التَّاريخِ، ومُلازَمةً للوَعيِ الإنسانيِّ، منَ الدِّين الذي يُشكِّلُ بابًا من أبوابِ دِراسةِ حضاراتِ الأُممِ والشُّعوب. وليسَ الإسلامُ بِدْعًا منَ الأديانِ، وليسَ المُسلمونَ، والعربُ بصورةٍ أَوْلى، بِدْعًا منَ الشَّعوبِ التي تنتمي إلى آلِ آدم.

  في مُحاضرتِه بعُنوان «وعيُنا التَّاريخيُّ كم هو بائس!»، يَستشهدُ عدنان إبراهيم بمقولةٍ للفيلسوف الرّوسي نيكولا برديائيف مفادُها أنَّ الأُممَ في لَحظاتِ انحطاطِها يَرْهُفُ فيها الحِسُّ النَّقديُّ للتَّاريخ. وإذ أنَّ الأمَّةَ الإسلاميَّة، بحسبِ إبراهيم، لم يزلْ «ماضيها ماثِل وحاضر وبعُنفٍ في حاضرِها كالأُمَّة الإسلاميَّة»، وإذ أنَّنا، نحنُ العربَ والمُسلمين، مَكروثون على كُلِّ ما له قابليَّةُ أن يُكرَث، وإذ أنَّ ضرورةَ إعادةِ قراءةِ تاريخِنا وتفسيرِه، بل وإعادةِ تشكيلِه، بمنطقٍ رُؤْيَوي وليس روائي، تتبدَّى مِن واقعِنا المأزوم والمَكروث، يتساءلُ عدنان إبراهيم؛ «لماذا لا نرى لديْنا حِسًّا مُرهفًا بالتَّاريخ؟»، ثُمَّ يُجيبُ بأنَّ مَرَدَّ هذا إلى أنَّ  «الذين أرادوا، وأُريدَ لهم، أن يتصدَّروا المَشهد [هُم] جماعةُ مُغفَّلين لا عِلاقة لهم بالتاريخ ولا بدرس التَّاريخ وأعجز من أن يفهموا التَّاريخ [لأنَّهم] يُحرَّمون دراستَه أصلًا».

  وفي المَقامِ نفسِه، مَيَّزَ المُفكِّرُ الإيراني علي شريعتي، في مُحاضرتِه بعُنوان «دينٌ ضدُّ الدِّين»، بينَ دينَيْن؛ دينٌ ثوريٌ ودينٌ تبريريٌّ/ دينُ الشِّرك. يَشرحُ شريعتي سِماتِ الدِّين الثَّوري ويُقرِّرُ أنَّ « السمة الأساسية لهذا الدين أنه يتفادى تبرير الوضع القائم تبريرًا دينيًا ولا يُؤمن بمبدأ الرضوخ للأمر الواقع أو اتخاذ موقف اللامُبالاة حيال ما يُحيطُ به»، إذ أنَّه «يُغذِّي أتباعَه ومُعتنقيه برؤيةٍ نقديَّةٍ حِيالَ كُلِّ ما يُحيطُ بِهم من بيئةٍ ماديَّةٍ ومَعنويَّةٍ، ويُكسِبُهم شعورًا بالسؤوليَّة تِجاه الوَضعِ القائم». و على المُستوى الإسلامي: يُمكن أن ندرُسَ مِصداقيَّةَ كلام شريعتي من خِلال دراسةِ التَّاريخ الإسلامي الأوَّل دراسةً عِلميَّة من جهة، ودراسةِ الآياتِ القُرآنيَّة التي تُقرِّرُ بشكلٍ صارخٍ حُريَّةَ الإنسانِ ومسؤوليَّتَه تجاه مصيرِه، فردًا وجماعةً، والآياتِ التي يُمكنُ أن تُعنْوَنَ بعُنوانِ النَّقدِ الإلهيِّ للمُسلمين.

 أمَّا الدِّينُ التَّبريريُّ أو دينُ الشِّرك، بحسب شريعتي، فهو الذي «يسعى إلى تبريرِ الوَضعِ القائمِ عبرَ ترويجِ المُعتقداتِ ذاتِ الصِّلةِ بما وراء الطَّبيعة» وإنَّ « العواملَ الأساسيَّةَ لدينِ الشِّركِ -كما يُعدِّدُها الإلحاديُّون بحقٍّ- هي الجهلُ والخوفُ والمالكيَّةُ والتَّمييزُ الطَّبقيُّ [وإنَّها] حقائقٌ لا يُمكنُ إنكارُها». ويُقرِّرُ شريعتي أنَّ «قولَهم: “الدِّينُ أَفيونٌ للشُّعوبِ جاءَ ليُخضِعَ النَّاسَ للذُّلِ والهَوَانِ والجَهلِ والتَّخلُّفِ والمصيرِ المجهول” هو قولٌ صحيحٌ لا يُمكنُ إنكارُه والنَّيلُ منه». ويُضيفُ أنَّ «هذا الدِّينَ هو الذي سيطرَ دائمًا على التَّاريخِ سوى حقبٍ زمنيةٍ قصيرةٍ لمعتْ كالبرقِ ثمَّ انطفأتْ. إنَّه دينُ الشِّركِ مهما كانتْ أسماؤه ومسمَّياتُه، حتى لو سُمِّيَ بدينِ التَّوحيدِ أو دينِ موسى أو دينِ عيسى أو اصطُلحَ عليه بخلافةِ النَّبيِّ أو خلافةِ بني العبَّاسِ أو خلافةِ أهلِ البيتِ أو غيرِ ذلك». وتاليًا، فإنَّ الذين قالوا أنَّ الدِّينَ أفيونُ الشُّعوب إنَّما «استنبطوا ذلكَ منَ التَّاريخ».

بِعبارةٍ مُغايرةٍ؛ إنَّ الذي حدثَ، ويَحدثُ، هو عمليَّةُ أَفْيَنَةٍ للدِّينِ، أي جعلُ الدِّينِ أفيونًا. وإذْ نقولُ «أَفْيَنَةً» فإنَّ هذا يُقرِّرُ أنَّ الأَفْيُونِيَّةَ ليستْ من ذاتِ الدِّين. فالخِطابُ الوَظيفيُّ لوَزْنِ «فَعْلَنَة»، لُغةً، هو «الإفصاحُ عن معنًى لم يكنْ سَجِيَّةً أو طبعاً في صاحبِه ثمَّ تَحوَّلَ إليه واتَّصفَ به، فصارَ أَمارةً عَلَيْهِ، وصِفةً شبهَ ثابتةٍ في سلوكِه». وتاليًا فإنَّ «أَفْيَنَةَ الإسلامِ» هي عمليَّةُ تَحويلِه مِن دينٍ ثَوريٍّ إلى دينٍ تبريريٍّ، وهذا يعني انقلابًا على روحِ الإسلام ويَلزمُ عنه سَيْرٌ في الخَطِّ المُعاكسِ لخَطِّ القُرآن. إذْ أنَّ روحَ الآياتِ، وظاهرَها أحيانًا، يؤكِّدانِ أنَّ القُرآنَ لا يخدِمُ مَشروعَ السَّيطرةِ على النَّاسِ باسمِ الدِّين. بل على العَكسِ تمامًا، إذْ أنَّ إنسانَ القُرآنِ، إذا أُجيزَ التَّعبير، هو أكثرُ كيانٍ يخافُه المُروِّجون لدينِ الشِّرك؛ أولئكَ الذين، بحسبِ شريعتي، «يخشَوْنَ دائمًا يقظَةَ النَّاسِ ووعيَهم».

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني