محمود القيسي
 
“قد أنسوكم كل التاريخ وكل القيم العلوية.. 
 
أسفي أن تخرج أجيالٌ لا تفهم معنى الحرية.. 
 
لا تملك سيفاً أو قلماً لا تحمل فكراً وهوية”.
 
                                * الشاعر احمد مطر
 
     ليس كل ما يُكتب مُقَدَّس، وليس كل مُقَدَّس مكتوب.. كما أن بعض الشارات والكؤوس والأيقونات تعني بعض المرسلين والانبياء.. وليس من سرق على غفلة من التاريخ تلك الشارات والكؤوس والانبياء.. حيث إن التاريخ وبكل آسف يغفو في بعض مراحله التاريخية، أو يُطلب منه ان ينام.. وما أبشع التاريخ حين يغفو أو يَنَام.. يكتبه الناكثين، والقاسطين، والمارقين، واللصوص، والقراصنة ومنتحلو الصفات.. صفات القديسين والرسل والمناضلين والأنبياء!
 
   كتب محمود درويش عن التاريخ قائلا: لا تكتبِ التاريخَ شعراً، فالسلاحُ هُوَ المؤرِّخ. والمؤرّخ لا يُصَابُ برعشة الحُمَّى إذا سَمَّى ضحاياه ولا يُصْغي إلى سرديّة الجيتار. والتاريخ يوميّاتُ أَسِلحَةٍ مُدَوَّنةٌ على أَجسادنا. وليس للتاريخ عاطفةٌ لِنَشْعُرَ بالحنين إلى بدايتنا، ولا قَصْدٌ لنعرف ما الأمام وما الوراء…
 
   هيجل كان محقاً عندما قال إننا نتعلم من التاريخ أن المرء لا يستطيع أن يتعلم أي شيء من التاريخ. أعتبر نعوم تشومسكي أن هناك هدف من تحريف التاريخ وجعله يبدو وكأن الرجال العظماء فيه فعلوا كل شيء بعد النفخ فيهم. إنه جزء من كيفية تعليم الناس أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، وأنهم عاجزون، وعليهم فقط انتظار رجل عظيم ليفعل ذلك من أجلهم!
 
   يعتبر تاريخ “هيرودوتس” أول عمل تاريخي نقدي معروف، كتبه المؤرخ هيرودوت (484 – 425 قبل الميلاد) الذي صار يُعرف باسم “أبو التاريخ”. ويرى بعض العلماء أن “ابن خلدون” هو المؤسس الأول لعلم التأريخ، بتلك النظرة الغربية الحديثة لابن خلدون التي تجعل منه عالما غربيا بإمتياز، وتتناسىى كونه عربيا حضارة وثقافة.
 
   يرى هؤلاء العلماء أن ما جاء في المقدمة هو نتاج تميز شخصي حاز عليه ابن خلدون، ومن ثم فهو ليس له امتداد تاريخي في الحضارة العربية والإسلامية. في حين غاب عن ذاكرة البعض إن التاريخ طريق الحقيقة ولا حقيقة غير الحقيقة التاريخية. من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي.
 
   تاريخ كل أمة خط متصل، وقد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع. يمتد التاريخ المسجل لما يقرب من 5000 عام، بدءًا من الكتابات المسمارية السومرية التي تعتبر الأقدم من بين الكتابات المتماسكة في التاريخ من حوالي 2600 ق. م. وغطي التاريخ القديم جميع القارات التي سكنها البشر في الفترة من 3000 ق. م – 500 م.
 
   على ماذا تقوم فكرة التاريخ؟ الجواب: تقويم فكرة التاريخ على أساس التدوين القصصي لمجرى التفاعل بين الإنسان وبيئته وما ينشأ منه من حوادث وإنجازات أسهمت في صقل مدارك البشرية ووجودها. أهم درس يمكن أن نستفيده من التاريخ هو أن البشر لا يستفيدون كثيرا من دروس التاريخ. كل كتب التاريخ التي لا تحتوي على أكاذيب مملة للغاية.
 
   اختلف المؤرخون في تحديد “أقدم حضارة” على وجه الأرض ولكن اجتمع الأغلبية حديثا على أقدم حضارة في العالم وهي حضارة بلاد الرافدين حضارة السومر. عرفت عن تلك الحضارة بالعثور على شظايا من الألواح الطينية مكتوبة بالكتابة المسمارية. التاريخ أخطر العقاقير التي ابتكرتها كيمياء العقل.
 
   ويذكر المؤرخ اللبنانى نجيب مترى مؤسس دار المعارف المصرية سنة 1890، فى كتابه “ملخص التاريخ القديم” أن الحضارة المصرية هى “أطول تاريخ مستمر” لدولة حيث يزيد عن 7 ألاف سنة، وهى أقد حضارة فى التاريخ الإنسانى. الإنسان يأخذ نفسه على محمل الجد كثيراً.. إنها خطيئة العالم الأصلية.. لو عرف رجل الكهف كيف يضحك، لكان التاريخ مختلفا.
 
   ويضيف درويش: ولا استراحاتٌ على سِكك الحديد لندفن الموتى، وننظُرَ صَوْبَ ما فَعَلَ الزمانُ بنا هناك، وما فَعَلْنا بالزمان. كأَنَّنا منهُ وخارجَهُ. فلا هو منطقيٌّ أَو بديهيٌّ لنكسرَ ما تَبَقَّى من خرافتنا عن الزمن السعيد، ولا خرافيٌّ لنرضى بالإقامة عند أبواب القيامِة. إنَّهُ فينا وخارجنا .. وتكرارٌ جُنُونيٌّ من المِقْلاع حتى الصاعق النَّوَويِّ.
 
   ليست بالحقائق وحدها يعيش الناس وتجري حركة التاريخ – التاريخ مصطلح شامل يتعلق بالأحداث الماضية بالإضافة إلى الذاكرة، واكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات حول هذه الأحداث. يطلق على العلماء الذين يكتبون عن التاريخ أسم المؤرخين.
 
   ولابد أن يتأثر التاريخ بمفاهيم عامة تؤثر فيه فهناك من يعتبره رابطا للحقائق وتفسيرها، فالمؤرخ يختار المادة الأولية ثم يكسبها مفهومها التاريخي، وهو في كل الأحوال محور الموضوع، ويرى بعض المؤرخين أن التاريخ كله تاريخ معاصر، أي أن التاريخ كله تاريخ معاصر والمراد بذلك أن التاريخ يتكون من رؤية الماضي بمنظار الحاضر.
 
   “الأنسان محور التاريخ”.. هذا القول صحيح، فالإنسان هو محور التاريخ وحوادث الإنسان في كل زمان ومكان هي موضوع التاريخ. فالتاريخ هو دراسة الأحداث التي وقعت في الماضي، وهذه الأحداث كلها كانت من صنع الإنسان. فأحداث التاريخ تشمل الحروب والسلم، والاكتشافات العلمية والتكنولوجية، والتطورات الاجتماعية والثقافية، والتغيرات السياسية والاقتصادية.
 
   كان حوض البحر الأبيض المتوسط ​​مهد الحضارة العالمية منذ المستوطنات الأولى التي أقيمت في عام 9000 قبل الميلاد في أريحا. والبحر الأبيض المتوسط معروف في اللغة الانكليزية واللغات ذات الأصل اللاتيني بأنه البحر الذي “يتوسط الأراضي”..
 
  وأطلقت عليه العديد من التسميات: بحرنا بالنسبة للرومان، والبحر الأبيض بالنسبة للأتراك، والبحر الكبير بالنسبة لليهود، والبحر المتوسط بالنسبة للألمان، وثمة أحتمال مشكوك فيه كثيرا في أن قدماء المصريين أسموه الأخضر الكبير.
 
   وأدى بحرنا دورا رئيسيا في الاتصالات بين الشعوب حوله، وحال دون وقوع اشتباكات بين الشعوب ذات المصالح المختلفة من أجزاء مختلفة للحوض. ولا يوجد مثيل لحوضه في العالم.
 
  وتوضح خريطة العالم الموقع الفريد للبحر الأبيض المتوسط ​​في العالم، فهو كبير بما يكفي ليسعنا جميعا ولكنه في الوقت نفسه، بشكله الفريد وجزره وخلجانه ومضايقه، يخلق وسائل لربط الشعوب التي تعيش حوله. ويبدو كما لو كان بحرا مغلقا، ولكنه يوفر طرق النقل الرئيسية بين الشرق والغرب تاريخيا.
 
  التاريخ الذي درسناه في المدارس كما يقول علي الوردي جعلنا نحفظ الملوك وفتوحاتهم دون أن نسأل عن مشاعر الشعوب المكبوته بعد الفتح. كان التاريخ منظورا إليه من هذه الزاوية يبدو كمقبرة من أفكار زائفة يتبناها البشر تارة ويهجرونها تارة أخرى كمخزن للملابس التنكرية لم يظهر فيه وجه الواقع بعريه الحقيقي ولا مره واحدة.
 
   يستطرد محمود: يصنعُنا (التاريخ) ونصنعه بلا هَدَفٍ … هل التاريخ لم يُولَدْ كما شئنا، لأن الكائنَ البشريَّ لم يُوجَدْ؟ فلاسِفَةٌ وفنَّانونَ مَرُّوا من هناك…. ودوّن الشعراءُ يوميّاتِ أزهارِ البنفسج ثم مروا من هناك …. وصدَّق الفقراءُ أَخباراً عن الفردوس وانتظروا هناك…. وجاء آلهةٌ لإنقاذ الطبيعِة من أُلُوهيَّتِنا ومَرُّوا من هناك. وليس للتاريخ وقت للتأمُّل, ليس للتاريخ مرآةٌ ووجه سافرٌ. هو واقعٌ لا واقعيٌ أَو خيالٌ لا خياليٌّ، فلا تكتبه. لا تكتبه، لا تكتبه شعراً!
 
   نعم، لا تكتب التاريخ شعراً… كي لا تفضحنا معاني الكلمات.. عن أطفال غزة الذين رحلوا قبل الرحيلا… كي لا تفضحنا القوافي العالقة بين جدائل فتيات غزة الصغار… لحظة الانفجار. نعم، لا تكتب التاريخ شعراً كلماته معلقة على أجنحة الفراشات… أجنحة الفراشات المحروقة في مدن وطرقات قطاع الموت اليومي… قطاع الموت اليومي جوعاً أو مرضاً أو قصفاً… بأحدث ما أنتجته تكنولوجيا الموت الذكي ضد الأطفال – أطفال القطاع – قطاع غزة!