كيف صار واقع المأساة الفلسطينية في رواية “قناع بلون السماء”؟
لحسن أوزين
لا أعتقد أن بإمكان القارئ الفاعل، المنتج للمعاني والمولد للدلالات، خلال سيرورة عملية التلقي، والمنخرط فنيا وجماليا وفكريا مع رواية “قناع بلون السماء”، أن يتخلص من الرواية قيل الوصول إلى السطر الأخير منها. والأكثر من هذا سيجد نفسه معنيا مقصودا بكل أسئلتها، ومتورطا في مساراتها والقضايا التي أسست وجودها الأدبي الجمالي، والفكري السياسي التاريخي. فمتخيل الرواية وتقنياتها وأدواتها، وشكلها الفني الروائي، ومضامينها المعرفية والفكرية السياسية، تنبع من فرشة تحتية عميقة، شكلتها وصاغتها العديد من النصوص الأدبية والفكرية والسوسيولوجية، والنقدية التاريخية…
لذلك تضافرت في عملية سيرورتها الروافد الفنية والرؤى الفكرية القادرة على جعل الواقع الحقيقي الفلسطيني رواية، لها هيكلها الفني الجمالي، ومنطقها الداخلي في اشتغال أدواتها وآلياتها، ككتابة أدبية، تجمع في ترابطها الجدلي بين المتخيل الروائي والواقع الحي. إنها رواية تشتغل على نفسها باقتدار فكري وتمكين فني جمالي. تفكر في نفسها بوصفها ميتاسرد تسائل أدواتها الفنية، وحركة تطور سيرورة صنعتها الجمالية، وبنياتها الفكرية والدلالية. تفكك واقعها الحقيقي المأساوي، وتعمل على تشريحه وتقطيعه بتوسط لغوي فني، وفكري. تتبلور وتتطور في سياق امتصاصها لعشرات من الكتب الفكرية والأدبية، الشيء الذي خصب عملية الانتقال من الاستيعاب، إلى الإنتاج الروائي، مرورا بمرحلة التجاوز. هذا ما تصرح به الرواية، وهي تؤسس هويتها السردية، أو حين تشتغل على ذاتها بوصفها كتابة إبداعية لها شروطها وخصائصها اللغوية والمعنوية، وبنياتها ومنطقها الخاص المستقل.
فحقلها الدلالي، وخطابها الفكري، وحواريتها المتسعة المنظور، والمتعددة الوجوه والأصوات الإيديولوجية. تجعل القارئ الفعال يدرك أنه أمام رواية ديكولونيالية. لها ما يكفي من الوعي الفكري السياسي والتمكين المعرفي العلمي السوسيولوجي التاريخي، والنضج الفني الإبداعي، في خوض الصراع التاريخي الاجتماعي السياسي، والعصيان المعرفي، والسلطوي الكولونيالي. دون خوف من لعبة الأقنعة التي يمكن أن تؤدي إلى السقوط في فخ التماهي بالمعتدي الاستيطاني، في التفكير والأفكار والأحكام والمعايير والقيم.
أولا/ متعة القراءة في اختراق المألوف وإنتاج الأسئلة
منذ البداية تُورط الرواية القارئ في أرضية بنائها، يصير شريكا معنيا باكتشاف أسئلة الإبداع الفني المتخطي للمألوف في كتابة الرواية، كشكل أدبي جاهز مفعم بثقافة الأجوبة التي تلقن القارئ الأفكار والمواقف والرؤى الصحيحة. تبعا لتسلط أحادي صريح، أو مضمر في الواجهة الديمقراطية للتعبير الأقرب إلى المشهد السياسي للحاكم العربي. تنقض الرواية ثقافة الأجوبة النمطية هذه، وتشرك القارئ في الجهد الإبداعي الذي لا يكتفي بسحر الموهبة، بل يتسلح بمقدار هائل من المعرفة المتعلقة بالسياقات والترابط الجدلية للبنى المادية والأنظمة والانساق الثقافية والرمزية في علاقاتها الداخلية، أو في ارتباطاتها القهرية بسطوة الاخر كاحتلال محلي مدعوم بكولونيالية متجذرة في التاريخ الاستعماري الامبريالي الحديث والمعاصر. يتضح هذا من الأشكال الفنية الجمالية، والرؤى الفكرية السياسية التي تكشف عنها في سياقات انبنائها النصي، أو تضمرها في طياتها المعنوية والإيحائية الدلالية. نتعرف مثلا على التراث السوسيولوجي في تفكيك وحشية الاستعمار الذي يجرد الأصلانيين من إنسانيتهم. يتجلى هذا في إشارات الراوي إلى فرانز فانون، وإلى كتابات ما بعد الاستعمار. مما يؤكد لنا وعيه بخطورة التماهي في ارتداء الأقنعة، كما هو الشأن في الاحتلال الداخلي للذات في هويتها إلى حد تجريف أسسها وتزيف وعيها، وخلق القابلية والقبول والاعتراف الطوعي الارادي بالمحتل. وهذا ما سماه فانون ببشرة سوداء وأقنعة بيضاء. لذلك ليس صدفة أن يشير الراوي في سياقات كلامه إلى هذا الهدر الذاتي للقيمة الإنسانية في التشبه بالمحتل والانسلاخ عن الهوية الذاتية كفعالية إنسانية نقيضة للمشروع الاستعماري الهادف إلى المحو والابادة والاستيطان، وإلغاء الحق الفلسطيني في الحرية والتحرر والوجود الاجتماعي الإنساني الحر والمستقل.
فالراوي واع بمحن الصيرورة والتحولات الرهيبة التي تنقله من تجربة مؤلمة لأخرى أشد ألما وعذابا. وهو لا يملك بوعيه الشقي الذي حنكته قسوة المخاضات العنيفة التي عاشها منذ ولادته التاريخية من رحم النكبة، إلا أن يولد من جديد. وهو يتشرب حليب جدلية النكبة والمقاومة. كما عليه أن يكذب باستمرار بطش الاحتلال في كسر وجوده التاريخي، والآن هنا، في السطوة على زمانه وإبادة مكانه الذي يتسع لما هو أبعد من المفهوم الجغرافي للأرض والوطن.
هكذا منذ البداية يورطنا الراوي في الجهد الفني والفكري الضمني الذي تولدت منه الرواية كسيرورة لا تكتمل إلا من خلال فعالية جمالية التلقي في إنتاج المعاني وتوليد الدلالات والرؤى، والنهايات المفتوحة لولادة الأسئلة من جديد. وهذا يتطلب منا في عملية القراءة البناءة أن نمتلك قدرا من الحس النقدي، واتساعا رحبا في موسوعيتنا الثقافية تساعدنا على بناء فرضيات القراءة للتعرف على النصوص الإبداعية والفكرية التي قامت الرواية بامتصاصها، دون أن نغفل رحم الواقع الحي الفلسطيني الذي احتضن عملية تمرير تبادل السائل المخصب بين الجهد والاقتدار الفكري، والتمكين الإبداعي للموهبة الخلاقة، في جعل الواقع الفلسطيني الحقيقي، لجدلية النكبة والصمود والمقاومة، رواية.
ثانيا/ جدلية النكبة والمقاومة
“من العار أن نحتفل كل عام بذكرى النكبة على أنها مجرد حدث تاريخي مضى. النكبة لم تنته بعد، رحمها مازال خصبا وقادرا على الإجاب في كل لحظة. إنجاب القتل والتشريد والتطهير العرقي والإبعاد والتهجير والمصادرة والتدمير والاقصاء والتهميش والتصنيف والالتباس والسلام المزيف” 120
يخبرنا الراوي منذ الصفحة الأولى على أن الرواية التي يفكر فيها، أو بالأحرى التي تفكر في نفسها بلغة رولان بارت: “لم يكن الأدب أبدا يفكر في نفسه… بحيث يكون في آن واحد موضوعا روائيا وموضوعا مرئيا. كان يتكلم دون أن يكلم نفسه. وبعد ذلك… بدأ الأدب يعي كيانه المزدوج، أي كونه موضوعا ورؤية لهذا الموضوع، خطابا وخطابا لهذا الخطاب، أدبا- موضوعا وميتا- أدب”.
إن إبداعه يأتي كشكل روائي في سياق سيرورة جدلية مرعبة ورهيبة، هي جدلية النكبة والمقاومة. حيث النكبة ليست حدثا تاريخا ماضويا، بل هي مشروع احتلالي استيطاني سياسي ثقافي، يسعى إلى إبادة المكان وسحق الفلسطينيين بعد سلخ إنسانيتهم. وتجريدهم من كل ما يمت بصلة إلى الوجود البشري الإنساني. وذلك ليسهل على الضمير الوحشي الصهيوني محوهم وتهجيرهم بأدوات القتل والتصفية والإرهاب. وهذا ما يجعل من المقاومة، حالة طبيعية موضوعية ضرورية من أجل البقاء والتحرر الوجودي، وليس بحثا عن الاعتراف. بهذا المعنى للنكبة باعتبارها استيطانا إحلاليا، يجد نور الشهدي نفسه مضطرا كمقاومة للفناء الذي يتهدده الى عيش محنة مخاضات التجدد باستمرار، و مقاومة عذابات وآلام فظاعات التطهير العرقي، بخوض تجارب الصمود والولادة من جديد، كفلسطيني حر وفاعل ومستقل.
يشير الراوي أيضا إلى أن رحم النكبة جهنمي لا يشبع في ابتلاع الأرض وسحق الفلسطيني ولسان حاله النازي يصرخ بدموية: هل هناك من مزيد؟
وهذا ما يجعل النكبة تنتج وتفرز تناقضات موضوعية جبروتية قاهرة. بوصفها مشروعا كولونياليا استيطانيا إباديا أفقه الوحيد هو المحو للجغرافية والأمكنة والبشر. والإجهاز على ذاكرتهم التاريخية والهووية والحضارية. كما تفرز تناقضات ذاتية في التوجهات المقاومة للنكبة. وهذا ما عاشه نور كشخصية رئيسية في الرواية باعتباره ابن الشهدي المقاوم الذي تجرع عذابات القمع والاعتقال في السجون الإسرائيلية، كما عانى كثيرا من خيبات السقوط المروع للسلطة الفلسطينية في وحل ومستنقع الاعتراف بحق الاحتلال الاستيطاني في تشغيل طاحونة النكبة لسجق المزيد من الأرض والبشر.
فقد ولد نور، في سياق سيرورة هذه الجدلية الرهيبة، وحيدا مقهورا محروما من مختلف صور الدفء والتواصل الاجتماعي الإنساني المنمي للذات في مشاعرها، فكرها وعيها. كانت ولادته في واقعيتها و رمزيتها المؤلمة تهجيرا قسريا يحمل تبعا لنظرية التعلق النفسي وصمة سيكولوجية الانفصال، أو الهجر النفسي. لأن أمه ماتت أثناء ولادته. وتخلى رفاق الاب المعتقل عن أسرة صديقهم في العراء يواجهون وحدهم محنة الهجر النفسي المضاعف اعتقال الأب، موت الأم وتخلي رفاق درب الآلام عنهم. كما لو أنهم في انسحابهم وإدارة الظهر بوقاحة لأسرة مهدي كانوا أقرب إلى جيش الإنقاذ العربي. هكذا وجد نور نفسه أمام نكبة تعاود إنتاج نفسها، مولدة استعدادات وافتراضات مسبقة تشتغل كهابيتوس بتعبير بيير بورديو، لخلق قابلية داخلية عند الأفراد والسلطة الفلسطينية تسمح بتكريس الاستعمار والاستيطان. فورث نور قدرا تاريخيا من النكبات التي تناسلت من نكبة 48 ونكبة الأب واعتقاله وموت الأم في ما يشبه التخلي والهجران. بالإضافة إلى انكسار الأب، وهو يوقع تعهده واعترافه بممارسة العنف والإرهاب، وليس الكفاح والمقاومة. وكان ذلك تبعا لاتفاقات أوسلو الكولونيالية.
لهذا تحول البيت إلى مقبرة للأحياء، وكم هائل من الصمت القاتل والعذاب الأليم، والتصحر الإنساني الرهيب. فكان على نور أيضا أن يقاوم واقع النبذ والتهجير والوصم الاجتماعي الإنساني السيء، لكونه أشقر أقرب الى صورة الصهيوني الاشكنازي.
فكان على نور أن يقاوم مكرها لا بطلا الصور المرعبة للنكبة وهي تعاود إنتاج نفسها باستمرار. وتحاصره من كل جانب لتذيقه شر العذاب وحرقة الترحال في البحث عن الذات وتعرية عوراتها وظلالها الهشة. وفي الوقت نفسه انتهاك واختراق هوية الاخر لتفكيك هويته السردية، وكشف شفرته الصهيونية الاستعمارية الاحتلالية التي تلبست المحرقة اليهودية الإنسانية وصهينتها، بصورة فظيعة ولا أخلاقية. وحولتها من جريمة ضد الإنسانية الى وقود لإعادة إنتاج الإبادة في حق الشعب الفلسطيني بضورة أكثر من فظاعة النازية.
ثالثا/ هوية فلسطينية وأقنعة صهيونية؟
لقد كان نور واعيا بخطورة التماهي بالمحتل الصهيوني، وبعود الفضل في ذلك إلى صديقه مراد المعتقل في سجون الاحتلال. فهو صديقه الإنساني الأخوي والمعرفي، الشيء الذي أتاح له التعرف على أفكار وقناعات ورؤى مراد، من خلال الكتب التي كان يطلبها منه لمقاومة كثافة السجن. لهذا رغم ما تعرض له نور من وصم سيء في حياته الخاصة عندما لقب بين الناس الاشكنازي، لبشرته الشبيهة باليهود القادمين من روسيا. وغالبا ما استفاد من هذا الشبه واستعمله كقناع يرقى عن الأدائية في التنكر لهويته الحقيقية في نوع من الاستيلاب الذاتي، والخضوع الوهمي للامتياز الصهيوني. فهو غالبا ما يعبر عن وعيه النقدي عن وهم القناع الصهيوني. يتجلى هذا في الحوار والتواصل عبر البطاقات التي كان يسجلها لمراد، وهو يساجله في معارفه وقراءاته للدراسات السوسيولوجية الكولونيالية وما بعد استعمارية، كفرانز فانون وإدوارد سعيد…
لذلك كان في الكثير من المواقف التي يعيشها يتناولها بوعي، ينم عن تحليل نقدي بخطورة السقوط في فخ “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”.
وانسجاما مع استراتيجية الكتابة الروائية التي سعى إليها الراوي في رسم مصائر الشخصيات، في سيرورة البناء السردي والخطاب الروائي، نتعرف على نور شابا عانى من اليتم والخسارات الكبيرة بفقدان الأم منذ الولادة ثم فقدان الأب الذي غرق في بحر الصمت المنقوع في وحل الخيانات العطن، المفعم بالحقارات والمهانة والمذلة، التي ارتمى في أحضانها رفاق الأمس في نضال الكراسي والمناصب العبودية المشبعة بعبء الأدائية الصهيونية، في خدمة الاستعمار الاستيطاني، وتسريع سيرورة تطور مشروع النكبة الذي لا ينتهي.
كما تحمل نور الكثير من العذاب في سبيل تشبثه بحق متابعة دراسته العليا في شعبة التاريخ والآثار. فقد كافح طويلا بجهده الخاص في توفير أقساط الدراسة. وتحدى الظروف الصعبة المادية والمعنوية ليتخرج من الجامعة بعد سلسلة من التجارب والمواقف والعوائق القاهرة القاسية جدا.
وقد اغتصب منه فرحه الوحيد في اعتقال النظام الصهيوني لصديقه مراد، الذي كان يدعمه معنويا ويتقاسم معه الكثير من المعاناة والهموم، والأفكار والطموحات والقناعات والآلام.
هكذا كانت تقود أقدار المتخيل الروائي نور من نكبة لأخرى أشد رهبة وقساوة. إلى أن وصل إلى سوق للملابس المستعملة، حيث اشترى معطفا وجد في أحد جيوبه الداخلية، بطاقة زرقاء لشاب اشكنازي صهيوني اسمه أور شابيرا. الشيء الذي شجعه على الذهاب عميقا في لعبة القناع الذي منحه إمكانية اختراق الجدران العنصرية والاستعمارية المرئية واللامرئية.
واضح جدا أن الرواية في منطقها الداخلي، وهي تفكر في نفسها، في أدوات وآليات اشتغالها، كصنعة فنية جمالية، جعلت مراد خلفية فكرية وسياسية ومعرفية لشخصية نور. تشكل تصوراته ورؤيته للذات والآخر والعالم. في جرأته على تلبس الآخر كأداة في رسم الخطوات والمسارات وتحديد الأهداف. لتعرية السردية الصهيونية الزائفة المؤسسة على القتل والتصفية والجرائم ضد الإنسانية. يتقنع نور شخصية أور الصهيوني لكتابة محرقة التاريخ البشري والعمراني الفلسطيني المدفون تحت رداء محرقة الهولوكوست التي تعرضت لأبشع صهينة في التاريخ الحديث والمعاصر.
رابعا/ من مشروع رواية مريم المجدلية.. إلى معركة الذات ضد الذات
انشغال نور بكشف الطبقات العميقة التاريخية، والظروف والملابسات التسلطية والقهرية، التي طمست وتخلصت من سيرة وسردية مريم المجدلية. هو في الحقيقة وعي بمدى قدرة الرواية على الحفر عميقا في المهمش والمقصي والمنسي والمدفون من التاريخ البشري. وبقدرتها على أن تكون أداة ومقاربة خصبة في تحصيل المعارف والمعطيات التاريخية والسوسيولوجية والأنثربولوجية. لهذا عمل عالم الآثار والتاريخ نور مهدي على التخلص من الخضوع والتماهي المفلس الذي شكلتهفي داخله السلطة الاستعمارية الاستيطانية، التي لا تكتفي في مشروعها الاحلالي الاستيطاني بالسيطرة على الأرض، بل أيضا بتشكيل الذوات الفلسطينية. وجعلها تستبطن قوة وتفوق وشرعية السلطة والمعرفة والسردية الاستعمارية الاستيطانية. لقد تقنع نور بأور لتفكيك استراتيجية التحكم والهيمنة الصهيونية في الذات والتاريخ والجغرافية والقيم الفلسطينية، والتحرر من سلطة الخنوع والخضوع، التي تلجم الذات عن فعل المقاومة المستند على قوة وإرادة ومعرفة الفلسطيني. فكان اهتمام نور/أور برواية المجدلية نابع من اختراق قوة ومعرفة وسلطة وسردية الاستيطان الصهيوني من الداخل في استغلال الشقوق والطيات والظلال الهشة، التي تنتجها السردية الصهيونية في حملتها الدعائية الأيديولوجية، لإنتاج وقائع موضوعية على الأرض، مشوهة ولا أساس تاريخي لحقيقتها. وذلك لتكرس سلطتها في صناعة الذوات والعقول والقابلية للاستعمار، واجتياف الحق الصهيوني في الغلبة والقهر والتهجير والقتل والإبادة…
تلبس نور قناع أور كمطية وآلية معرفية نفسية نقدية لكشف الحقائق التاريخية والآثارية والإبادات الجماعية للقرى والبشر. في حوار نقدي داخلي يولد المقاومة ويناهض الخضوع القائم على التدليس والتضليل والتزوير للوقائع والحقائق التاريخية والجغرافية والثقافية والدينية. هذا يعني يعيد إنتاج سلطة ذاتية لها قوتها ومعرفتها وإرادتها نقيضة للسلطة التي تم استبطانها والتي شكلت وجوده كلاجئ ومهجر ومنكوب…
“أريد أن أدرك حقوقك التي اخترعتها أنت فوق الأرض.. حقك بالوجود.. بالحرية.. بالحركة.. بالاستيطان.. بالاحتلال.. بالاعتقال.. بالاغتيال. حقك بتشريدي ومصادرتي واقصائي وتهميشي.. أريد أن أتعلم الأسماء الصهيونية كلها لكي أقوى على مواجهتك… أريد أن أدركك لكي لا أصير مثلك، أريد أن أستخدمك لكي أتحرر منك. أنا لا أنتحلك.. أنا أدركك.. أتعلمك.. أريد التعرف على كيفية قيامك بالنظر الى الواقع وأحواله.
-وعلى ماذا عثرت أيها العبقري؟
عثرت على ذاتي منعكسة بمرآتك
-وكيف هذا؟
أنا ولدت منك.. من رحم صهيونيتك ومن النكبة التي لحقتها أنت بي. وبالتالي أنا جزء منك وأنت جزء مني.
-أي هراء؟
– بلى وعندما أتعلمك سأقوى على الانفصال عنك، وأنت أيضا ستنفصل عني.
– كيف بحق السماء، أجبني؟
– السر يكمن بالمرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل.. هي الكائنان أحدهما مسيطر والآخر خاضع. أنت أور مسيطر، وأنا نور خاضع.. ولهذا، يجب أن أحطم المرآة.”133و134
يحضر أور في شخصية نور ليرى وجهه في المرآة باعتباره مجرد قناع دخيل غريب. لا امتداد له في التاريخ والثقافة، ولا جذور له في الجغرافية والطبقات العميقة للآثار التاريخية الحضارية. وهذا يذكرنا بكتاب جوديت بتلر” الحياة النفسية للسلطة”. حيث تشتغل الذات على نفسها، كسلطة لها قوتها وعيها إرادتها نقيضة للسلطة التي شكلتها. لهذا تؤسس الذات نفسها بفاعلية كمقاومة تحاور نقديا ونقضيا السلطة القهرية التي اجتافتها داخليا في سبيل التحرر من سطوتها وسيطرتها وهيمنتها.
ولم يكن نور الحامل لقناع أور أن يصل الى هذا المستوى من القوة والإرادة والرغبة في التخلص من سلطة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني التي شكلته واستبطنها في نفسيته العميقة، إلا بفضل صديقه السجين مراد، الذي زوده بالكتب والدراسات التي تناولت الكولونيالية الصهيونية، و فتحت عينيه وعقله على أصله كلاجئ، مشرد ومنكوب.
“لم ينسحب الشهدي من أمام هوية أور شابيرا، بل واجهها.. بل ارتداها هذه المرة مدركا أصولها، فالإدراك هو ما منحه الحصانة وعدم التحول الى كائن مكون من بشرة سوداء وقناع أبيض بحسب رأي صديق مراد فرانز فانون”. 63
خامسا / قدر الفلسطيني المقاومة والولادة من جديد
هكذا يتبين لنا الإصرار والعزيمة وقوة الإرادة، التي تميز بها نور داخليا في أعماقه، خلال، سيرورة معركة الذات ضد الذات التي شكلتها همجية سلطة القهر الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، منذ النكبة. لهذا تلبس نور أور في حوار جذري يعري ويفكك المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعا ضد الإنسان والمكان. حاوره نور داخليا قصد بناء أفق للتحرر منه باعتباره قهرا داخليا وخارجيا في الوقت نفسه. إنه عبء مزدوج يتطلب وعيا جذريا بجدلية النكبة والمقاومة. كشف نور الكثير من التناقضات والظلال في واقع المقاومة، سواء في الواقع اليومي، أوفي الفعل السياسي الاجتماعي، الأقرب الى نوع من التطبيع الصهيوني. الشيء الذي ولد الكثير من العوائق والمآسي الذاتية والموضوعية، في تكريس فظيع لعملية تشكيل الذات الفلسطينية، من طرف سلطة المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني. لهذا كانت صرخة نور مؤلمة إزاء تمدد النكبة وضعف إن لم نقل انهيار المقاومة البناءة الفاعلة. ” أعتقد أنك علمت بنية السلطة ولفصائل الفلسطينية التحضير لاجراء الانتخابات التشريعية بعد أكثر من أربعة عشر عاما من الانقسام الداخلي المرير.. ولربما سمعت أنت أيضا أن عدد القوائم المستقلة التي ستشارك بالانتخابات يفوق عدد القوائم الحزبية.. أي هراء؟ أليس هذا تطبيعا كولونياليا ياسيد التفاصيل الكولويالية؟”. 120
وفي سياق هذا التحليل والنقد الذاتي والموضوعي لكل الالتباسات والحيرة التي رافقت رحلة نور، وهو يتقنع أورشابيرا الصهيوني الاشكنازي. عمق أسئلة التشريح والتفكيك لتعرية،” الإصرار على استيلاب التاريخ وتقييده بالسيطرة والعنف والتعسف”. 182
هكذا وضع القارئ في صلب السردية الصهيونية، باعتبارها جزءا عضويا من الاستعمار الاستيطاني الحديث. لها ارتباطات بنيوية مع التركيب الاقتصادي السياسي الكولونيالي في مصالحه الاقتصادية والجيوسياسية. فكل المظاهر البراقة في التعمير والعمران في البلاد الفلسطينية ما هو إلا قناع للفظاعات والابادات للمكان والبشر التي ارتكبت. كما فعلت الاستعمار الغربي في الكثير من البلدان. هذا هو الفكر الضمني الذي يؤسس المتخيل الروائي ويمنحه عمقا وجمالية في التوثيق والشهادة على الذات والمجتمع والواقع النكبوي الذي ترزح تحت عبئه البلاد والشعب الفلسطيني. لهذا استبعد نور الشهدي في سؤاله النابع حقائق التاريخ أن تكون الدولة الصهيونية نتاج الهولوكوست. ” هل المحرقة هي التي جاءت بالدولة الصهيونية؟ وهل تخلق المأساة مأساة أخرى؟
إن النكبة يا صديقي هي النصب التذكاري للمحرقة. هذا ما تشهد عليه، على الأقل، هذه الأشجار من حولي وهي أضحت شواهد لقبور منسية وضحايا مهمشين كانوا في يوم من الأيام سكان قرية أبو شوشة المنكوبة.”157
وكما قلنا كان هدف نور الشهدي من هذه الرحلة الحوارية بتوسط من قناع أور الصهيوني، هو التعرف على الشفرة الكولونيالية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
” – قل لي بحق السماء، لماذا وافقت على هذه الجولة الكيبوتسية؟
- أريد أن أتعرف على نواتكم الأساسية التي أنتجت لكم دولة.”204
سادسا / عندما يصير الفلسطيني إنسانا يختفي الصهيوني
“كنت أود لو أحرقت نفسي وقناعي، لعلي أنبعث من بين الرماد كسماء.. سماء إسماعيل”. 22
لقد أدى المشروع الروائي لنور الشهدي به الى حفر جنيالوجي في التفاصيل الكولونيالية للمشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني. وزادت الطالبة الفلسطينية الحيفاوية سماء إسماعيل، من تصعيد كثافة المتخيل الروائي، إلى تحويل الواقع المأساوي الفلسطيني الحقيقي الى رواية، تضاهي الدراسات السوسوسوجية والانثربولوجية والتاريخية. بل استطاعت أن تكون أرضية ومرجعا هاما لا يمكن للباحث في العلوم الاجتماعية أن يستغني عنها. وهنا تكمن قوة الأدب عندما يكتسب بمقوماته جدارة القيمة الفنية الجمالية الأدبية. هكذا تكتمل رحلة نور الشهدي بمنعرجاتها ومحطاتها الصعبة والمؤلمة، بحثا وتنقيبا في سراديب ودهاليز البنى التحتية الكولونيالية الغربية والصهيونية التي جعلت من إسرائيل دولة استيطانية إبادية للشعب الفلسطيني وهي ترميه من محرقة لأخرى، ومن نكبة لأخرى.
” أليس التطهير العرقي الذي اقترفتموه بحقنا هو الهولوكوست؟”222
بعد هذه الرحلة متلبسا قناع أور شابيرا الصهيوني بوصفه تمثيلا للسلطة الاستيطانية الغاصبة التي شكلت ذاته تبعا لجدلية الخضوع والمسيطر، استطاع نور الشهدي أن ينتج قوته وإرادته في تحقيق مقاومة فعالة ضد سلطة النكبة الجهنمية، كانت إحدى تجلياتها هذه الرواية التي بفضلها صار الواقع الحقيقي للشعب الفلسطيني نصا فنيا خلاقا وفاعلا في علاقته الجمالية والإنسانية بالقارئ.
” ما دمت على هذه الدرجة الرفيعة من الدقة التخيل الملامس للحقيقة، فما الذي أفعله هنا، لماذا أنا هنا؟ أما آن لي الانسحاب والتراجع عن مسعاي وقناعي هذا؟”218
هكذا انتصر نور على ذاته ولم يعد في حاجة للقناع بعد التجلي الرؤيوي أسماء إسماعيل. إنها العمق الفلسطيني الذي تشبث بالجذور الهووية والمصادر الذاتية التي تميزها إنسانيا. كنور وهاج انقذف في نفسية نور الشهدي كقوة وإرادة ومقاومة فاعلة ضد الاستبطان الرهيب لسلطة المحتل الصهيوني التي تجعل الفلسطني في حالة من الخضوع والخنوع المشبع بالمسخ، المؤدي الى قابلية نفسية لاستبدال الهوية الفلسطينية بالقناع الصهيوني. لهذا ثار نور ضد كل أشكال السطلة التي تحكمت في نفسيته وجعلته أسير ذاته الخاضعة. ” أنا هو المسخ الذي ولد من رحم النكبة والأزقة والحيرة والغربة والصمت. صمت أبي وموت أمي، ومطاردتي في أزقة المخيم بلقب السكناجي.. ولدت من رحم التهميش والتصنيف وسجنك يامراد.. ولدت من مرآة أور شابيرا، ومن شركة شكيب القصابي للسياحة والسفر.. أنا المسخ، يا صديقي، فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنسانا؟ هل من سماء أتجلى بها نورا ونارا.”229
والجميل في الرواية تلك القدرة الفنية التي تضفي وتنتج جمالية التلقي الرفيع الساحر الخلاق، في علاقتها التفاعلية بالقارئ. تمنحه لحظات ماتعة، تضع وجها لوجه مع خبث السلطة الغاصبة المهيمنة المتحكمة في تشكيل الذات، وهي تمنعها من فك الارتباط النفسي السلطوي بالقوى التدميرية الغاشمة. خاصة حين تتستر وراء هوامات الاستقلال والشعارات المزيفة البراقة، للتحرر والحرية.
وفقا لهذه الرؤية في الصراع ضد سلطة تسكننا بقدر ما نسعى الى نقضها والتحرر من سطوتها وقهرها. صار نور قوة وإرادة فاعلة أكثر انفتاحا على الإنسان، بما في ذلك ضحايا النازية برؤية فلسطينية لا صهيونية.
” – لا يمكن أن نتحاور إذن
- بل يمكننا .. فأنا لا أتغذى على دماء المدنيين الأبرياء من أي جهة كانوا .. لست مصاص دماء.
- وكيف ذلك؟
- أور ما رأيك بي بعد مرور ثلاث سنوات على لقائنا الأول في سوق الخردوات في يافا؟ ما رأيك بي الآن بي في هذه الأيام الأخيرة التي التصقنا بها معا بشدة؟
فإذا نزعت قناعك الآن، أفلا أصير إنسانا
– ……
– أجبني أرجوك.
– حسنا.. لاأعلم.. ربما، لكنني أخشى من اختفائي أنا إذا أصبحت أنت إنسانا.”233 و234