حول تطور مفهوم الدولة الفلسطينية وبراغماتية ياسر عرفات ومسألة “الكرخانة”

حول تطور مفهوم الدولة الفلسطينية وبراغماتية ياسر عرفات ومسألة “الكرخانة”

حسين قاسم

       إن الاصل الفارسي لكلمة “كرخانة” مكون من مقطعين: “كر” بمعنى عمل أو صناعة، و”خانة” تعني مكان. تفيد المصادر المعتمدة بأنها انتقلت إلى اللغة العثمانية، التي حكمت العرب لقرون عديدة، ومن ثم إلى العربية المحلية، خاصة في لبنان، لتدل على ظاهرة تحديثية دخلت جبل لبنان في القرن التاسع عشر. مع المتغيرات السياسية المبكرة في القرن العشرين، وبهزيمة الامبراطورية العثمانية، تغير معنى “كرخانة” ليشير إلى الإسطبلات أو رمزياً إلى بيوت الدعارة، ولكنها غالباً ما تأخذ معناها من السياق المستخدم فيه. 
    في نهاية عام 1978، وقعت اشتباكات مسلحة بين حركة فتح بقيادة ياسر عرفات والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة، وامتدت الاشتباكات إلى معظم مناطق جنوب لبنان وكادت تصل إلى بيروت. قام جورج حاوي بالتوسط بين الطرفين، وأفضى ذلك إلى اجتماع موسع في المقر المركزي للحزب الشيوعي ضم قيادات وكوادر عسكرية من الأطراف الثلاثة، فحضر عن فتح ياسر عرفات(ابو عمار) يرافقه ابو اياد وابو الوليد وابو جهاد وآخرين، وحضر عن الجبهة نايف حواتمة وممدوح نوفل وقادة الجنوب، وعن الحزب وفد موسع يرأسه جورج حاوي (أبو انيس)، حضر كاتب هذه السطور بصفته المسؤول العسكري للقطاع الشرقي، وعقب الاجتماع تم تنظيم عشاء عمل. 
    بعد سلسلة من المعاتبات بين الأطراف المتنازعة، اقترح الرفيق جورج إصدار بيان يؤكد على الهدوء وأهمية الوحدة الوطنية في مواجهة العدو الصهيوني، مرَّ كل شيء على ما يرام وصولاً الى المكان الذي ستقام عليه الدولة الفلسطينية، والتباين المعروف تاريخياً بين الأطراف الفلسطينية هو بين اقامة الدولة الفلسطينية الكاملة وبين الدولة المرحلية، طرح نايف حواتمة تحرير كامل فلسطين، وافقه عرفات لكن مع مرحلة الهدف المركزي، ممَّا حدا بالرفيق جورج بطرح نص جامع مستوحى من مواقف الطرفين التاريخية حول تحرير فلسطين، واستثنى الاشارة الى الرقعة الجغرافية لاقامة الدولة الفلسطينية العتيدة مستبدلاً اياها باقامة الدولة على اية حبة تراب يتم تحريرها، وافق الطرفان ووقعه ابو عمار ونايف حواتمة والشاهد جورج حاوي. أُرسل البيان إلى وسائل الإعلام، طلب عرفات إغلاق باب القاعة والتأني في إدخال الطعام، ثم سأل مازحًا إن كان من الممكن إحضار قرآن ليحلف عليه، مخاطبًا حواتمة بأعلى صوته أنه هو من يريد تحرير كامل التراب الفلسطيني وأنه يريد “رمي إسرائيل في البحر”. استطرد قائلاً لأبو النوف: “من الذي أمر جيش الإنقاذ العربي بالانسحاب من فلسطين وتسليمها للعصابات الصهيونية؟ أليس العرب؟ ومن الذي رفض إقامة الدولة الفلسطينية تنفيذًا للقرار الدولي رقم 181؟ أليست المزايدات العربية؟” ثم أضاف أنه كان من الأفضل لو وافقت الدول العربية على إقامة الدولة الفلسطينية من القطاع والضفة وصولًا إلى حيفا، وأن نكون معًا الآن في القدس نتابع من هناك وليس من بيروت المعركة لتحرير كامل التراب الفلسطيني. وختم قائلاً: “لا يوجد أحد في الكرة الأرضية يرغب في إعطائنا دولة، لا على شبر، ولا على متر، ولا على حبة تراب، ولا يريدون لنا حتى وطن بديل، بل يريدون إلغاء هويتنا الوطنية فقط، بهذه الحالة يضمنون أمن الكيان الغاصب. ولا عدو لهم سوى هويتنا الوطنية الفلسطينية. وبالتالي فإن تمسكنا بها هو مصدر قلق دائم لهم”. 
    وأردف أبو عمار متوجهًا للجميع قائلاً: “أحلم بأن أحصل على ‘كرخانة’ أضع فوقها علم فلسطين وبداخلها مكتب أوقع فيه على بطاقة هوية وجواز سفر للمواطن الفلسطيني الذي تهان كرامته يوميًا في مختلف أنحاء المعمورة، على أن تتولى الأجيال التي ستلينا مهمة استكمال تحرير فلسطين”.
    تعرفت شخصيًا على أبو عمار خلال مناسبات مختلفة، وكان ما قاله يخرج من صميمه ولم يكن تمثيلاً. لم أدخل في نقاش اتفاق أوسلو خلال هذه المقالة، سواء كان ما حصل عليه الشعب الفلسطيني هو “كرخانة” أم لا، أو إن كانت هناك أطراف عديدة سعت لإفشاله وفي مقدمتهم دولة الاحتلال. ولم تستغل القوى الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية المساحة التي أُعطيت لها بل بحثت عن وسائل للراحة، مما ساهم في استشراء الفساد.
   استكملت الأحاديث الباقية على العشاء الذي أحضر من مطعم العريشة في الروشة وتولى التقديم الشاف التاريخي الرفيق اسكندر، وتولى الرفيق احد الرفاق المختصين اختبار سلامة الأطعمة. مازح أبو عمار مجموعات الأمن والحماية قائلاً: “دعونا نأكل، أنتم موثوقون جدًا، لقد أجعنا الرفيق نايف”.
    بدوري، خجلت من تناول وجبة العشاء نظرًا لصغر سني وهيبة الحضور، واستبدلتها بسندويش شاورما من عند مطعم أبو خضر في كورنيش المزرعة.
    وبعد أكثر من أربعة عقود وما تخللها من مآسي للشعب الفلسطيني واكبرها ما يجري اليوم في غزة والضفة، لا تبدو الدولة المرتجاة حالياً أكثر من “كرخانة” فعلية.
Visited 422 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسين قاسم

ناشط وكاتب سياسي لبناني