”أطْلِقْ سَرَاح الدجاجة كي لاتفقس بيضا!”

”أطْلِقْ سَرَاح الدجاجة كي لاتفقس بيضا!”

سعيد بوخليط

       بالتأكيد، يعيش يوميا أفراد  مختلف المجتمعات، صراعات رمزية ومعنوية بغضِّ النظر عن بديهية المادية، ومن بين أهم وسائل تدبير وتنظيم نسق الصراع بأبعاده الظاهرة والمتوارية، نجد اللغة المتداولة عبر الفضاء العمومي، وطرق تبلور مناحيها تبعا  لاستراتجيات تلك الحروب الرمزية، بين مختلف الأفراد، حسب مقتضيات ودواعي سياقات معينة.

في هذا الإطار، تشكَّلت لبنات حمولة العبارة اللغوية التي اخترتها عنوانا لهذه المقالة، ضمن مقامات فنِّ إغواء النساء وحروبه الشرسة، أقصد: ”أطْلِقْ سَرَاح الدجاجة كي لاتفقس بيضا !”، وباللهجة المحلية” اطْلْقْ الدجاجة لْصْحَابْها قبل ما تْبِيِّضْ لِكْ”.

صيغة رافقت مسامعي يوميا، خلال سنوات طفولتي، ليس فقط داخل فضاء حيِّنا الأصلي، بل أينما تواجدتُ في دروب مراكش القديمة، التي اشتهر أهلها فيما مضى، برغباتهم الملحَّة على مستوى بثِّ أجواء الانشراح، ثم التباهي بالفذلكة اللغوية المجازية، ونحت العبارات المسجوعة الأقرب إلى ترانيم الزجل، ممهورة بالدُّعابة والفكاهة.         

ما سياقاتها؟ ما معناها؟ بكل بساطة، تحيل على الصراع النفسي بين شباب ذلك الزمان، فيما يخص ظفر أحدهم برفقة مؤنثة، والذي جَسَّدَ آنذاك إنجازا غير مسبوق، قبل التطور الكبير الذي عرفته أساليب استمالة الفتيات بواسطة إحداثيات المنظومة الرقمية.

هذا التمكُّن، خلال حقبة الندرة، استفزَّ دائما حفيظة المحرومين، فالتجأوا إلى سلاح التحريض الساخر باسم تحذير المعني بالأمر من التورط في تبعات علاقة الرفقة تلك، بعد نجاحه في إسقاط الفتاة، من خلال استشراف إمكانية حدوث حمل ويصبح لحظتها مسؤولا عن هوية المولود بشكل أو بآخر، سواء كان حقا أبوه البيولوجي أو فقط تحمَّل في نهاية المطاف وِزْر مفعول عابرين آخرين بلا هوية.

الدجاجة هنا، يقصد بها الفتاة، والبيض إحالة على الإنجاب، وغاية المعنى الضمني تحذير العاشق من تطورات الغواية، كي لاينتهي به المآل تراجيديا على غير توقُّعات حلاوة البداية.

حقيقة، هي جملة مثل أخرى كثيرة ملغومة، يبدعها النسيج العمومي، وتتمدَّدُ بين طيات مكامن العنف المجتمعي الرمزي أساسا قبل المادي، بحيث ينطبق عليها وصف ورد لدى عبد الرحمن منيف: “الكلمات المعهَّرة والتي أصبحت شائعة إلى درجة أنها لاتقول شيئا البتَّة، أو تقول الأشياء كلها دفعة واحدة، وبالتالي لامعنى لها” (1). لقد تضمَّنت بفظاظة، مختلف معاني الترهل، القهر النفسي والمجتمعي، التلصُّص السادي، العدوانية نحو الآخر، كي تسود في نهاية المطاف كآليات للتَّنفيس من خلال تحويل الصراعات المباشرة بين الأفراد والجماعات؛ لاسيما داخل المنظومات المجتمعية الشمولية إلى إيحاءات غير بريئة خلف الاستعارات اللغوية.

بيت القصيد، أسرعت ذلك الصباح، نحو دكان اشتهر لدى ساكنة الحي، بكونه يفتح مع آذان الفجر، ويستمر بابه مشرَّعا رهن إشارة حاجياتنا غاية منتصف الليل؛ دون توقف. مالكه أمازيغي، أتى به ابن عمه صغيرا كي يساعده في يوميات دكانه، ثم سرعان ما طوَّر موهبته التجارية وصقل شخصيته فاستوعب مداخل ومخارج الحرفة، هكذا تحوَّل إلى محلٍّ مجاور، وصار له مشروعه الخاص.

إضافة إلى دأبه طيلة اليوم، كأنه في حالة طوارئ مستمرة، وكذا توفيره المواد الضرورية من الدقيق والسكر غاية الملابس الداخلية وكذا لوازم الاستحمام ثم الأشرطة الغنائية؛ لاسيما الأمازيغية وبعض الكلاسيكيات العربية، فقد هيَّأ كذلك، خلال أولى ساعات الصباح، صنفين من الحليب؛يصعب حقيقة تفضيل أحدهما عن الثاني، حليب طازج توفره بقرتان اعتنى بهما وادَّخر لهما جل مايلزم، داخل منزل شبه فارغ، في ملكية أحد أعمامه من الجيل الأول الذي هاجر إلى فرنسا. أما، النوع الثاني، فيتمثل في حليب التعاونية الفلاحية المعقم. حينها، آثرت دائما، النوع الثاني، قبل توقفي منذ فترة طويلة عن تناول الحليب تماما ومشتقاته، لصالح القهوة السوداء. أذكر تنافسي مع أختي، في شغب يغدو عراكا في أغلب الأحيان، وتدخلا زجريا ورادعا من طرف أمي، نحو فتح علبة الحليب والإتيان بنهم على جزيئات الزبدة التي تغمر السائل بسخاء جلي.

اقتنيت ليترا، لحظتها مرَّ على مقربة مني شاب يمسك يد شابة، يظهران من الوهلة الأولى انغماسهما في حديث ثنائي غير مهتمين قط بما يجري حولهما. بالكاد ابتعدا قليلا، فإذا بصاحبنا البقال يلحُّ عليَّ إلحاحا وبتحريض غريب، لم أدرك معنى ذلك قط، وأنا طفل في حدود سبع سنوات، كي أصرخ بملء فمي وجهة الشابين بعبارة: ”أطْلِقْ سَرَاح الدجاجة كي لاتفقس بيضا!”.

فعلتُ المطلوب، دون سؤاله عن المعنى والسبب والنتيجة، بل فقط أثارني الموقف ثم تماديت في اللعبة، لذلك كرَّرت النداء مرة ثانية وثالثة، وازدادت حماستي، وأضحى صوتي أكثر اندفاعا.                

فجأة، لاحظت توقف الثنائي السعيد، التفت نحوي الشاب باستغراب ثم خاطبني حقيقة بوداعة، تضمر شرارة عدوانية على أهبة الاستعداد: 

– ”يا ولدي! توقَّفْ عن هذا الضجيج، وعُدْ إلى حضن أمِّكَ سريعا”.

لم أكترث، ثم ردَّدْت تحدِّيا العبارة اللعينة، بكيفية آلية، رغم أني لا أستوعب مع تكراري حيثياتها.

أسرع نحوي بكيفية غير منتظرة، على طريقة الرجل الطائر، ثم صفعني بأصابع حديدية، افتقدتُ معها حقيقة مجمل تراث ذاكرتي، ولم أستعد إبَّان سفري غير المقطع الأخير من تلفُّظه، مهدِّدا إيَّاي بتعنيف أفظع إن تواصل قِلَّة أدبي.

بعد انقضاء أيام على الواقعة الأليمة، وإعادة التركيز بخصوص تقليب تفاصيل ماجرى، وتجميع المعطيات بجوار الأصدقاء العارفين بخبايا الحي، أدركت هول ماأقدمت عليه، ثم حمدت الله أكثر لأني بقيت على قيد الحياة سليما ومعافى، فقد علمت بأنَّ الشخص الذي توخيت استفزازه بتلك الطريقة الفظَّة، تمرَّس دون كلل في حلبات الملاكمة وشارك في لقاءات رياضية ربح أغلبها، وأنَّ تلك الفتاة زوجته، واكتفى بتلك الصفعة مثلما أخبرهم على مضض، فقط احتراما لأهلي وطفولتي.

منذئذ وغاية اليوم قررت لمصيري قاعدتين أخلاقيتين، توطدتا مع توالي الأيام وتقدم خبرات العمر: من جهة عدم الانقياد بتاتا خلف شخص أو جماعة أو فكرة أو عقيدة أو دعاية أو تحريض سوى بعد التشريح والتقليب والتمحيص والاقتناع الشخصي، ومن ناحية ثانية رفض التدخل المطلق في شؤون الآخرين أو الاهتمام بما يفعلونه والاكتفاء تماما بهواجسي الذاتية.         

هامش:

عبد الرحمن منيف ومروان قصاب باشي: في أدب الصداقة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012، ص 56 . 

Visited 15 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي