بداية سقوط الحائط العالمي الهجين بعد سقوط حائط برلين

بداية سقوط الحائط العالمي الهجين بعد سقوط حائط برلين

حسين قاسم

       بدأت المرحلة القادمة تتوضح مع صعود اليمين المتطرف في مختلف أنحاء العالم. انطلقت هذه المرحلة مع انتخاب ترامب، ثم شهدنا صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، ثم في إيطاليا، واليوم في فرنسا. وهكذا تتكامل مسيرة إنهاء الحقبة التي حكمت العالم بعد سقوط حائط برلين كرمز لنهاية الحرب الباردة. هذه الحقبة التي بدأت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تميزت بتحكم الثنائي الأمريكي والسوفيتي في الصراع الكوني حتى انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالتحكم في المصير العالمي.

    مع انهيار الاتحاد السوفيتي، انهارت دول وإمبراطوريات، واندلعت حروب إثنية وعرقية وقومية في مختلف أنحاء المعمورة. بالإضافة إلى ذلك، برزت نظريات العولمة، ومحاولات حثيثة لإلغاء دور الدولة كمفهوم ورمز للقطاع العام لصالح الخصخصة وغيرها من المصطلحات التي ترافق تطور المجتمعات. في هذا السياق، برزت مسائل جوهرية مثل التطور التكنولوجي ووصوله إلى مستوى ثورة تكنولوجية غيرت مجرى التاريخ، وانعكست على مختلف مجالات الحياة، في السياسة والثقافة والعلوم والصحة والفضاء والحروب. كما برزت تكتلات اقتصادية مهمة كصعود الصين إلى المرتبة الثانية عالميًا، وانبثاق الوحدة الأوروبية، وصعود عمالقة في الاقتصاد والسياسة في جنوب شرق آسيا.
 
    أتت الأزمة المالية والانهيارات في الأسواق العالمية في عام 2008 لتدق أول إسفين في حقبة ما بعد نهاية الحرب الباردة وأول إسفين في التحكم الأمريكي بالمصير الكوني، وكانت إنذارًا أوليًا للقوى السياسية الحاكمة والمتحكمة بالصراع الدولي. لم تستطع القوى السياسية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي إجراء التجديد والنهوض مجددًا، فانهار القسم الأكبر منها، بينما شكل القسم الآخر عائقًا وسدًا منيعًا في وجه التجديد والحداثة. وبما أن الحياة لا تقبل الفراغ، برزت القوى الدينية المختلفة، المسيحية والإسلامية، لتلعب جزءًا من الدور الذي كان يلعبه اليسار السوفيتي، كما تقدمت قوى يسارية تقليدية مثل الحزب الديمقراطي الأمريكي والأحزاب الاشتراكية الأوروبية للعب الدور اليساري التقليدي، لا سيما في الانحياز لصالح الطبقات الشعبية والوسطى.
 
    لكن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 حصلت في عهد الحزب الديمقراطي الأمريكي، مما يعني في وعي النُخب السياسية أن المسؤولية تقع على اليسار. في الوقت ذاته، انفجرت الثورات العربية وما حل بها وبالبلاد العربية.
 
    في هذا السياق، برزت تيارات سياسية تحمل أفكارًا سياسية متطرفة أقرب للعنصرية، جاءت مع الرئيس الأمريكي ترامب وفوزه في عام 2017 ووصوله إلى المركز العالمي الأول. بدت تلك الشعارات وكأنها موجة انتخابية لكسب المزيد من الأصوات، لكن مع الوقت تبين أنها تُعبر عن قناعات جديدة لدى فئات واسعة من الأمريكيين الأصليين، وهي تبدو الآن هواجس حقيقية، ليست انتخابية ولا تعبيرًا عن مصالح الاحتكارات كما كان يصفها اليسار سابقًا.
 
    جنبًا إلى جنب مع التطورات الآنفة الذكر، كان اليمين المتطرف يتقدم حينًا ويتراجع أحيانًا، حتى حصد تقدمًا باهرًا في انتخابات البرلمان الأوروبي، ثم اكتسح الانتخابات البرلمانية الفرنسية والبلجيكية والإيطالية والألمانية. كما تشير التوقعات إلى احتمال فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية المقبلة في نوفمبر.
 
    من المهم ملاحظة أن ما يسمى باليمين المتطرف قد عدل في برامجه وخطابه السياسي نحو الابتعاد عن الشعبوية والعنصرية الفاقعة، وتبني الهوية الوطنية والتمسك بها وإدراك كيفية تقديمها للجمهور. في فرنسا، غيرت الجبهة الوطنية، التي تشكل عصب اليمين المتطرف، اسمها إلى التجمع الوطني مع تعديل في برنامجها نحو برنامج حكم لا برامج اعتراض فقط، مسلطة الضوء على مسائل الهجرة الوافدة وخطورتها على الديموغرافيا والاقتصاد والأمن. ومع حكم اليسار واليمين الوسط، استشرت ظاهرة الفساد التي تجاوزت الحدود المعتادة، لكن الخطورة كمنت في سلوك اليسار الحاكم في تشجيع الحركات الاسلامية مُغدقاً عليها المساعدات لبناء مساجد وتمويل نشاطاتها وفي مسايرته لها في مسألة الطقوس الدينية على اختلافها، كل ذلك من اجل كسب اصواتها في الانتخابات، ضارباً بعرض الحائط قيم وعادات المجتمعات التي يعمل في وسطها، مما جعل رفض اليمين ومعارضته لهذا النهج الخطير يبدو كأنه ممسكاً بالقضية الوطنية، مما رفعه لمستوى التيارات الصاعدة في دول القرار العالمي، حتى أن أحد الظرفاء أطلق عليه “اليمين الوطني” بدلاً من “اليمين المتطرف”.
 
    للإنصاف، يمكن القول إن اليسار التقليدي هو الذي تراجع وليس اليمين الذي صعد، وأن مستوى التراجع بلغ حد الانهيار، بما يوازي انهيار اليسار الراديكالي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. بالتالي، إذا لم يُقدِم اليسار على إجراء مراجعة شاملة لبرامجه مع نقد جريء لتجربته، سيكون أمام مرحلة أفول لوجوده واختفائه من المشهد السياسي المقبل، لينحصر الصراع بين اليمين المتطرف واليمين الليبرالي الوسطي.
 
    بالإضافة إلى سقوط الرهانات على دور الصين سياسيًا بمستوى تقدمها الاقتصادي، فقد انكشف زيف شعاراتها السياسية عندما بلغ الصراع أشده في الحرب الأوكرانية الروسية، وفي حرب غزة، وفي التوتر ببحر الصين والصراع حول جزيرة تايوان. وكل ما قامت به الصين هو اقتناص بعض الفرص لتوسيع أنشطتها الاقتصادية.
 
    سيكون تأثير هذه التطورات على الوضع الراهن في الشرق الأوسط موضوع مقالة مقبلة.
Visited 113 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسين قاسم

ناشط وكاتب سياسي لبناني