الأدَبُ الجَمَاهِيريّ وأدَبُ النُّخبة
د. السّفير محمّد محمّد خطّابي
دخل شابٌّ ذات مرّةٍ إلى إحدى مطابع “سنت بترسبُورغ” فأدهشه ما رأى من جامعي الحروف الرّصاصيّة، إذ كانوا يغمزون بأعينهم، ويخفون ضحكاتهم، ويستمتعون، ويفرحون وهم يباشرون عملهم فى ترصيف حروف قصّة “أمسيّات قرب قرية ديكانكا” المعروفة للكاتب الرّوسي “نيكولاي جوجول”.. ولم يكن الشابّ الذي أطلّ على العمّال من نافذة قبو المطبعة الصّغيرة، ثمّ دخل على العمّال سوى جوجُول نفسه، الذي قال بعد ذلك لصديقه “ألكسندر بوشكين”: لقد استنتجتُ من ذلك أنّني من الكتُّاب الذين تلائم وتوائم كتاباتُهم أذواقَ الجماهيرالعريضة”.
قال صاحب “الإخوة كارامازوف” “تيودور دوستويفسكي” عن هذه الرّواية بعد قراءتها: “ضحك جوجول، وأضحكنا معه طوال حياته، وأطلنا الضّحك حتى بدأنا نبكي في النهاية”. وقال عنها “ألكسندر بوشكين”: “لم أرفع رأسي عنها حتى النهاية”، وتجدر الإشارة أنه قد تمّ تحويل هذه “الأمسيّات” الديكانكية إلى فيلم سينمائي، ثمّ إلى مسلسل تلفزيوني، كما تمّ تقديمها فى عروض مسرحية ناجحة لسنواتٍ طويلة.
كُتّاب الجماهير وكتُّاب النّخبة
ونرجع إلى حكاية جوجول مع عمّال مُصفّفي الحروف لنتساءل: ماذا نستنتج من هذه الحادثة البسيطة، وماذا نفهم من هذا التعليق الذي قاله جوجول لصديقه بوشكين عن نفسه..؟ الأمر بسيط للغاية كما يبدو لأوّل وهلة، ولكنّه ليس كذلك في الواقع، ذلك أنّ جوجول إذا كان من كتّاب الجماهير العريضة الواسعة فهو أيضا من كتّاب النخبة أو الصّفوة المختارة. ونحن لا يهمّنا هنا هذه الحقيقة أو تلك، بقدْر ما يهمّنا أن نستنتج من هذا الامر كله شيئاً واحداً وهو أنّ هناك من الكتّاب مَنْ تستحوذ كتاباتهُم على الجماهيربشكل واسع، وهناك من الكتّاب أيضاً من تنتشر كتاباتُهم بين قرّاء بأعينهم أيّ بين قلّة قليلة بالقياس إلى الجماهير العريضة.
والسّؤال الذي يُطرح الآن هو: أين هو الكاتب الحقّ من هاذيْن الكاتبيْن، هل هو الكاتب الجماهيريّ الواسع الشهرة أم هو كاتب الشلّة أو الصّفوة المحدود الشهرة؟ وما هي قيمة كلٍّ من أعمالهما الفنية، ثمّ أيّ الإبداعيْن أبقىَ وأجدىَ؟ الواقع أنّ الإجابة عن هاذيْن السّؤاليْن ليس بالأمر الهيّن اليسير بحيث نستطيع حصرها في كلمتيْن أو في بضع كلماتٍ.
الزّمن الحَكَم الحصيف
وأوّل ما يقابلنا في هذا المضمار هو أنّ الشّهرة السّريعة والجماهيرية العريضة والاقبال المنقطع النظير.. كلّ أولئك ليسوا مقياساً، ولا معياراً، ولا دليلاً على الأصالة الفنية، والجودة الابداعبة، والقوّة والمتانة في العمل الأدبي، هذا رأْي البعض في هذا الموضوع، ويذهب الرأي الآخر عكس هذا الأخير على الإطلاق. ولدى قائليه أنّ الشهرة الواسعة والاقبال المنقطع النظير هما المعياران اللذان يوضّحان لنا مدىَ نجاح العمل الأدبي وأصالته، وبيِّنٌ أنّ الحُكم الأخير لا يخلو من تعنّت، ومغالطة، وإفتراء على الحقيقة العلمية في عالم النقد النّزيه، والموضوعيّ الجيّد. والواقع انّه لا هذا ولا ذاك – في رأيي- هو مقياس الحقيقة بالنسبة لهذا الأمر، فالزّمن وحده هو الميزان الحقّ لجميع الأعمال الأدبية والابداعية مهما تألقت أسماءُ أصحابها أو خمدت.. أجل الزّمن هو الحَكَم الحصيف الذي لا بخطئ ابداً . لقد ظلّ وليم شكسبير طوالَ قرنٍ من الزّمان وهو شاعر إقليمي مغمور محدود الشّهرة وذيوع الصّيت، ولكنّ الأصالة التي كانت تنطوي عليه أعماله الإبداعية الشهيرة كتبت لها البقاء فأظهرها الزّمن على حقيقتها، وأزاح عنها قشور البِلىَ، وألبسها أثوابَ التجدّد، ودثّرها بأردية المجد والخلود، والإستمرارالمتواصل، والنجاح الواسع الذي ما زلنا نسمع أصداءه حتى اليوم.
بالمناسبة كم من شاعرٍ عربيٍّ عاش في ما يُطلق عليه إجحافاً بـ”العصر الجاهليّ”، ثمّ فى العصر الإسلامي، وفى العصريْن الأمويّ ثمّ العبّاسيّ غير أنّنا – كما يذهب الشاعر والناقد المهجري إلياس قنصل – نجد من شعراء المشرق العربي أسماء تعلو في الغالب ثبج الشّهرة والانتشار الواسعيْن دون سواهم منهم: زهير ابن أبي سلمى، وامرؤ القيس، وحسّان ابن ثابت، وجميل بثينة، وعمر ابن أبي ربيعة، والحطيئة، وبشّار ابن بُرد، والمتنبيّ، وابن الرّومي، وأبوالعلاء المعريّ، وأبو تمّام، والبحتري.. فضلاً عن قلّة قليلة أخرى قد لا تتعدّى أصابع اليد الواحدة من شعراء الأندلس أمثال: ابن زيدون، وابن خفّاجة، وابن هانئ، ولسان الدين ابن الخطيب، وأبو البقاء الرّندي الذين يحتلون الصّدارة وهناك من النقّاد مَنْ يبوّئ هؤلاء وأولئك فى قمّة الإبداع الشّعري العربيّ على مرّ العصور.
ويُمكننا أن نكون مختلفين مع الشاعر إلياس قنصل فيما ذهب إليه من رأي، أم لا، ولكننا على الأقلّ ندرك أنّ هناك أسماء بعينها دون سواها فرضت نفسها فرضاً، وحظيت بشهرةٍ واسعة دون سواها من الشّعراء الآخرين الذين تعرّفنا على أعمالهم الأبداعية فيما بعد.
من هُوميرُوس إلى ابن خلدون
كان هوميروس شاعراً مِطوَافاً، يتنقّل بين القرىَ اليونانية ومدنها شادياً ومتغنّياً بمقطوعاته الشعرية التي أُلّفتْ منها بعدئذٍ الالياذة والأوديسة. وكم من شاعرٍ ومُغنٍّ كان يزاحمه الغناء بشعره هوالآخر، ولكن لم يُكتب له البقاء والخلود ولم يحظ َبالشّهرة على نطاق واسع مثلما بلغها هذا الشاعر البصير- الضرير.
وليس بخافٍ أنّ ابن خلدون كان يكتب شيئاً عاديا بالنسبة لمعاصريه عندما شرع في وضع مؤلَّفه الشّهير: (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) المعروف بـ”المقدّمة”، ولم يكن معاصروه الذين قرأوا هذه المقدمة السِّفر في أجزائها السبعة في زمانه يعلمون انه إنّما كان يُخضِع التاريخ لقوانين تحكمه وتسيّره ومن ثمّ يضع أسسَ علم الاجتماع، هذا العِلم الحضاري الهام الذي يؤول الفضل الأول والأخير لهذا المفكر العبقري في ظهوره، والذي بذّ وسبق بقرون علماء الغرب الذين عُنُوا بهذا الموضوع.
وكم من عالمٍ نال من التنكيل والتوبيخ من أهل عصره وهو في الواقع إنما كان يصنع المعجزات بالنسبة للمستقبل، الزّمن إذن -كما سبق القول- هو الغربال الأزلي الذي يفرق بين الفن النقيّ، والفن المشُوب، فاندفاع الجماهير نحو أعمالٍ أدبيةٍ بعينها ليس من قبيل النظرة الفنية المتعمّقة، بل يمكن أن يكون من قبيل اندفاع متسرِّع ومُضلِّل سرغان ما تظهر آثارُه الحقيقية فيما بعد، ذلك انّ الجمهور قد يفتتن بعملٍ مّا لأنه “ينفعل” لهذا العمل. واللانفعال وحده في عالم النقد والتذوّق لا يكفي لتعميمه، بل العكس من ذلك، أيّ ربما كان هذا الانفعال مُضلّلاً في غالب الأحيان كما يذهب إلى ذلك الناقد الإنجليزي المعرُوف “آرمسترونغ ريتشاردز” نفسه في كتابه الشّهير (في معنىَ المعنىَ) فالتركيز عنده هو أولى سِمَات الفهم العميق والاستيعاب الكامل للعمل الأدبي الجيّد وليس الانفعال.
“غريب” كامُو وشَنبُو في المِصْيَدَة!
ورُبّ معترضٍ قال: اننا لانكتب سوى من أجل هذا الجمهور فاذا حرمناه من ملكة الإبداع الفني فإننا لم نفعل شيئاً من أجله ولا بالنسبة للفنّ، وهذا كما هو واضحٌ قولٌ مردودٌ على قائليه، ذلك لأنّ الفنّ له حرمته وقدسيته، ولا يرقى إليه المرء أو القارئ سوى بقدْرٍ باهظٍ لا يستهان به من الذكاء، والفطنة، والصّبر، والجَلَد، والمعاناة.. وربما لهذا السّبب (بالنسبة للمسرح على الأقل) كان هناك ما يُسمّى بمسرح “الجيب” أيّ مسارح الخاصّة اأو النخبة أو الصّفوة التي تفهم وتستوعب وتتجاوب مع ما يُقدّم لها، ودور هذه المسارح بطبيعة الحال يختلف اختلافا ًكبيراً عن دور المسارح الجماهيرية الشعبية العامة التي يؤمّها جمهور غفير واسع للتسرية والتسليّ. ونشدان المرح ثمّ يخرج هذا الجمهور من المسرح كما دخل إليه أوّل مرّة لم يجنِ من حضوره فيه حبّة خردل.
وهناك مثال شائع بيننا في هذا المنوال، فالأفلام العظيمة التي تعالج مسائلَ وأموراً هامة بالنسبة للإنسان والوجود لا يؤمّها في الغالب الكثيرون، وما زلتُ أذكر عندما رأيتُ منذ سنوات بعيدة فيلم “الغريب” حين عرضه لأوّل مرّة في سينما رمسيس بالقاهرة عن قصّة الروائي الجزائري- الفرنسي ألبير كامو الشّهيرة لاحظتُ انّ الناسَ كانوا متضائقين وقد أصابهم الضّجر، واعتراهم الملل، بل كان هناك مَنْ غادر القاعة منهم قبل نهاية الفيلم متذمّراً من دخوله لمشاهدته، في حين كانت هناك كوكبة قليلة من المتفرّجين المهتمّين العارفين لِمَا كان يجري على الشاشة من روعة الفنّ، وأصالته، وجلاله، بما في ذلك القصّة، والأداء، والإخراج، ولو أنك اتّجهتَ فى ذلك الزمان إلى دار من دور السينما الأخرى وهي تعرض فيلماً تحت عنوان: “شنبُو في المصيدة” لفؤاد المهندس وشويكار لأصابك الذهول من الإقبال المنقطع النظير الواسع الذي عرفه هذا الفيلم، ولرأيتَ العُجْبَ من فرط الازدحام والاكتظاظ!
بين إريك سيجال ومارك تويْن!
وهناك مثالان آخران إثنان يلقيان مزيداً من الأضواء على هذا الأمر لابدّ من الإشارة إليهما في هذا القبيل يذهبان في نفس هذا الاتّجاه، وهما عندما صدرت عن إحدى دور النشر الاسبانية الشهيرة والمرموقة الأعمال الكاملة للكاتب الأمريكي “مارك توين” منقّحة ومزيدة في ورق صقيل في الثمانينات من القرن الفارط، وكان قد صادف أن صدرت معها فى نفس التاريخ رواية “قصّة حب” ( lave Storey) للكاتب الأمريكي “إريك سيجال” التي نقلت إلى السينما بنجاح باهر حصل ما لم يكن في الحسبان، فقد حقّقت هذه الأخيرة نجاحاتٍ ومبيعات واسعة، ولم يبع من كتاب الأعمال الكاملة لمارك توين سوى أعداد قليلة!
بهذه الأمثلة السّريعة ينجلي لنا أنّ الإقبال أو نقيضه ليس مقياساً نَزِنُ به الأعمالَ الأدبية، أو قل الفنّ الجيّد بصفة عامة ونفرق بينه وبين الفنّ الرّديء، واذا أردتَ مثالاً آخر في عالم الكتب الأدبية والقصص على وجه التحديد فإنّك ولا ريب لابدّ تتذكّر كيف كان الإقبال فى الستينيات من القرن الفارط على روايات الكاتبيْن المصرييْن يوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس من طرف الشباب في البلدان العربية، إقبالاً ليس له نظير، لدرجة أنّ هذه الروايات برمّتها نقلها الفنّ السّابع في مصر إلى الشاشة الكبيرة في ذلك الإبّان، في حين لم يكن هؤلاء الشباب يقتني من قصص يوسف إدريس، أو يحيى حقيّ -على سبيل المثال وليس الحصر – إلاّ النزر القليل. وبطبيعة الحال مع العِلم أنّه لا يستطيع أحد ان ينكر فعلَ الأدب في الجماهير، والتأثير البليغ الذي تتركه فيهم بعض الكتابات القليلة الهادفة والملتزمة.
والخلاصة أنّ المسألة ليست مسألة إقبال أو عدمه، بل إنّ المسألة تنحصر في العمل الأدبي نفسه، ففي كلّ عمل تكمن قيمته، والزّمن- كما سبق القول – هو الحكَم المطلق في هذا الصّدد، فله وحده تتبيّن الأصالة، والجديّة، والجودة، والصّدق، وهو الكفيل بالحفاظ على هذه المُميّزات التي تجعل من الفنّ الإبداعيّ الجيّد فنّاً حقيقيّاً، ومن “التقاليع الخادعة والعابرة” خواءً، وهُراءً، وزيفاً، وحصاداً من هشيم.