أدب السجون اليساري.. نرجسيات والتاريخ نَسْيٌ مَنْسِيّ

أدب السجون اليساري.. نرجسيات والتاريخ نَسْيٌ مَنْسِيّ

 المصطفى مفتاح 

       يتعلق هذا المقال بذاكرة اليسار الماركسي-اللينيني المغربي وذاكرة الاعتقال السياسي في سبعينيات القرن العشرين والأدب الذي أنتج من صلب هذه التجربة. وأغامر بجعل جوهر عتادي في القراءة مفهوم النرجسية: نرجسيات فردية للأفراد سجناء ومناضلي ونرجسيات جماعية للمجموعة والحركة ومكوناتهما وعلاقة مثل هذه الشهادات الواردة في هذا المجال مع التاريخ.

امتحانٌ صعبٌ أن تحاول مساءلة إنتاج من شاركته وشاركك تجربة مهمة كبيرة القسوة والعطاء وحافلة بالمواجهة والانكسار والانتصار في فترة، عن تلك التجربة. والتجربة التي أعني هنا مزدوجة أو ثنائية: تجربة الاعتقال والنضال في حركة سياسية متعددة الفصائل.

لأنها وإن كانت مشتركة فإنها أيضا فردية خاصة. ولأن الذاكرة الفردية وإن احتفظت بنصيبها الخاص إلا أنها وبالضرورة والبديهة، تسرق أو تمسخ أو تزين وتترك قدرا من المزيج المشترك. لأنه مزيج ولو أننا كنا أفرادا منفردين متفردين لكننا كنا نتنفس نفس الهواء وننتجه.

والأمر أصعب حين يختلط المعيش اليومي والشهري ولسنوات مع حياة فكرة والتزام وتنظيمات وفصائل ومجموعات اختارت نفسها أو اختارها أصدقاؤها أو خصومها أو حتى الذين لا يبالون.

والأمر أصعب أيضاً حين تختلط الذكريات وتتوهن الذاكرة.

والحال في حالتنا، نحن الذين كنا من مجموعة الحركة الماركسية-اللينينية المغربية ومعها، أن الزمان المعيش المشترك إنسانيا كان أيضا جل الزمان وأهم العمر لهذه الحركة المناضلة أثناءه حفرت أثرها على تاريخ البلاد ونحتت وعودها ونقشت أخطاءها ورتبت خطاياها إن كانت اقترفت أخطاء وخطايا وقد فعلت!

وقبل أن أواصل لابد من التوضيح أنني لا أعطي لمفهوم “النرجسية” أي حمولة سلبية بل ولو أنني أستعمله لتوصيف ما أراه في شخصيا وفينا وفي تجربتنا. بل إنني أعتبر أن قدرا من “النرجسية” كان ضروريا لنتمرد على ميزان القوى ونجابه عُزّلاً إلا من أفكارنا وتحاليلنا وأدبياتنا نظاما قويا بالغ القسوة. كما أن قدرا من النرجسية كان ضروريا لنجابه القمع ونصمد ونستمر ونواجه مخططات اجتثاث حركاتنا وبالنسبة للبعض منا أن يستمروا صامدين في النضال من أجل مغرب أجمل وأقوى وأعدل وأن يصدحوا بالشهادات ويصونوا مشعل التمرد والطموح كل حسب تقديره واختياراته.

واختيار انتقاء ما نريد أو ما تتيحه الذاكرة الواهنة من صميم الحقوق الفردية غير القابلة للتصرف والنقاش إلا من زوايا ثلاث:

أولاها، أن النص المنشور صار ملكا لعموم قرائه من حقهم مساءلته وتبين عناصر ضعفه وانتقائيته وجوانبه المغفلة أو المضمرة وأسلوبه والأحابيل التي يريد أن يغري بها العالمين؛

 ثانيها، أن الوقائع المنتقاة من المعيش أو الحلم المشترك تعطي الأحقية للمشتركين في التجربة موضوع النص الأدبي بسط رؤيتهم وانفعالهم وقراءتهم الخاصة وربما إحقاق حق أحسوا بأن النص أنكره أو تفنيد نعت أو تفسير يسوقه.

ثالثها، أن الوقائع عناصر من تاريخ يهم المعنيين مباشرة وذويهم وأصحابهم ويهم الحركة ككل ويهم المغاربة.

لكن الأهم أن هذه التجربة في بعديها السياسي والحقوقي هي أيضا مجال مفتوح للعلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي وهي علوم تطور مفاهيمها وأدوات عدتها باستمرار ولعل مناضلين كانوا يبررون مشروعية نضالهم واختياراتهم بالمصالح العليا للبلاد وللشعب لا يمكنهم رفض اقتحام “الموضوعية” العلمية خصوصياتهم وتمحيص بوحهم وتشخيص عناصرها المعلنة والمضمرة المبالغ فيها والمهمش. ولا تطلب العلوم الإنسانية المعنية إذنهم، على أية حال.

لكنني لا أجد بدا من الاعتراف من أنني أشعر بالحرج كما يشعر به العديد من الرفاق في كيفية التعامل حين يصدر كتاب لرفيق حول تجربته الخاصة وما تحمله بالضرورة من تناول لتجربتنا المشتركة.

لأننا بدايةً، نغتبط حين ينبري رفيقنا للاحتفال بالمشترك وكل الكتابات تحمل قدرا معتبرا من الاحتفال حتى بوازع نرجسي. لأنه يغذي نرجسياتنا الفردية ونرجسيتنا الجماعية، وثانياً لأن علاقات المحبة والتعاطف بين جل أفراد المجموعة قوية تكاد تكون رائعة التميز مما يجعل التقريض والتعبير عن الإعجاب هو الطاغي.

هذان الاعتباران مما يصعب النقد حتى المشروع الضروري منه إلا في دوائر ضيقة مباشرة مع الكاتب أو في حصص “النميمة” ولعلها جزء من استقبال النص.

هذا المقال محاولة لمناقشة تعاملنا وتعامل القراء مع هذا النوع الخاص من الأدب الذي يكون أحيانا كثيرة من نوع “الحب القاسي” الذي تحدث عنه محمود درويش أو نقيضه مثل الغضب والسجال، أو البحث عن تناقضات وحقائق قد تساعد على تصنيف قد يفيد. وأعتقد أن التجربة وما كتب عنها جدير باهتمام مختلف يجمع بين الاحترام الواجب و التناول النقدي المطلوب وطرح الأسئلة التي تنير هذه التجربة بشقيها.

 وسأبدأ ببسط بعض عناصر الموضوع كما تبدو لي.

أدب السجون اليساري

      منذ مرحلة الاعتقال وحتى يومنا هذا، صدرت لعدد من المعتقلين في إطار المجموعات المنتسبة للحركة الماركسية-اللينينية المغربية عدة مؤلفات تجمع بين السيرة الذاتية وذاكرة الاعتقال والمقاومة وأيضا رؤى بعض مؤلفيها حول المنظمات التي كانوا ينتمون إليها وهي “23 مارس” و”إلى الأمام” و”لنخدم الشعب”.

بعض الكتب ركزت على التعذيب ومعتقل درب مولاي الشريف وشروط السجن والبعض الآخر على المعاناة بنون النسوة وأخرى على العلاقات بين السجناء أو بعلاقة مع قضايا مثل “الصمود” أو ممارسات “العزل والإقصاء” أو” التطرف” إضافة إلى التقييمات والتراجعات التي حصلت للأفراد والجماعات……

وكان طبيعيا أن تجد تجربة الحركة الماركسية-اللينينية في السبعينيات حيزا هاما كموضوع رئيسي أو فرعي في هذه الأدبيات لأن عدد من منتجي أدب السجون من الذين اعتقلوا ولاقوا ما لاقوه بسبب علاقتهم الفعلية أو المفترضة مع هذه الحركة هي التي تعرضت منذ نشأتها لحملات متتالية من محاولات الاجتثاث والاعتقالات وما رافقها من عسف وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

ولأنها كتبت بعد تجربة السجن وما جرى في السجن مما كان يهم السجن والسجناء وما تقرره الأجهزة أو الأفراد القياديون وما يرتضيه أو ينضبط له الأفراد غير القياديين بل وحتى الذين لم يكن أو لم يبق لهم انتماء تنظيمي أو تغيرت قناعاتهم السياسية والفكرية السابقة على الاعتقال، فإن هذه الكتابات كانت تشكيلا وصياغة لما حدث أو ما حافظت عليه الذاكرة والذاكرات وكلما ابتعدت السنوات المعنية كلما ازداد وهنها وانتقائيتها وحجم الصنعة المحدثة على الوقائع الفعلية.

والغريب المفارق ربما أننا ورغم وفرة الإنتاجات التي تُتَذَكّر لم تتقدم المعرفة التاريخية بمعناها العلمي (أكاد أقول الماركسي)، في موضوع هام وكبير مثل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عاشها عدد هائل من المغربيات والمغاربة لا من حيث توثيقها أو وضعها في سياقها وإبراز محطاتها في سلم البشاعة بالنسبة للجلادين والنظام والمقاومة واستمرار الحياة كما عبرت عنها أجيال من الضحايا المناضلين أو في موضوع هذه الحركة الفكرية السياسية الماركسية-اللينينية المغربية.

  ولي عودة في حلقة قادمة.

Visited 20 times, 20 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى مفتاح

ناشط سياسي وجمعوي