فاشية بربرية شرقية عندنا.. وحضارة غربية “إنسانية” ضدنا!

فاشية بربرية شرقية عندنا.. وحضارة غربية “إنسانية” ضدنا!

المصطفى مفتاح

          شخصيا لا أحب المصطلحات المبهمة والملتبسة، مثل “الإسلام السياسي”، لأن كل شيء سياسي من جهة، ولأنه ليست هناك لا بوذية ولا مسيحية ولا مجوسية أكثر “سياسية” أو أقل، من غيرها من أفكار البشر. ومن جهة أخرى، ليست هناك حضارة “شرقية أو شمالية أو استوائية”، بل حتى “الشرقُ، هو غالباً شرقُ الغربِ وسلعتُه وصورتُه وصناعتُه “، لهذا أثارني المقالان المنشوران في “السؤال الآن” (بقلم الكاتب رضا الأعرجي)، حول الصحافية الإيطالية “أوريانا فالاتشي”، وذلك لسببين اثنين، خاص وعام.

السبب الخاص هو أنني قرأت لأول مرة سرديتها “رجل”[1]، حيث حكت قصة “ألكسندر باناػوليس”[2].  والكتاب سردية تحكي مسار بطل عظيم من بدايته في محاولة قتل الحاكم العسكري على اليونان في الستينيات حتى “اغتياله” في حادثة سير مدبرة.

في الظروف التي قرأت فيها الكتاب ومستوى وعيي إبانها، وغلبة الطابع الرومانسي علي، وطريقة المؤلفة في رسم صورة هذا البطل التراجيدي الإغريقي بامتياز، وصفائه الماسِّي، وصرامته الفوق-بشرية مع نفسه وأفكاره وأسرته وحبه والآخرين، لم يكن ممكنا إلا أن يسحَرَني ويسْلُبَ كل حِسٍّ نقديٍّ لديَّ، هذا الكتاب الذي قرأته زمن مجاورتي لأطياف الأبطال الخارقين.

سجلت في ركن قصي من عقلي أن هذا الشخص الذي تقدمه لنا كاتبة النص “أوريانا فالاتشي” كان أكثر من قاسٍ، صارمِ القساوة قاطعٍ معها، هي ضحيتُه أيضا وحارسةُ الكنزِ “ذكرى” باناػوليس.

واستمر انبهاري بالكاتبة وأنا أتتبع ما تمكنت من الاطلاع عليه من استجواباتها لشخصيات عالمية، مثل “الخميني” و”أرييل شارون” و”ياسر عرفات” وغيرهم، وبعض تصرفاتها “البطولية” نظير نزعها الحجاب – التشادور [3] في حضرة الخميني.

مثلما أن مستوى إدراكي وحسي النقدي كان يجعلني صريع الإعجاب بأبطال آخرين، ثبت بعد ذلك أن الدعاية صنعتهم صناعة متقنة، أو صنعوا أنفسهم ووجدوا فرصا أتاحت لهم إبهار ناس مثلي.

مرت مياه كثيرة، ابيض معها شعر رأسي، وقمت بـ”مراجعات” متعددة وما زلت أقوم، وبعد اطلاعي على الجدل الذي أثارته كتابات وتصريحات “فالاتشي” حول الإسلام والمهاجرين، أعدت قراءة الكتاب المذكور “رجل”. وحتى أكون واضحا، كان انبهاري قد هَشَّمَتْهُ تصريحات المعنية، وكذلك العديد من المعلومات حول حقيقة مسارها وطرق ترقيتها إلى درجة “ضمير” للحضارة الأوربية، أولا في إيطاليا، خصوصا مع برليسكوني[4]، ثم في عالم حفدة روما والإغريق والمعجبين. انتبهتُ أن الكتاب المذكور لم يكن شهادة وفاءٍ وصيانةِ ذكرى «ألكسندر باناػوليس”، بقدر ما كان الكتاب أيضا سيرةً بطلتُها المُلْهِمَة المُهِمّة، هي بالضبط “أوريانا فالاتشي”، ومن يكون خيرَ مُخْرِجٍ لأوريانا غير فالاتشي نفسِها ودوائرها؟

طبعا لا أجادلُ في اختيارها لهذه الطريقة، لكنني ألاحظ أنها هي ذاتها التي تتميز بها الكاتبة حتى في استجواباتها، وهذا حقها المطلق. ولكنه لا يمكن في نفس الآن أن يدفعَ عن المنشور موضوعيةً أقلّ وهماًّ ترويجيا أكبر،  في كتاب يحكم على أشخاص وقوى سياسية ودول مختلفة، ويجعل الجميع في كفة وبطلي الكتاب في كفة مقابلة، هي الأكثر سموا وجاذبية، مكَرِّسَةً صورةَ البطل الملحمي والبطلةِ المقدامَةِ المُرافِقةِ، التي تنير طريقه وتحتفظ بأزهار وورود حفلة العزاء بعد وفاتهِ.

ليست هناك ضرورة في هذه المقالة لأن أحيل على “إدوار سعيد”[5]، وأشير إلى التعالي الغربي الذي كان وقود الاستعباد والإبادة ومبرر الاستعمار وأساس بنيان النظام الإمبريالي العالمي. لكنني أُلِحُّ، وهذا هو الأهم في نظري، هو أن نحرص حين نلجأ لمواجهة تيارات سياسية نرفضها أو ننتقدها على ألّا نستعير من النظرة العنصرية الاستعمارية أحكامها ونعوتها، أو أن نستعمل مفاهيم وتعريفات في غير محلها وسياقها، من ذلك الفاشية والنازية، اللتان ولدتا وترعرعتا وسادتا في بيئة غربية أوربية، ثقافيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، ومن الصعب إثبات أصل لها من بيئات أخرى.

طبعا من البديهي أن الإنسانية واحدة، ولا يمكننا أن نقبل الاستبداد واضطهاد النساء وكل الفئات المستضعفة، بمبرر أصالة إسلامية أو بوذية أو غيرها من الديانات والثقافات، وللقوى المناضلة من أجل التحرر والديمقراطية والتقدم سِجِلٌّ كبير في مواجهة تهمة “الأفكار المستوردة”.

كما لا يمكننا تجاهلُ كل المساهمات المتراكمة التي تفضح مسؤولية الامبريالية الرأسمالية الغربية في إنتاج وإعادة إنتاج وتشجيع التخلف واضطهاد النساء مثلا. فهل يمكن أن نعزل الفكر الذي ولد “الإخوان المسلمين” عن الحاضنة التي تحمي تسَيُّدَها على البلدان التي ما تزال تنتصر فيها، وهل يمكن أن نعزل “طالبان” مثلا عن باكستان الأمريكي الأطلسي…

ولكنني، أرى من المفيد، أن أنبه إلى ما أراه احتراسا واجبا، في التعاطي مع كل ما يتعلق في التنازع الممكن أو الواقع، بَيْنَ تناقضين يتفاعلان أو يتزامنان: الأول مع الامبريالية من جهة، ومع تيارات رجعية، قد يكون لها فعلاً أو قولاً تناقض أو اختلاف مع الاستعمار والامبريالية من جهةٍ ثانية، وكيف ندبرهما حسب الظروف والملابسات التي تمر منها البلاد.

وهو نفس الاحتراس الواجب في التعاطي مع التنازع، بين التناقض مع ما أسميه “الأصولية الرجعية” الحاكمة والتناقض مع “الأصوليات” التي تمتح من الدين مثلاً، وقد تكون تمتح من مكونات معينة من الهوية الوطنية، ذلك أن الخطأ يكون كبيراً وقد يكون قاتلاً حين نستقوي بطرف ضد طرف آخر، لأن المحدد في الموقف هو مصلحة البلاد وعموم المغاربة وأغلبيتهم. ويمكن أن نعود إلى بعض أمثلة التوهُّمِ أن طرفاً رجعياً قد يحمينا ضد طرفٍ آخرَ، مثل ما قد يغري في القضية النسائية.

والأمر أكثر تعقيدا حين نستحضر البعد “الإيديولوجي” المخادع لما يسمى بالقيم الكونية[6]، والتي يجعلها الغرب والمؤسسات الدولية الرحم التي تلد ما يسميه “حضارة إنسانية” تمتح من فكر “الأنوار”. فكرٌ ينسى تعايشه مع الاستعباد والرق والإبادة والاستعمار والعنصرية والميز الممارس ضد النساء والضعفاء والمهاجرين والغرباء.

هو امتحانٌ صعبٌ ومُعَقّدٌ يتَطلّبُ التفكير العميق في كل أبعاد الهجمة والهيمنة الغربية الامبريالية على العالم شماله وجنوبه وشرقه وغربه وشروط تعبئة الطبقات والفئات صاحبة المصلحة في التحرر والتقدم والكرامة وحرية الاعتقاد والاعتزاز بثقافاتها الأصيلة والدفاع عنها في احترام تام للثقافات الأخرى دون استيلاب وفي تبادل وتلاقح مستدام.

نعيش مع رؤيتين “أصوليتين” في منطقتنا، “أصولية متعاملة وخاضعة للغرب، مُفَرِّطةٍ في السيادة الوطنية” و”أصولية” تحرريةٌ من الاستعمار سجينةُ هويةٍ مفترضة أو موروثةٍ أو مُتمناة. ونعرف يوميا منذ 7 أكتوبر 2023 على الأقل سياسة واختيارات كل منهما على أرض الواقع وأين نوجه دعمنا ومساندتنا وأين ومن سنقاوم ونُواجِهْ، حتى نبقى في موقع المنتمي لصف الوطن والشعب والكوكب، في ظرفنا هذا.

أعرف أني أغامر في طرح هذا الاجتهاد، وأرجو كما يقول صاحبي، أن أحظى بامتياز نقاش هادئ يحسن محاولة الإنصات، أو بقدر من اللين في الرَّفْضِ والتَّسْفيه.  

_______________________________________________ 

[1] Un homme

[2] Alexande (Alekos) PANAGOULIS

[3] الحجاب الإيراني

[4] وزير أول يميني ورجل أعمال وامبراطور إعلامي (قنوات سمعية بصرية) ساهم في نجومية فالاتشي

[5] صاحب الكتاب الحاسم حول “الاستشراق”

[6] Valeurs universelles

Visited 49 times, 4 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى مفتاح

ناشط سياسي وجمعوي