هل أسست فاطمة الفهرية جامع القرويين فعلا؟

هل أسست فاطمة الفهرية جامع القرويين فعلا؟
د. عبد الصمد الديالمي
 
             يوم 15 مارس 2025، توصلت برسالة شفوية عبر الواتساب من السيدة أميمة الشاذلي، صحفية بإذاعة BBC. أخبرتني الصحفية أنها بصدد كتابة تقرير عن شخصية فاطمة الفهرية التي بنت جامع القرويين وعن الظروف المجتمعية لبروز هذه الشخصية وبشكل عام عن التأثير النِّسوي في تلك الفترة من التاريخ المغربي.
             أجبت السيدة الصحفية بالنص التالي:
           حسب الرواية الخَبَرِية التي تبناها التاريخ الرسمي للمملكة المغربية منذ الحقبة المرينية، تأسس جامع القرويين على يد فاطمة الفهرية سنة 859م ثم جامع الأندلس في نفس السنة على يد أختها مريم الفهرية. وهما معا مهاجرتان “إفريقيتان/تونسيتان” هاجرتا إلى فاس صحبة أبيهما التاجر الذي استقر بفاس وأثرى ثروته بفضل التجارة. يقال أيضا أن الأب وعد نفسه بتخصيص ميراثه بالكامل لبناء مسجد. ماذا يعني وعد الأب هذا؟ هل هو وعد ناتج عن عدم إنجابه لولد ذكر؟ من الوارد أنه قصد منع ابنتيه من الاستفادة الكلية من الإرث ومن “خطر” تقاسمه مع زوج ما… خصوصا وأنه لا إمكان لتعصيب إذ لا ذكر لوجود مُعَصِّب. بتعبير آخر، نفدت الوارثتان وعد والدهما ببناء مسجدين، مما يعني أن المبادرة “الخيرية” هاته ليست ذات أصل نِسْوي. طبعا، كان بإمكان الوارثتين عدم تنفيذ وعد أبيهما والتصرف في إرثهما بشكل آخر. بغض النظر عن هذا التأويل، ما هو مصدر رواية بناء المسجدين المذكورين من طرف فاطمة ومريم؟
 
أول من ذكر فاطمة ومريم الفهريتين كبانيتين لمسجدي القرويين والأندلس بفاس هو ابن أبي زرع (ت 1326) في كتابه ” أنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس”. تجدر الإشارة هنا إلى أن ابن أبي زرع ألف كتابه بعد خمسة قرون من الأحداث التي يرويها عن الأختين الفهريتين. وهو ما يقلل من مصداقية الرواية نظرا لطول المسافة الزمنية الفاصلة بين “الحدث” والرواية مع غياب مصادر آخر قبلها تذكر نفس الرواية أو تؤكدها. ثم إن ابن أبي زرع لا يعتبره المؤرخون مؤرخا موثوقا به وإنما مجرد واصف لماضي غير موثق (historiographe). لذلك يرى شفيق بنشقرون، وهو مؤرخ مغربي معاصر، أن الرواية الزرعية (نسبة لابن أبي زرع) عن تأسيس المسجدين تتسم بالكثير من الأخطاء في وصفهما، بل إنها مجرد أسطورة تُجَمِّل العهد المريني من خلال تجميل صورة امرأتين عند وصفهما بالتقوى والورع والإحسان وبناء المساجد.
 
في الواقع، يظل الفعل الخيري للفهريتين، إن صح، فعلا نِسْويا (feminine) وليس نَسَويا (feminist) لأنه يبرهن على مساهمة النساء في بناء مسجدين يُدَرِّسان اللامساوة بين الجنسين، الشيء الذي كان عاديا في بدايات تاريخ الإسلام. فالنَّسَوية الموجودة آنذاك نَسَوية إسلامية (islamic feminism) دون أن تحمل هذا الاسم، وتقول بأن الإسلام أعطى المرأة حقوقا غير مسبوقة في التاريخ، وهو قول صحيح بالفعل. لكن تلك الحقوق لم تبق كافية اليوم في نظر الحركة النَّسَوية الحداثية في العالم العربي الإسلامي.
 
إلى جانب ذلك، يذهب البعض إلى اعتبار بناء مسجدين بفاس دليلا على المكانة الممتازة التي كانت تحظى بها المرأة في فاس في عهد الأدارسة وعلى تأثير النساء كعنصر اجتماعي فاعل في سير الأحداث الاجتماعية والسياسية. بهذا الصدد، يجب الإقرار إلى أن أول امرأة كان لها تأثير على المجال العمومي هي كنزة زوجة إدريس الأول مؤسس “الدولة” الإدريسية. ذلك أن إدريس الأول هذا، العلوي ـ الطالبي الأصل والشيعي ـ الزيدي المذهب الفار من البطش العباسي وجد في المغرب الأقصى ملجأ بفضل تزوجه من كنزة البربرية من قبيلة أورابة. بفضل هذا الزواج وتدخل كنزة لدى قبيلتها، استطاع إدريس الأول أسلمة قبيلة كنزة وتكوين قوة عسكرية و”دولة” دينية مكنته من غزو بعض مناطق المغرب الأقصى. ففي كتابه “سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس”، أكد محمد جعفر الكتاني إن كنزة أصبحت زعيمة لقبيلتها وسميت بتابعة كتاب الله وسنة رسوله. من جهة أخرى، يورد الخبر أن مدينة فاس شهدت بناء حمامات خاصة بالنساء صيانة للعفة العمومية وتخصيص ممرات خاصة بالنساء وأن النساء بفاس اشتهرن بالعفة وحسن السلوك. لكن لا يشير المخبرون والمؤرخون إلى وجود نساء عالمات أو شاعرات أو متصوفات بفاس إبان العهد الإدريسي. وتذكر أيضا بعض المراجع أن نساء فاس تأدبن بفضل الدين الإسلامي وساهمن في تغيير “بدائية النساء الأمازيغية” وتجاوزناها بفضل مزجها بالثقافة الإسلامية.
 
في هذا السياق، لم تذكر فاطمة ومريم الفهريتين إلا في إعادة بناء مسجد القرويين وتوسيعه وفي بناء مسجد الأندلس، أي كنساء لهن أثر وتأثير، سوى في الرواية الزرعية المرينية لوحدها. ما عدا هذا الفعل الخيري، لا شيء آخر ذكر عن الأختين ولا شيء عن أولادهما، بل ولا خبر عن مكان قبرهما بفاس بالرغم من أن جامع القرويين تحول فيما بعد إلى جامعة شهيرة على الصعيد الدولي. إنها مؤشرات تدل على “غرابة” قصة بناء مسجدي القرويين والأندلس. في هذا السياق، توجد أدلة تاريخية تشكك في الرواية الزرعية وتبين أن مسجد القرويين أسس على يد أحد أبناء إدريس الثاني، وأن قصة الفهريتين مع جامعي القرويين والأندلس ما هي إلا أسطورة انتشرت بفضل الرواية الزرعية. أكثر من ذلك، أصبح اليوم وجود فاطمة الفهرية (وأختها) نفسه موضع تساؤل وشك بسبب قلة المصادر عنها ولأن المصادر التي ذكرت قصتها ووجودها غير موثوقة كررت بعضها البعض بعد العهد المريني. وفي هذا الإطار، وخلال أعمال تجديد مسجد القرويين في الخمسينيات من القرن العشرين، اكتشف عالم الآثار هنري تيراس Henri Terrasse نقشًا كوفيًا فوق عارضة المحراب الأصلي يخبر أن تأسيس المسجد يعود إلى سنة 877م على يد الأمير داود، أحد أبناء إدريس الثاني. هنا، لا ذكر لاسم فاطمة الفهرية كمؤسسة للمسجد ولا تأكيد للتاريخ الذي ذكره ابن أبي زرع (858م). ردا على هذا الاكتشاف، اعتبر المؤرخ عبد الهادي التازي إن فاطمة الفهرية شخصية تاريخية بالفعل وفسر عدم ذكر اسمها على عارضة المنبر الخشبية بالاكتفاء بذكر اسم الأمير فقط وبالاستغناء عن ذكر فاطمة كممولة لبناء المسجد.
أمام كل هذه المعطيات، لا بد من حذر إبستمولوجي يقينا من الوقوع في ضرب من النرجسية الإسلامية النَّسَوية المُسيَّسة، وهي على كل حال نَسَوية تجاوزها التاريخ بالرغم من عودتها اليوم في أشكال إسلاموية أيضا (وبالخصوص).
الرباط، 16 مارس، 2025
Visited 75 times, 41 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الصمد الديالمي

عالِم اجتماع مغربي