قال الشّهيد: لا للموت… أنج أيّها الشّعب

لحسن أوزين
ألم مخاض القراءة ومولد الكتابة…
لم أكن مأخوذا بالصّدور العارية فقط، كما اعتقدت بقدر ما كنت مسحورا بالعري القادر على كشف حقيقة اللامرئي في ليلة الفلق1، وهي تكشف لي كفاءة التميّز المعرفي والدّور الكبير لامرأة في تأسيس الإسلام، وفي وقوفها سندا ودعما للنّبي في أصعب لحظات حياته منقذة إيّاه من السّقوط. “أمّا عن السّقوط فإنّ حياة محمّد المحفوفة بأنواع من التخلي والتي ظهرت فيها قصّته مع الجنون من أوّل أمره تبرز أن هذه المرأة أي خديجة هي التي، من بين كلّ النّساء”، لم تتركه يسقط “أي لم تتخل عنه”.2
لقد جعلتني عذابات التلقي أكتشف ذلك وأنا أعبر مدارج ليلة الفلق، في نوع من إخصاب الذّات بواسطة القراءة التي تشبه اللمس بالعين، لأخذ السّائل أو تمريره، لأعيش روعة إحساسات القادم إلى الحياة من حافة الموت، أو المفلس نفسيّا وذهنيّا وهو يلمس أو يقبل عتبات الأضرحة وقبورها أو يطوف في باحات المعبد كنيسة كانت أم مسجدا…
كم هو جميل هذا الانفتاح على الحياة، وتجاوز محنة عذابات تجربة الموت التي تنتشر اليوم باسم الشّريعة بشكل مهول ومرهب عاجزة عن إدراك منطق الوثبة في تفجّر الحياة التي عاشها النّبي. “اقرأ معناه أنج والنّجاة ليست أن يموت المرء ليحيا، ولا هي أن يرجع إلى الحياة. وليس ذلك من أمر التناهي أو البعث… ولربّما وجب علينا الاكتفاء بشيء قد يكون من الأحسن تسميته «بعودة الحياة» كما نقول «عودة الحلم». “3 ها أنت ترى بأنّي كنت منشغلا بمحنة القراءة التي عاشها النّبي في “رؤية الحق”4 وما كان له ليجتاز منعرجات تجربة الجنون لو لا زوجته خديجة. “وهكذا فإنّ هذه المرأة التي كان جسدها نقطة الوساطة في المحنة على ما يظهر، تحتل مكانا رئيسا لا باعتبارها سندا لمحمّد كما تقدّمها السّيرة بل بصفتها الرّكن الأساسي لما يحسن تسميته بعدة الوحي. وبصورة أدق الركن الأساسي لما ثبت من تقبل للكلام الإلاهي الذي تحوم حوله وقتيّا ظلال المس.”5
وإذا كنت أسرد عليك بعض شجوني القرائية فليس لأقلل من قيمة ملاحظاتك النقديّة الشّجاعة إلى أبعد الحدود. وهذا ما لم أكن أتخيلك في مستوى إتقان بيانه، وتأسيس برهانه، لذلك لا أنكر نقدك الجريء واللاذع في حقي، فأنت أعلنت جهرا وأمام النّاس بلغة واضحة لا تقبل الالتباس ما كنت أفكر فيه بصمت خجول يناقض كليا عقدتي المشهدية المزينة بالحداثة والأخلاق الثوريّة والدّعوة اللفظيّة في أن تعيش المرأة إنسانيتها بكرامة كاملة ودون أدني تمييز. هكذا أزحت عنّي الستر، ولم يعد هناك أيّ مبرّر للتستّر على عري هذا الرّجل الذّميم الخلقة والخلق في أعماقي. مدين لك بهذا النّقد الذي أجدني في أمس الحاجة إليه لتجديد قنواتي الداخليّة استعدادا لينابيع المياه القادمة، وبتدفّق هائلا محفوفا بأمل اخضرار الرّبيع الزاحف، وبالفرح الكبير للكائنات الحيّة التي ستروي ظمأها المزمن بفعل هجير التصحّر القاتل الذي امتد وطال كل شيء. لغتك النقديّة هي التي كانت تنقصني لمد جسور الشمس إلى مناطق ظلي، وتهوية غرفي الداخليّة من رطوبة القرون الوسطى التي عششت حتى عفنت صمائمي الأوليّة النفسيّة والثقافيّة، وعطلت إن لم تكن أفسدت حواسي إلى درجة صار فيها جسدي مجرّد مومياء أثريّة محنطة في تابوت ذاتي المنهكة بهزّات وارتجاجات العود القهري الأبدي للأوامر والنّواهي التي صلّبت وعصّبت نفسيتي وذهني في وجه الاختلاف، ممّا حال دون انبثاق في داخلي رؤية جديدة للعالم، أو نمط تفكير يجعل الأفعال تطابق الأقوال. لذلك أشعر برغبة عارمة في خميل كنوع من التنظيف الدّاخلي أي “التخمال” كما نفعل مع منازلنا أحيانا. لا أخفيك أيضا حسدي الكبير الذي يضمر الكثير من غيرة العشق والحبّ وأنا أراك تعلن جهرا ما لم يكن باستطاعتي التّفكير فيه أو المستحيل التفكير فيه. يسرّني أنّك تخطيّت عقبة الالتباس ونفاق الانشطار النّفسي والتجاذب الوجداني التي سكنتني طويلا، فحالت بيني وبين الحياة. وفي هذا السّياق أوافقك الرأي فيما أشرت إليه من أنّنا نحتاج إلى الكثير من الجهد وعشرات العقود لندرك ما تعرفه وتدركه النّساء. لعلك تذكر ما جاء في السّيرة حول نهاية مشهد “رؤية الحقّ” إذ قال النّبي لخديجة إنّ الملك جبريل يقرئك السّلام.” ألا يكون سلام الملك الموجه لخديجة هو اعتراف من محمد بواسطة الملك الذي لم يكن هو وحده كافيا ليقود محمّدا في انحداره نحو المكان الضروري للحرف والذي لم يصل إلى ذلك بالضبط إلا بواسطة حجر خديجة؟ وأي في إمكانه أن يحسن مساعدة ملك في العالم التحقمري غير امرأة.”6
وإذا كنت الآن أبوح لك بهذه الهواجس فلكي أطلعك على حرقة الألم التي عانيتها بشكل لا يتصوّر في ليلة الشّهيد، حيث كانت الأسئلة مرجلا يغلي على موقد قلبي. كيف يمكن أن نقبل بالعودة إلى منازلنا كأن شيئا لم يقع؟ وماذا نفعل للمطر الذي بكى من أجلنا ومن أجله حتّى حرّر صرختنا من أسر الاختناق والظلام القاتم؟ وهل نستطيع هكذا بتلقائية أن نترك جزءا منّا كنبض القلب ونمضي دون أن نسأل ونفكّر في تلك الصيغة القديمة التي لا تقبل التردّد والقدامة ما العمل؟ وكأن الحريّة تطرح سؤالها في أوسع معانيه حول قدسيّة حريّة المعتقد، لما فيه من تحصين لقيمة الإنسان فينا؟ وهل يستطيع حقا الإنسان أن يدفن ما يشكل كينونته الإنسانيّة، ويعلن موته بعد أن يرفع شاهدة قبره مكتوب عليها لكم طريقكم ولي طريقي؟ وماذا سنقول لكل الشّهداء الذين اقتسموا معنا عمرهم، شبابهم، أجمل وأغلى ما يملكون من الحبّ والعطاء الإنساني اللامحدود، دون أن يتركوا شيئا لأنفسهم يسمح بتغذية أو ولادة حبّهم الأناني…
نعم هل نستطيع بعد كل هذا السخاء بالدم والعمر والكفاح الطويل أن ندفن الشّهيد ونغرق في وحل مستنقع الموت، ويمضي كل واحد منّا إلى حال سبيله كأن شيئا لم يقع، فنتيه في صمت هذا الليل المسكون بالصباحات الرخيصة؟
لم يكن قتلهم للناس مفاجئا لك ولهم يا صديقي، إلا أنّ صاحبنا وهو من أصحاب الفخامة كان منهمكا في تأسيس نظرية “ديمقراطيّة المشانق والاستئثار بالسلط”. ولهذا الغرض النبيل تجده يحاضر في خصوصيّة ديمقراطيتنا على خلفية إبداع انتقال ديمقراطية القتلة من باريس أو واشنطن. ما هذا الفتح المبين؟ يريد شيئا جديدا في التاريخ البشري، إنّه شيء ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت، خاصّة وأن فصائل حماية الثورة يضمنون حرية الفكر ويشجعون على جماليّة الفن والإبداع وتحرر المرأة من أسر العبوديّة، وفق إيقاع أناشيد الغربة التي تعدنا بمجتمع مهلوس ودولة مهلوسة ونظام مهلوس. وأثناء تلك المحاضرات قال بعض الخبثاء بأن كانط تململ في قبره متمتما بتحسر واضح يشوبه الكثير من الاستهزاء والسّخريّة: ما أعظم هذا التنوير واصل أعانك الله وسدّد خطاك، وأنت تلوك بخوف من الشّعب وهم خطاب التوافق الواقف على رجل واحدة عينها على كرسي الرّئاسة المتأرجح فوق جثث موتى مقبرة كلام الشيخ ومن معه من زبانيّة القتل الآتي غدرا على نية الذّبح الحلال للإنسان والحياة والوطن. من منا كان يجهل موت الأبرياء قبل أن يأتيهم رصاص القتل من غسق سجل مقبرة كلام الشيخ، حيث موتتهم فتوى الكفر والزندقة وهم المسلمون أبا عن جد؟
في سجل مقبرة نصوص كلام شيخنا كنّا نحصي موتانا قبل أن يأتي قتلهم، ونصرخ ضد حمرة غيوم مطر رصاص سفك الدّماء وهي تطل من شرفة القصر الرئاسي، ومن باحات المساجد وعلى كل المنابر، وتمشي عارية القلب والعقل والفكر، لا تخفي آلة القتل، مرهبة للناس في الشوارع.
في تلك الليلة لم نسأل عن النوم، كما أن هذا الأخير قدر موقفنا بشجاعة بعد أن راقب كالظل جنازة عرسنا الكبير الذي كانت تمتزج فيه دموع الحزن والألم بالزغاريد وأغاني الفرح. قلت بأنك لم تنم أنت أيضا يا فخامة المحاضر تلك الليلة. أعرف ذلك ولا حاجة لتصرح أمام الآخرين بعذابات الخوف من الشعب إذا أراد الحياة. ونعرف بأنك شعرت بغضب جارف، لأنّك وعيت بأنّ خيوط اللعبة تحرّك من ورائك وعلى وقع أقدامك، وانتظرنا بسذاجة في ظل غضبك الهائج محاضرة انقاد الثّورة المغدورة. وتجرأ خيال بعضنا في القول بأنّك ستعلن استقالتك، أو أن وضعا جديدا سيبدأ الليلة. لكن في ليلة الفجر هذه التي اخترقتها أرواح الشهداء، فأضاءت ما حولها على الكون بنور الفلق، الأقرب إلى ليلة القدر، نظرت إلى الكرسي الذي صارت تفصلك عنه أمتار معدودة، وكأنّك تمتحن عشق السلطة، عندها غمز الكرسي بغنج أنثوي فاضح، فازداد خوفك رعبا على فقدانه نتيجة مرض رهاب الشّعب الذي يسري في جسدك مبعدا النوم عن جفونك. لعلك تذكر كيف كنت آخر من يعلم بما يحدث داخل البلد من صفقات أسلحة تنفيذ رزنامة الموت المسجلة في مقبرة كلام الشّيخ التي كانت تنتظر قابيل بتعطش كبير لسفك الدماء البريئة. ها نحن الآن نقف على حافة كلام الموت المحفز لقتل النفس وبتر الأعضاء وتخريب الزرع ونشر الفساد… نقف على حافة السقوط الكامل والانتحار المجاني مجتمعا ودولة ووطنا في هوّة جبّة الشيخ المميتة. للأسف لم تكن معنيا بالحدث الجلل عندما قدم الشهداء أنفسهم قربانا للثورة فتقبلهم الشّعب بالخروج فورا ولم يتخلف أحد لأن النّاس شعروا بأنّهم قتلوا جميعا، واليوم أيضا عندما اغتيل البشر الأبرياء، شعر الناس أن الاغتيال قد طالهم جميعا. لم تكن معنيا بحلم الحصول على نسخة مزيدة ومنقحة للحرية والديمقراطيّة وحقوق الإنسان… نسخة من أم كتاب الحداثة الذي علينا أن نسهم في صيرورة إنجازه. وكان أملي ومرجل الأسئلة لا يهدأ أن نقرأ نداء الشهيد الموسع لجبهة الناس الذين شعروا أنهم قتلوا جميعا، ولا يترك أي نداء دون نداء، معلنا تخطي كارثة الفناء:
لا للموت… اقرأ أيها الشعب… أنج أيّها الشّعب
لم ننم لأن السّؤال المؤلم كان يحفر الأعماق دون رحمة، لماذا لم نصرخ بما فيه الكفاية ضد قتل يحلل موتنا ونحن على قيد الحياة في حماية الدّولة والقانون؟ وكان السؤال يغير أخاديد حفره ويتشعب في دهاليز الذاكرة، كيف خرجت هذه القرديات من جلدنا وهي تنشر حساسيات العنصرية، المذهبيّة، الطائفية، الكراهية والقتل…؟
لم يكن اغتيالهم للشهداء مفاجئا لنا ونحن نرى توابيت نعوشهم تعلن موتهم في كلام المرشد ومن معه، وهي تهتز فوق اللعاب المتدفق على حافة فم هوة كلام الموت القادم من ثقب أسود في آية بداية جريمة القتل. لكن هابيل اليوم لم يطلب قتله، ولم يسلم بحكم الموت، أي هدر دمه، كما لم تتملكه رغبة جنونية في قبول تواطؤ الشر في الموت اغتيالا برصاص الغدر. كان الشهيد يضج حركة وحيوية ودينامية ضد سكون وجمود الموت المتواتر نفاقا وخداعا لروعة جنة الحياة في الحلم القادم. كان عشق الشهيد للحياة يجعله يدرك الرحلة العظيمة والمعقدة المنعرجات للأمل الشاق التي لا تترك متسعا للاختيار بين ” الكلام أو الموت”7 في وجه توابيت الموت التي كان يجهز أكفانها ويصقل خشبها كلام الشيخ المرشد لآلة القتل العمياء وهي تحصد الأرواح، بفعل هدر الدم المقرر سلفا في مقبرة كلام شيخنا الخائف من أمواج حياة الشعب، وهي ترميه بالحجارة من كل جانب، و تهدر في وجه طغيان سجل مقبرة موته التي ينثرها كلامه في جسد الشعب والوطن…
____________________________________________________________________________
هوامش
1- فتحي بن سلامة، ليلة الفلق، ترجمة البشير بن سلامة – منشورات الجمل- ط1 ، س 2005
2- المرجع نفسه، ص 150و151
3- المرجع نفسه، ص 87
4- (فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة، ما أراني إلا قد عرض لي، قالت: ما كان ربك يفعل ذلك بك… قالت خديجة أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم ، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله (ص) لخديجة: يا خديجة هذا جبريل قد جاءني، فقالت: نعم، فقم يابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله (ص) فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله (ص) فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحول فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، فتحسرت، فألقت خمارها ورسول الله (ص) جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: لا، فقالت: يابن عم اثبت وأبشر فإنه لملك وما هو بشيطان). من كتاب تاريخ الرسل والملك لمحمد بن جرير الطبري، أورده فتحي بن سلامة في المرجع السابق ص 124
5- المرجع السابق: ليلة الفلق، ص 125
6- المرجع نفسه، ص 155
7- مصطفى صفوان: الكلام أو الموت، ترجمة مصطفى حجازي