جريمة البراءة

جريمة البراءة

 أحمد العلوي

اعتقلوه ولكموه حتى أدموا وجنتيه ثم قذفوا به في مطبق مظلم انزلوه اليه عبر عشرين درجة من سلم مصاب بالبلى والسواد. لم يدر احمد سر ما اصابه لكنه فكر في الامر وتوجه بذهنه الى طائفة من الافتراضات والنظريات. كل تلك الافتراضات كانت وهما. لم يعتقل ولم تضرب حقوقه بسبب ما ظن. كان قد ظن ان خلافه مع بعض اهل الشام المقيمين في فاس عن ديون اتهم بها هو السبب، وظن ايضا ان قد يكون السبب شكوى تقدم بها كائدون له من الرومان الكارهين لجواره , وشك ايضا في بعض الحسدة الذين علموا ما وسع الله عليه من رزق اغناه عن خدمة الرومان وامبراطورهم وجاء به سائحا وفير النعمة من بلده الى فاس , وتوجس خيفة من ان يكون بعضهم نقل عنه الى شرطة البلد اخبارا عن عقائده السياسية ورأيه في الامبراطور, ووصفه اياه باللص ورئيس العصابة والمجرم . كل ذلك لم يكن. كتب رسائل الى حاكم السجن الذي كان رجلا مقيتا لا يقبل قولا ولا يحدث في النفس رضى. جاءه في اثناء ذلك وقال له:

لن اقول لك السبب الذي اوجب ان تعتقل. لن تسرح الا بعد ان تصل انت بنفسك الى السبب، وان تكتبه لي مع طلب العفو.

تعجب احمد من هذه العدالة الغريبة ولم يجد سبيلا الا الاستسلام لها. كان يعلم ان الاحتجاجات لا تجدى. وكان يخاف ان يتخذها شرطة رومة سببا في تغليظ العقوبة والتهمة. جوز له خياله ان يجعلوا منه فرجة في حفلة يحضرها الامبراطور للترويح عن نفسه بمشاهدة السباع وهي تفترسه. استقبح ان يرسم لنفسه صورة المنهوش الواقع على وجهه والاسد يرفعه وينزله ويفترسه. استسلم وقرر ان يراجع تفاصيل حياته منذ ان داست قدماه ارض رومة وقبل ذلك.

أرسل قصة حياته الى الحاكم الذي جاءه في مطبقه وهو في القيود وقال له:

ما زلت لم تعثر على التهمة. اعلم ان القضاة حكموا عليك بالسجن الدائم واصحبوا حكيهم برفع العقوبة الى الاعدام ان لم تستطع ان تكتشف تهمتك في وقت سري ضربوه لك موعدا.

حكموا علي قبل ادافع عن نفسي ودون ان اعرف أنه احمد؟؟ ما هذا؟ حكموا علي كما يحكم على غائب ونفذوا علي كما ينفذ على حاضر؟ هذا ظلم. وهل يعرفون هم سبب وقوعي في السجن، تهمتي؟

لا تعد مثل هذا القول والا سجلته عليك. لا تنس ان هذا من سوء الادب.

الاجل سري والتهمة سرية ايضا. كيف لي ان اعلم التهمة؟ اما الاجل المضروب لمعرفة التهمة او الاعدام فامر لا يبلغ اليه. لا اعلم الغيب.

انسحب الحاكم بعد ان اعاد الى احمد قصة حياته في رومة وبعد ان أزعجه اذ قال له:

اعلم يا احمد أنك تخفي علمك بالتهمة. إنك تعرفها كما يعرفها القضاة الذين حكموا عليك بل إنك تعرفها قبلهم فهم عرفوها من الشرطة والشرطة عرفتها بطرقها وانت الفاعل فانت الاعرف بها منهم جميعا.

اعاد احمد قراءة حياته على نفسه ثم اضاف اليها تفاصيل حياته قبل حلوله برومة. داخله اليأس فترك النية والعمل واستعد لمواجهة الاعدام وانقضاء اجله والاجل السري الذي ضربه القضاة لنجاته او هلكته. أرسل اليه حاكم السجن فأجابه بانه لم يعد يشتغل باكتشاف التهمة وانه ينتظر انتهاء الأجل، واجابه الحاكم بان ذلك ليس من علمه وانه ان كان اعدام او ابقاء فان ذلك يبلغه من القضاة ومن كلفوه بمتابعة قضيته منهم. انقطعت الصلات بين الحاكم واحمد ومرت سنة وسنتان ولم يحل الاجل وتعجب احمد واعتقد ان الاجل اطول مما ظن. طال تفكره في حاله ولم يجد في نهاية الامر الا مخرجا واحدا.

غدا يخترع التهم ويرسلها الى الحاكم الذي يؤجل الرد عليه الى ان يصله جواب المحكمة. كانت كل الاجوبة مكذبة. اول تهمة اخترعها وكتب دفاعه عن نفسه وبرهن فيه على براءته منها تهمة قتل الامبراطور. اجابه القاضي المكلف ان هذه النهمة ساقطة اصلا بدليل ان الامبراطور لم يتعرض ابدا لاغتيال ولا لما شابهه وانه بخير وان احمد برئ من تهمة القتل وأنها ليست السبب في اعتقاله. اخترع تهمة ثانية وثالثة حتى بلغت التهم عددا كبيرا وما عاد القاضي المكلف يجيبه وصار يكتفى بأخبار الحاكم ببينونة تهمه عن التهمة الحقيقية. جال خاطر احمد في كل التهم المتخيلة حتى وصل الى تهمة عشق امرأة الامبراطور جوليا وكانت امرأة جميلة مرغبة ولم يجبه القاضي عنها اصلا وتحول الصمت الى قاعدة وأخبره حاكم السجن ان جواب القاضي المكلف لن يخبر به الا يوم يعثر على التهمة الحقيقية ولم ينس ان يضيف انه في اعتقاده واعتقاد القضاة عالم بها متظاهر بجهلها وان ذلك لن ينفعه ولن يخلى سبيله قبل الاعتراف بها. كان احمد يتساءل في كل مرة عن أصل هذه العدالة الغريبة التي تقدم العقوبة على التهمة والدفاع والمحاكمة وكتب بذلك للحاكم وطلب تفسيرا واجابه الحاكم بان التهمة الموجهة اليه والتي يقضي بسببها سنوات السجن ظاهرة لا خفاء فيها ولا ستر لثبوتها في حقه ولا يحتاج القضاة مع ظهور امرها الى الاستماع الى المتهم بها والى دفاعه ولا الى قول الشرطة وبراهينها الجنائية. هي جناية قائمة يراها كل من يشاهد احمد واحواله ويطلع على طبائعه. تعجب احمد من هذا الجواب وتابع سنته في اختراع التهم وفى ارسالها الى الحاكم الذي كان يرسلها الى القاضي المكلف وكانت تظل بغير جواب.

استكمل احمد بعد ذلك المكاتبة بكل الجرائم التي علمها بلغته او حفظها عن غيره او تخيلها بخياله حتى استقر في ذهنه ان ليس في الامكان العثور على جريمة اخرى غير ما احصاه وبعث بكل ذلك الى حاكم السجن تخفيفا على نفسه بعد ان كان من قبل يبعث بذكر جريمة واحدة ينتظر الجواب عنها. بعد مضي اسبوع وبعد تأخر الجواب كتب رسالة اخرى اليه يخبره انه لم يعد في قدرته ولا في علمه ما يصح ان يعد جريمة ولذلك فلن يكتب اليه باتهام لنفسه غير ما كتب من قبل وانه يعد نفسه بريئا مادام القضاة قد أنكروا ان يكون مقترفا لشيء من الجرائم التي احصاها وبعثها من قبل ثم اضاف انه ان كان مجرما فلعله يكون مجرما بجريمة البراءة ان كانت تعد هذه جريمة في رومة. وجاءه الجواب سريعا وفيه مطالبة له بكتابة دفاع عن نفسه في موضوع البراءة وأخبره حاكم السجن بانه فعلا اعترف بجريمته وانها البراءة كما اخبر في كتابه الى القضاة. ثم اجتمعوا له بعد ذلك وقال له القاضي:

   ⁃    لقد سجنت بسبب البراءة وانت الآن حر فان شئت فاخرج من سجنك وافعل ما تشاء         

اجاب القاضي قائلا :

   ⁃    تعتقلون البرءاء ، وتكرمون المجرمين؟                                                                     

حملته الشرطة الى السجن ، وأمضى اوراقا تثبت وقت دخوله ووقت خروجه والحكم الذي صدر له وتاريخه ثم حمل نفسه وخرج من الباب الكبير كما دخل من قبل ؛ وبعد ان استقر به المقام في بيته سمع طرقا شديدا على بابه ، وخرج فوجد امامه رجال شرطه وامرا باعتقاله بتهمة جديدة مجهولة عليه ان يكتشفها وان يكشفها للقاضي قبل ان يستحق الحرية٠

وقف امام القاضي فسأله :

   ⁃    رجعت مرة اخرى؟؟ ٠ ما جريمتك هذه المرة؟

اجاب :

   ⁃    البراءة  بحسب ما اظن في مذهبكم، كالمرة الاولى ٠

قال له القاضي:

   ⁃    اذن فلقد أجرمت مرتين . يبدو انك تعشق السجن٠.     

قال للقاضي:

   ⁃    انا في نظرك مجرم لاني بريء، اذن فانت بريء وقاض لانك مجرم٠ هذا ما يقضي به المنطق٠

ثم اقترب من القاضي وبصق في وجهه، وانتظر ان يرتمي عليه الحرس من الشرطة والاعوان فلم ير لهم عينا ولا يدا، وفر القاضي واعوانه ووجد نفسه مفردا في قبة القضاء ، ثم وجد كتابا موضوعا بجنبه فأخذه

وسمع صوتا يدعوه فخرج اليه٠ رأى الشمس والضياء ، ووجد قوما ينتظرونه على مبعدة من الباب الذي خرج منه ، ولاحظ انهم مرهقون مكدودون واتجه اليهم وسألهم فقالوا :

   ⁃    نحن هنا ننتظرك منذ ان دخلت الى هذا الغار ، وقد ارسلنا من لدنا رسلا اليك فتاهوا فيه ثم خرجوا ولم يجدوك

اجابهم ، وقد نسي اشخاصهم واسماءهم ، قائلا :

   ⁃    لا تدخلوا الى الغار٠ ستهلكون ٠ لقد وجدت الكتاب ، وهو معي٠ انصرفوا ٠

انصرفوا وانصرف خلفهم ثم دخل الى بيته وارسل الى اعضاء جماعته في الغد ، واطلعهم على الكتاب ، وبعثهم الى الآفاق مخبرين٠

Visited 19 times, 19 visit(s) today
شارك الموضوع

د. أحمد العلوي

أكاديمي مغربي، أستاذ اللسانيات بكليات فاس والرباط وبني ملال وعمان٬ أثرى الساحة الثقافية في العالم العربي بأعمال علمية رصينة وأسهم في تجديد البحث اللغوي العربي وتأسيس مدرسة لغوية مغربية جديدة.