التصوف والكاوتشين.. هل من علاقة؟

التصوف والكاوتشين.. هل من علاقة؟

محمد الهجابي

           في السرود الصوفية ثمة ما يحيل على مكانة الشيخ المربي (المرشد) في مساعدة الطالب المبتدئ (المريد) الراغب في التعلم والسلوك. يطلق عادة على هذا النهج في التعامل بين المعلِّم والمتَعلِّم بعملية التلقين L’initiation. وكثيراً ما يشير علماء الأنثروبولوجيا (بيير كلاسترز وكلود ليفي ستراوس مثلاً)، كما هو حال علماء النفس أيضاً، ولا سيما بالنسبة لعلماء التحليل النفسي (ومن ذلك كوستاف يونغ وتلميذته ماري لويز فان فرانز كنموذج)، إلى التلقين باعتباره النموذج الأولي لطقوس المرور، أو العبور، التي يجري اعتمادها لنقل الأفراد من وضع اجتماعي معين إلى وضع اجتماعي آخر؛ وضع يكون أرفع وأعلى وأنضج وأرقى وأسمى من سابقه. وبعبارة أخرى، الانتقال من مرتبة «الحال» إلى مرتبة «المقام». وفي «الفتوحات المكية» لابن عربي وصف لهذا العبور. وهكذا، يأتي «التلوين» بمثابة مقام الطلب لطريقة الاستقامة في مقابل «التمكين» الذي هو الثبات على الاستقامة، أي مقام الذي «وصل واتصل». ولا يكاد يختلف هذا النهج لدى باقي طرق التعلم والتربية ذهنية كانت أو روحية أو جسدية تعلق الأمر بثقافات الشرق القديم (البوذية والإسلام) أو بثقافات الغرب المسيحية والعلمانية.

يتولى الكتاب الذي أصدره «المدرب» المغربي محسن عيوش و«المدربة» البلجيكية باتريشيا لامبرت سنة 2017، في محاولة جادة، وربما غير مسبوقة، الإجابة عن مسألة علاقة التصوف Soufisme ، بمفهومه العالِم، بالتدريب Caoching في صيغته المعاصرة ذات القاع الثقافي العلماني والحديث(1).

وجه المؤلفان واحداً وعشرين سؤالاً محدداً إلى كل من فوزي الصقلي، عالم الأنثربولوجيا الدينية بخاصة، وكريستيان ليستيان Christian Lestienne، طبيب النفس السريري ومدرب، بقصد التفصيل في هذه العلاقة المفترضة التي تجمع بين عالمين؛ عالم التصوف، والتصوف الإسلامي بخاصة، وعالم التدريب النفسي المعاصر، أي بين الحكمة الشرقية والفلسفة الغربية.

والكتاب كما ورد في المقدمة هو عصارة تجربة لعمل هذا الرباعي امتدت بين عامي 2010 و2017 في المغرب وفرنسا وبلجيكا. ويقدم الكتاب مادة ثرية، لا غنى عنها، لكل من يرغب في ارتياد «التدريب» مساراً مهنياً أو سبيلاً نحو فهم الذات البشرية في مظاهرها المتعددة.

ولأمر يهمني، ويهم كل من تعرف إلى صديقي العزيز الأستاذ محسن عيوش، أطرح السؤال التالي: متى اقتحم الرجل هذا العالم وكيف، والحال أن الكثير منا عهده رجل سياسة بالأولى؟ من جهتي، أحسب أنني على بينة، إلى حد ما، من العناصر الرئيسة التي اجتمعت عند «المربي» أو «المدرب» أو «المرشد»، محسن عيوش، لكي يجعل من علم Caoching إطاراً لارتياد عوامل التصوف. فقد كان مربياً على الدوام. لم يكن التصوف بغريب عن حياة الرجل، ولعله من جبلّته وكبر معه. لقد ارتبطت مختلف جوانب حياته، كما عرفته، بثقافة التصوف ضمناً أو صراحة، وسيان هنا بين فهمه للعمل السياسي وممارسته له وبين فهمه للحياة اليومية والتعاطي لها في حيزاتها وبغتاتها وتقلباتها. وعلى هذا النحو أقدر أنه كان سياسياً في عباءة صوفي مثلما كان صوفياً في عباءة سياسي. محسن السياسة لا يختلف، من حيث العمق، عن محسن التصوف. وكما خبرته، منذ ترافقنا في السبعينات إلى يومنا هذا، فقد ظل الرجل محافظاً على شمائل تمتح من الثقافة الصوفية النسغ والمسام والألق؛ ثقافة متعالقة مع ثقافة «براغماتية» ولا شك. ولأترك الكلمة لمحسن نفسه لكي يؤكد ما أذهب إليه. يقول في وصفه لهذا المنحى من مساره: «بالواقع، متى تقاطعَ سبيلي بسبيل التصوف؟ ثقافياً قد أعيد هذا اللقاء إلى اطلاعي، خلال عقد التسعينات، على كتاب كلود عداسC. Addas (1): «ابن عربي أو البحث عن الكبريت الأحمر» (Ibn Arabî (ʻArabī), ou, La quête du soufre rouge. Gallimard, 1989) ، وأيضاً إبان مراهقتي حيث اكتشفت «قصيدة نهج البردة» للإمام البوصيري [محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري  1213م- 1295م]» ص. 241 ويضيف محسن عيوش إلى ذلك كل ما نقله إليه أفراد من عائلته من مناخات صوفية ضاربة وفي مقدمتهم الوالد وابن عم الوالدة. وفي هذا الإطار أظن، على قدر كبير من الجزم، أن حالة محسن عيوش، على هذا الصعيد، هي حالة أغلب رواد حركة 23 مارس المغربية ومناضليها أثناء مرحلة التأسيس. وقد يعود ذلك إلى بيئة النشأة، وهي بيئة طافحة بأجواء الوطنية وفيوض السلفية المستحدثة ومغرب الخمسينات والستينات من القرن العشرين حتى وإن تفاوتت هذه العوامل من مناضل إلى آخر وتنوعت مظانّها.

ومتى آنس الأستاذ محسن عيوش في نفسه ولوج عالم «التدريب»؟ يقول: «الذي حدثني بجد واحترافية عن الكاوتشين هو صديق. وبالرغم من تصور عام كنت أحمله عن الموضوع، فلم أكن أكوّن فكرة دقيقة عنه. وباعتبار ثقتي في ذلك الصديق فقد انطلقت في عملية تكوين محايث وعميق (…) والآن، عندما أنظر إلى الوراء، أستطيع أن أرى أنه في تلك اللحظة كان الوقت قد حان بالنسبة لي لمتابعة هذا المسار. لا قبل ولا بعد. لقد التقيت بهذا الصديق “بالمصادفة”… ثمّ إنني كنت عند نقطة تحول في مساري. وخلال هذه الجولة التدريبية، اكتشفت آفاقاً جديدة وعالمًا جديداً» ص. 233

ويقول محسن عيوش في توصيف هذا الخيار: «إنه إذا كان التدريب ظاهرة عابرة للثقافات، لأنه ينتمي إلى الجنس البشري ويمارسه الإنسان من أجل الإنسان، فإنه لا يستطيع أن يتحمل أن يكون ما فوق- ثقافي (ميتاثقافي)  métaculturel، وإنما سيربح بشكل كبير متى تجذر في الثقافة المحلية سواء داخل الكيان الوطني، أو المجموعة العرقية، أو المجتمع، أو الفرد. لقد جلب لي هذا العمل بالتأكيد التوضيحات والرضا، لكنه تركني على عطشي إلى المزيد من المعرفة. لقد شعرت بأنني لم أستنفد السؤال، وأن عليّ أن أواصل البحث والتفكير والقراءة ومناقشة الموضوع. ولأجل ذلك وضعت سنة 2006 مشروع كتاب منحته عنوان:Le Caoch et le Soufi » ص. 239. وهكذا تولدت فكرة الكتاب هذا.

الكتاب هذا إذن، لم يكن محض مصادفة، بقدر ما جاء عقب جهد ومثابرة وتقويم وتفكير، من صميم تجربة شخصية طويلة نافذة ومضنية، ليقدم للقارئ المعني بحرفة Caoching، أو بالتعرف إلى عالمي «التلوين» و«التمكين»، أو عالم المعرفة العالمة، مادة دسمة وممتعة. يتضمن الكتاب  معجماً للمصطلحات وقائمة فرنسية- عربية لجملة كلمات من عالم التصوف، وبيبليوغرافيا مهمة، فضلاً عن تعريف بالمشاركين الأربعة في هذا المنجز القيم. صدر الكتاب بالفرنسية عن «منشورات طارق» بالدار البيضاء، المغرب، ويقع في 285 صفحة من القطع المتوسط.

______________________________________________________

 

(1) Mouhcine Ayouche, Patricia Lambert (2017)     

Soufisme et coaching», Tarik Edition, Casablanca»

(2) كلود عداس، لمن يهمه الأمر، هي باحثة فرنسية بولندية متخصصة في الإسلام. ألفت دراسات وازنة حول ابن عربي. وكلود عداس ابنة الفيلسوف المتخصص في التصوف الإسلامي ميشيل تشودكيفيتش (Michel Chodkeiwicz)، وهي حاصلة على شهادة في اللغتين العربية والفارسية، ومؤلفة لكتاب ابن عربي ورحلة اللاعودة (Ibn Arabî et le voyage sans retour, Le Seuil 1996)، إلى جانب أعمال أخرى في السياق العام عينه.

Visited 69 times, 31 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد الهجابي

صحفي وكاتب