استباحة مسرحنا

استباحة مسرحنا

نجيب طلال

بصدق القول نقول: لم تكن لنا مطلقا نية أو تخطيط مسبق لكتابة هاته السطور. ولم يكن لدينا أدنى تفكير للإسهام كالمعتاد بصرخة مسرحية في هذا اليوم الوطني للمسرح، لكن قريني/ شيطاني، وفي لحظة سكون الليل، وهدوء الأمكنة، وانبعاث أصوات وهمسات الجدران، التي تعـزف على نغمات شخير النائمين، وهبوب الرياح الباردة، رغم انقشاع بوادر فصل الصيف (!) انفلت من عقاله ليعتقلني مرغما جوانية رغبته، ليصرخ قبل أن أصرخ في هذا اليوم؟ فلا فائدة من العزف وترديد نفس اللحن في نفس اليوم! لحن  يتردد سنويا في دواخلنا التي تجثم فوقها “سنفونية الغضب” الجميل  تأكيدا لا جدوى من لحن يربك جوارحنا وأنفاسنا أمام هذا اليوم الوطني: يوم هدفه الأسمى تعزيز قيم الابداع والجمال، والبحث عن استراتيجيات بديلة للنهوض بفننا وإبداعنا نحو أفق مشرق، وكذا الاحتفاء بالمثقفين والمبدعين والمبدعات الذين قدموا إسهامات بارزة فى مختلف المجالات الفنية والثقافية، بعيدا عن المزايدات الضيقة، و بدون حيف ولاميز ولا حساسية “شلليه” أو “حزبية”، رغم أن مفهوم الحزب/ التنظيم السياسي، بدوره لم يعُـد له جدوى في ظل الفوضى [الخلاقة] التي هي في الأصل عندنا فوضى [عبث] فمن هذا الباب، وعبر منطق الواقع  ومقتضياته يفرض علينا، أن نلتزم صمت المتربصين، وليس صمت المهرولين، نحو جـرة سمن “جحا” الذي كان ينبه متبضعي السوق الأسبوعي، وخاصة ممن (كان) يتذوق سمنه ألا يصل لقاع (الجرة) ولقد وصل أغلب المسرحيين لقاع (الجرة) فتلوث جسد المسرح، وتلوثت روحه تلوثا غريبا في خرائط المسرح؟ مما يدفعنا  للقول الكاشف، بعيدا عن المبالغة أو تطريز الكلام الحالم نحو حلم العودة؟ عَـودة قدسية ورهبة الركح لسابق عهدها. لأننا في طقوس جنائزية بلا مسرح حقيقي وفعال، ودينامي ، طبعا رمزية الأب حاضرة  “ديونيسيوس” في أعماقنا جميعا، مما يحاول بعض المقاتلين الحقيقين الذين لم يقتربوا من (جَـرة) مولانا (جحا) يحترقون؛ يقاومون؛ يسعَـون بكل قدراتهم وإمكانياتهم تبديد التردي، وإخفاء تلوث المسرح، لكن دونما جدوى! كيف ومسرحنا بلا جمهور؟ وجمهور بلا مسرح؟ معادلة غير منسجمة على ما يبدو. بالعكس هي منسجمة في مجتمع اختلت موازين إبداعه، ونغمات جماليته، بحيث العديد من الأعمال تقدم بدون جمهور، حيث أنت الحاضر تشعر بكآبة تخيم على فضاء القاعة، أجساد قليلة لا تتحرك أو تتكلم لتضفي حيوية في المكان، وعلى المكان. قبل العرض، فالمسرح بجمهوره يعكس روح الفرح والمحبة والتفاعل الحي.. فكيف لممثلين سيستمدون حيويتهم وطاقتهم، في غياب تفاعل جماهيري، تفاعل ينتج النشوة ولذة الفعل المسرحي: كالتصفيق والاستحسان والصمت كذلك والحوار العفوي بين ممثل وفرد من الجمهور، أو تلك الفلتات اللسنية من فرد (ما) في القاعة. فالجمهور لبنة أساس وفعالة في العرض المسرحي. والممثل بلا جمهور يبقى مجرد مومياء فوق الركح. وحتى لا نكون عـدميين، نقول قول الحق :ففي بعض العروض تجد نسبة مئوية من الحضور، لكن ليست هنالك نكهة إبداعية في الأصل ولا جمالية في البعد!! بمعنى: المسرح كفعل إنساني/ حضاري/ أخلاقي/غير حاضر بالمرة، وهنا أستحيي أن نشيربأن هنالك انحطاط أو رداءة؟ بل نقول: بأن العديد من الأعمال (المسرحية)  تصل برغبة أصحابها وقناعة نشطائها، لقاع [جرة] سيدنا [جحا] عليه أفضل التحايا في حكمه وقفشاته. لأن  الإبداع في الأصل؛ ليس عملية جمالية أو فكرية وحسب، بل هوعملية أخلاقية.. وهنا يقع الدور والمسؤولية الأخلاقية  للفنانين والمنتجين تجاه أعمالهم، لتوظيفها توظيفا يخدم الإنسان والإنسانية، وذلك من خلال التعبير الإبداع ، الذي  يتناول قضايا جوهرية، قضايا البسطاء والمعذبين في الأرض، واستخدام آلية  الخيال لإبراز ظروفهم وأحاسيسهم، وكذا تفعيل معالم القهر والمعاناة وشحنة الألم، فمن بين الوسائل التى تتيح لنا مواجهة الحياة،  الخيال الخلاق  ويمنح للفنان بأن يتفاعل مع العالم بكل تلقائية، و من منظور أعمق وأكثر إنسانية. لكن واقع حال مسرحنا، سببه “الدعم” ولا غير “الدعم” فليست هنالك مزاحمة ولا منافسة بين المسرح كفعل حي، ووسائل التواصل الاجتماعية، لأن المسرح يتطور، وها نحن أمام أفق أجرأة المسرح الرقمي. فلو كانت ووسائل التواصل الاجتماعية هي السبب، لما وجدنا مضحكات ومهازل في تأسيس جماعات مسرحية (فايسبوكية) والنتيجة لا تفاعل ولا تجاوب ولا تراسل فيما بين ما يسمى أعضاء الظاهرة الجمعوية [الفايسبوكية / الواتسابية] بمعنى هنالك (خلل) بدون مواربة أو اختلاق المبررات. الخلل فينا، وفي إرادتنا وتفكيرنا. وفي نظرتنا للمسرح عموما..

فبدون استجلاء الوقائع المرتبطة بهذا التلوث الذي أصاب مسرحنا، فالأمور أضحت أكثر وضوحا من ذي قبل. وبالتالي لا يمكن أن نناقش قضاياه الجوهرية في هذا اليوم الأغـر (؟) ولا في اليوم العالمي للمسرح (؟) ولا يمكن أن تطرح الأسئلة العميقة حول الوجود الإنساني والمعنى الحقيقي من الممارسة للمسرح (لمن؟) هل لذواتنا أم لأصدقائنا أم لبناء صرح الحضارة؟  لأن منطق الإغـراء وغياب المحاسبة الإجرائية، تجاه أي عمل مسرحي، تجعل من الممارسة استباحة لا أخلاقية.

شارك هذا الموضوع

نجيب طلال

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!