الحرب الوطنية العظمى: الذكرى الثّمانون لانتصار الشعب السوفييتي على النازية (4-4)

الحرب الوطنية العظمى: الذكرى الثّمانون لانتصار الشعب السوفييتي على النازية (4-4)

 د. زياد منصور

           نختتم الحلقة الأخيرة من سلسلة هذه المقالات بالتأكيد على أن معنى الحرب الوطنية العظمى في ذاكرة الشعب الروسي تحمل في طياتها معان عميقة يتم تناقلها من جيل الى جيل.

فهي تحمل رمزية وطنية تجسد التضحية، والبسالة في مواجهة العدوان الخارجي. لقد ضحى ملايين الجنود والمدنيين الروس بأرواحهم في هذه الحرب، ولذا يمثل هذا الحدث رمزًا للوحدة الوطنية في مواجهة العدو، حيث حملت الأجيال اللاحقة ذكرى هذا الكفاح البطولي. بهذا المعنى تعتبر الحرب، على الرغم من مآسيها، علامة فارقة في الحفاظ على الوطن الروسي ومقاومة الفاشية، وتحرير أوروبا من الوباء النازي. لقد عمل الشعب الروسي جنبًا إلى جنب بكل إخلاص من أجل خير الوطن الموحد – بعضهم في الخنادق، وبعضهم في الإنتاج. لقد حققوا هذا النصر بفضل دماء وعرق الأجداد. واليوم لا يمكن السماح لأي كان بالتقليل من إنجازات الشعب السوفييتي. لقد أثرت الحرب على كل عائلة سوفييتية تقريبًا، وفي عائلة كل ممثل للجيل الحالي هناك أسلاف دافعوا عن العالم من النازية. أقل ما يمكن فعله هو الحفاظ على هذه الذكرى ونقلها إلى الأجيال القادمة، وأن تفخر بالإنجازات، وألا يتم تناسي التضحيات، وخصوصًا الإسهام الأكبر في تحرير أوروبا.

خلال الحرب العالمية الثانية، كانت النمسا وألبانيا وبلجيكا واليونان والدنمارك ولوكسمبورج وهولندا والنرويج وبولندا وفرنسا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا تحت سيطرة المعتدين الفاشيين. لقد فقد حلفاء ألمانيا، المجر ورومانيا، حيث حكمت الأنظمة الفاشية، استقلالهما فعليًا؛ أمَّا بلغاريا وفنلندا فكانتا تعتمدان كليًّا على ألمانيا.  لقد أقام النازيون هناك نظامًا نازيًا وحشيًا في الأراضي المحتلة.

تطلبت مهمة تحرير شعوب أوروبا جهوداً وتضحيات هائلة. بحلول يونيو/حزيران 1944، كان لدى ألمانيا النازية 228 فرقة، و23 لواء على الجبهة السوفيتية الألمانية، وأكثر من 4.3 مليون رجل، و59 ألف مدفع هاون، و7.8 ألف دبابة ومدفع هجومي، و3.2 ألف طائرة.

لقد استغرق الأمر من الجيش الأحمر أكثر من عام لهزيمة مثل هذه الآلة العسكرية الضخمة. في عامي 1944 و1945، نفذت القوات السوفيتية عددًا من العمليات في الخطوط الأمامية وعمليات المجموعات الأمامية، بما في ذلك العمليات الضخمة الحجم والنتائج مثل العملية البيلاروسية (المرحلة الثانية)، وجاسي كيشيناو، ولفوف-ساندوميرز، وبودابست، وفيينا، وبلغراد، وفيستولا-أودر، وبرلين، وبراغ.

دارت المعارك مع العدو على أراضي تشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، وبولندا، والمجر، وألمانيا (المناطق الشرقية)، ويوغوسلافيا (المناطق الشمالية الشرقية)، والنمسا (المناطق الشرقية)، والنرويج (المناطق الشمالية)، والدنمارك (جزيرة بورنهولم).

نتيجة للعمليات العسكرية التي قام بها الجيش الأحمر في أغسطس/آب 1944، انهار النظام الفاشي في رومانيا. وفي وقت لاحق، خلال حملة عام 1945 في أوروبّا. لقد حررت القوات السوفييتية بلغراد وبودابست، ووارسو وبراتيسلافا، وبراغ، وفيينا. في النضال المسلح على الأراضي الأجنبية، تعاونت القوات المسلحة السوفييتية بشكل وثيق مع حركة المقاومة، والتشكيلات العسكرية والحزبية الوطنية، وقدمت لهم كل أنواع المساعدة. أظهر الجنود السوفييت موقفًا وديًا تجاه المدنيين، رغم سيل الاتهامات والافتراءات حول ممارسات جنود الجيش الأحمر في ألمانيا. ولم يقتصر الدعم المعنوي على سكان البلدان المحررة من نظام الاحتلال القاسي، بل شمل أيضاً الدعم المادي. واليوم توجد نصب تذكارية وآثار للجندي السوفيتي المحرِّر في العديد من مدن أوروبا، ولكن للأسف يتم تقويضها وتدميرها.

أثناء تنفيذ مهمة التحرير، أظهر جنود الجيش الأحمر التفاني والبطولة والتضحية بالنفس. خلال العمليات العسكرية في أوروبا، خسرت القوات المسلحة للاتحاد السوفييتي بشكل لا يمكن تعويضه مليون و89.2 ألف روح بشرية، منها (الآلاف من الأشخاص، في بلدان مختلفة):

في بولندا – 600.2؛ تشيكوسلوفاكيا – 139.9؛ المجر –00 140.0؛ ألمانيا –000. 102؛ رومانيا – 69.000؛

النمسا – 26.000؛ يوغوسلافيا – 8.000.

أمًّا خلال تحرير الدول الأوروبية، تجاوزت الخسائر في الأرواح للقوات السوفيتية 2.7 مليون شخص، وبالتالي فإن العدد الإجمالي للخسائر يقدر بنحو 3.9 مليون شخص.

وخلال تحرير أراضي جمهوريات الاتحاد السوفييتي ـ التي أصبحت الآن دولاً أوروبية ذات سيادة ـ عانى السوفييت من خسائر لا يمكن تعويضها. (الضحايا بالآلاف): إستونيا – 67.1؛ لاتفيا – 130.2؛ ليتوانيا – 137.2؛ مولدوفا – 18.7؛ أوكرانيا – 994.4؛ بيلاروسيا – 2,136.0.

بعد أن انتصرت في الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، أنقذت القوات المسلحة السوفييتية الحضارة العالمية من الطاعون البنَّي المتمثل في الفاشية. تم دفن مئات الآلاف من الجنود السوفييت في تراب البلدان الأوروبية التي حرروها، ويبقى مصير الآلاف منهم مجهولاً.

والسؤال: كيف يتعامل العالم مع محاولات إعادة تفسير أحداث الحرب العالمية الثانية؟

          يتم اليوم تقديم العديد من الحجج لدعم أهمية الحفاظ على التاريخ دون تحريف. لقد قيل الكثير عن قيمة نقل المعرفة حول الأحداث التاريخية، سواء في زمن الإمبراطورية الرومانية أو في فترات لاحقة من الوجود البشري.

ورغم كل الجرائم والفظائع النازية رأينا في الآونة الأخيرة بشكل متزايد كيف أن هذه الجرائم، إذا لم يتم إنكارها، يتم تفسيرها والتخفيف من نتائجها، وحتى تبريرها بطريقة أو بأخرى. نرى كيف بدأ التقليل من الدور الحقيقي للجنود السوفييت، أولاً في الثقافة الغربية الحديثة، ثم أصبحت هذه الممارسة شائعة لدى بعض السياسيين الغربيين، والمؤرخين. إن الاختلافات بين الرايخ الثالث والاتحاد السوفييتي، الذي يعد الاتحاد الروسي خليفة له، يتم محوها.

لعل هذا هو عدوان تاريخي صارخ. إن أية محاولة لتحميل الاتحاد السوفييتي مسؤولية متساوية عن الحرب التي شنتها ألمانيا النازية هي محاولة غير أخلاقية وليس لها أساس تاريخي موضوعي.

إن هدف هذا التلاعب هو التقليل من دور الاتحاد السوفييتي، وتخفيض قيمة مساهمة الشعب السوفييتي في الانتصار على النازية الألمانية، ورفع مستوى هذه الأيديولوجية الإجرامية وإعادة تأهيلها بشكل خطير. في هذا السياق فإن الأحداث الجارية في أوكرانيا هي نتيجة لهذه الإجراءات.

 إن أي مغازلة للأفكار المبنية على الكراهية والكبرياء تشكل خطرا على السلم والأمن الدوليين. ولهذا السبب فإن أحد الأهداف الرئيسية للعملية العسكرية الخاصة التي يتم تنفيذها هو منع محاولات إحياء النازية وتشجيعها. لا يدافع أفراد الجيش الروسي عن المصالح الوطنية لوطنهم وعائلاتهم وشعبهم فحسب، بل يدافعون أيضًا عن حق الشعب في حرية الحياة والتنمية في إطار قانونهم الثقافي. إنهم يقفون كحراس أمناء للقيم الإنسانية العالمية التقليدية.

هناك عمل جبار وضخم ومدفوع لتزوير تاريخ الحرب الوطنية العظمى يركز على حرمان روسيا من وضع المنتصر والحق في المطالبة بدورها الحاسم في الانتصار على الفاشية في أوروبا. في هذا المجال وعبر حرب المعلومات، يتم استخدام الأساطير حول “ضعف الفن العسكري السوفييتي والقادة العسكريين السوفييت”، فضلاً عن حقيقة أن “الأساس الاقتصادي لانتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب الوطنية العظمى كان يتكون من إمدادات الإعارة والتأجير” (لاند ليز).

إن الاتجاه الآخر لتزوير تاريخ الحرب الوطنية العظمى يهدف إلى حرمان روسيا وقواتها المسلحة وشعبها من الوضع الدولي المعترف به سابقًا كمحررين، وتشويه الشخصية الأخلاقية للإنسان السوفييتي والجندي السوفييتي.

          بشكل عام، مع هذا العرض المشوه الذي يقدمه الإيديولوجيون في جامعات أوروبية وحتى عربية، لتاريخ الحرب الوطنية العظمى 1941-1945، يتضح من وجهة نظرهم أن روسيا ليست هي من هزم النازية بفضل البطولة الجماعية، والشجاعة، وصمود الشعب السوفييتي، والتفوق في الشؤون العسكرية، والاقتصاد العسكري والإمكانات الروحية، ولكن الأنجلو ساكسون.

الهدف العام من تزوير للتاريخ هو تقديم روسيا باعتبارها “إمبراطورية شريرة، ذات تقاليد عمرها قرون من الاستبداد والعبودية والرشوة”، وسلب ماضيها البطولي والذاكرة التاريخية للشعب، وجعل الاتحاد الروسي منبوذاً في السياسة العالمية. إن مراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية هي جزء من خطة أكبر تهدف إلى انتزاع نتائج النصر والموارد والأراضي من روسيا.

للتذكير فقط، لم تشهد أي دولة على وجه الأرض مثل هذه الصدمة القوية، أو ربما العظيمة، خلال سنوات التجارب القاسية في تاريخ الوجود البشري بأكمله. إن هذا النصر يعد بمثابة رمز أخلاقي لروسيا والجمهوريات الأخرى.

في الفترة من عام 1941 إلى عام 1945، استخدم الشعب السوفييتي النظام الاشتراكي كدرع وسيف، للدفاع عن حقه ليس فقط في الوجود في التاريخ، بل أيضًا في عظمته. كانت النتائج طويلة المدى للنصر هي وضع القوة العظمى للاتحاد السوفييتي، واستعادة الاقتصاد السوفييتي، وإنشاء درع صاروخي نووي، وتحقيق تقدم في الفضاء، ومستوى عالٍ من التعليم، وعدة عقود من الحياة الهادئة والمسالمة القائمة على قوة النظام الاجتماعي وثقة الناس في المستقبل.

وعندما انتهت الحرب، قال أحد القادة العسكريين السوفييت: “لقد هزمناهم، ولن يسامحونا على ذلك أبدًا”. في الواقع، فإن أعداء روسيا يحاولون باستمرار أن يسلبوا منها عظمة النصر. ويتحدثون بحماس عن هزائم السنوات الأولى من الحرب، وعن الجثث التي تناثرت في ساحات القتال تحت قيادة قادة غير الأكفاء، وعن الجنرالات الألمان الشجعان، وعن العنف الجماعي المفترض الذي مارسه جنود الجيش الأحمر ضد الفتيات الألمانيات العفيفات من أصول شمالية.

لننظر فقط إلى النسخة الروسية مما ورد في إحدى حلقات هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) الإنجليزية، بشأن النصب التذكاري للجندي السوفييتي المحرِّر في حديقة تريبتور في برلين، حيث اعتبرته   نصبًا تذكاريًا لـ “المغتصب المجهول”. من ناحية أخرى  وصل الأمر إلى حد أنه لم تتم دعوة  رئيس روسيا بوتين لحضور حفل إحياء أكثر من ذكرى في العواصم الغربية حتى قبل شن العملية العسكرية الخاصة بسنوات، ومنها الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لإنزال الحلفاء في نورماندي، أو الفعاليات في بولندا.

بمناسبة الذكرى الثمانين لاندلاع الحرب العالمية الثانية. قبل 15 أو 20 سنة فقط، لم يكن أحد في أوروبا، أو في العالم، يتساءل من انتصر ومن خسر في الحرب العالمية الثانية، ومن هاجم ومن دافع، ومن كان مجرماً ومن كان بطلاً.

اليوم بدأت المراجعة الشاملة للتاريخ العسكري. فجأة بدأ أولئك الذين كانوا أعداءً بالسعي إلى أن يصبحوا أبطالاً. وترتبط العديد من “الدول الانتهازية” بالمجد العسكري للاتحاد السوفييتي؛ يواصل رجال قوات الأمن الخاصة النازيون الباقون على قيد الحياة، وغيرهم من بقايا المجموعات المؤيدة للنازية، مسيرتهم السريعة في شوارع دول البلطيق وأوكرانيا. باختصار، إن أعداء روسيا في الغرب والشرق وأولئك الليبراليين الزائفين في روسيا الذين يسيرون في أعقاب هذه السياسة يحاولون ضرب جوهر الأخلاق الأكثر أهمية، في تأكيد وحدة المجتمع – النصر العظيم على الفاشية. إنَّ الدرس الأول هو فضح هؤلاء، وفضح كل الاتجاهات الرئيسية لتزوير تاريخ الحرب الوطنية العظمى.

اليوم يعاد النظر بكل القيم، ويجري تحميل الاتحاد السوفييتي (روسيا) مسؤولية متساوية مع ألمانيا في اندلاع الحرب العالمية الثانية في الفترة 1939-1945.

تجري محاولات نشطة للمساواة بين الفاشية والستالينية من خلال الاعتراف بتشابه الظواهر المحلية في ألمانيا والاتحاد السوفييتي، فضلاً عن تشابه أساليب إدارة ستالين وهتلر في أنشطة السياسة الخارجية.

أما الاتجاه الثاني لتزوير تاريخ الحرب الوطنية العظمى فهو يتعلق بفضح طابع الحرب باعتبارها حرباً شعبية وتحريرية ووطنية. ولتحقيق هذه الغاية، يبالغ المؤرخون الزائفون بحجم التعاون على أراضي الاتحاد السوفييتي التي احتلها المعتدون النازيون، ويصنفون الخونة للوطن الأم باعتبارهم “مجرمين عاديين فقط”. أو اعتبارهم مناضلين “من أجل استقلال شعوبهم، ومكافحون ضد النظام الستاليني”. ويفسرون أسباب ترحيل الشعوب السوفييتية على أنها “انتقام قام به النظام السوفييتي بسبب نضال هذه الشعوب من أجل التحرير الوطني”.

لا يزال النصر في الحرب الوطنية العظمى إحدى المسائل القليلة التي توحد روحيا وتاريخيا العديد من الناس في فضاء ما بعد السوفييتي، وليس فقط كبار السن ومتوسطي العمر، بل والشباب. ويتجلى ذلك في مسيرة ملايين الجنود الخالدين عبر مدن روسيا وغيرها من بلدان العالم في يوم النصر.

ولهذا السبب، نرى أن مهمة كل ساع الى الحقيقة التاريخية، تكمن في فضح الحقائق الأكثر فظاعة لتزوير نتائج الحرب الوطنية العظمى واستعادة العدالة التاريخية.  هنا ينبغي لنا أن نبدأ بالتاريخ ما قبل الحرب.

الدعم الغربي لهتلر بدأ قبل الحرب

     حتى يومنا هذا، لا يزال هناك اعتقاد سائد في أوساط المؤرخين الزائفين الليبراليين بأن وصول “نادل البيرة في ميونيخ” أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا كان “صدفة تاريخية”. ومع ذلك، تدل حقائق كثيرة ‘لى أن هتلر هو مشروع سياسي مشترك بين مجموعة من الدول والشركات والدوائر الصناعية والمالية في ألمانيا. لنذكِّر فقط، أنه في الأعوام التالية جرى الآتي:

  في العام 1929 حصل هتلر على 10 ملايين دولار من فرع بنك “ميلدينسون وشركاه” في أمستردام.

في العام 1930 حصل على 100 مليون مارك من مؤسسة الاتحاد المصرفي، و10 ملايين دولار من اتحاد روتيدام المصرفي؛

في أيار 1933، حصل رئيس الرايخسبانك، ج. شاخت، على قرض من الولايات المتحدة بمبلغ مليار دولار، وفي حزيران حصل أيضًا على قرض بمبلغ 2 مليار دولار من بريطانيا العظمى؛

في عام 1934، قامت شركة ستاندرد أويل الأمريكية ببناء مصافي نفط كبيرة في ألمانيا، ووفرت شركات الطيران الأمريكية المعدات التكنولوجية وبراءات الاختراع لبناء أحدث الطائرات، بما في ذلك طائرة يونكرز-87 (بلغ الاستثمار الرأسمالي الأمريكي المباشر في الصناعة الألمانية في عام 1930 ما قيمته 216.5 مليون دولار)؛

في عامي 1940 و1941، حصل هتلر على قرض من سويسرا بقيمة 315 مليون فرنك سويسري (إجمالي المبلغ حتى عام 1944، كان 980 مليون فرنك سويسري).

وهكذا، فإنه من عام 1934 إلى 31 أغسطس/آب 1939، بلغت النفقات العسكرية لألمانيا 60 مليار مارك، في حين بلغ إجمالي الميزانية 101.5 مليار مارك، أي أن 59.1% من ميزانية الدولة الألمانية ذهبت نحو الاستعداد للحرب.

وهنا لا بد من القول وبجرأة، إن الديمقراطيات الغربية شاركت بشكل فعال في اندلاع الحرب العالمية الثانية:

  • سنة 1930 اليابان تستولي على منشوريا؛
  • سنة 1931 بدأ الغزو الياباني لوسط الصين؛
  • سنة 1933 ، وقع على ميثاق الأربعة” (ألمانيا، إيطاليا، إنجلترا، فرنسا) ، وهي محاولة لإخضاع أوروبا بأكملها لهيمنتها، وعزل الاتحاد السوفييتي والدول الصغيرة الأخرى عن حل الشؤون الأوروبية؛
  • سنة 1934، وقعت معاهدة عدم الاعتداء بين بيلسودسكي وهتلر (بولندا وألمانيا)؛
  • سنة 1935 ، حصلت الاتفاقية البحرية الأنجلو-ألمانية، التي سمحت لألمانيا ببناء 5 سفن حربية، وحاملتي طائرات، و21 طرادًا، و64 مدمرة، و45% من حمولة قوات الغواصات البريطانية؛

تمكن هتلر، من خلال “استفتاء ديمقراطي”، من إعادة منطقة السَّار التي كانت قد أعطيت لفرنسا بموجب معاهدة فرساي؛

  • سنة 1936 نفذ هتلر عملية الاستيلاء غير الدموية على المنطقة منزوعة السلاح في راينلاند؛ ظهر حلف مناهضة الكومنترن (ألمانيا واليابان) – ضد الاتحاد السوفييتي؛ اعترف هتلر بنظام فرانكو الفاشي في إسبانيا، فأرسل إليه فيلق الكوندور (150 طائرة) ، و180 دبابة، و5500 رجل لدعمه؛ زاد عدد الجيش الألماني إلى 700-800 ألف شخص (14 فيلقًا عسكريًا، و4500 طائرة، و1500 دبابة) ؛
  • سنة 1938 نفذ هتلر عملية ضم النمسا. وفقًا لاتفاقية ميونيخ – وافقت إنجلترا وفرنسا على تقسيم تشيكوسلوفاكيا بين ألمانيا وبولندا والمجر (استولت بولندا على منطقة تيشن في المجر. في عام 1939 – تم الاستيلاء على أوكرانيا الكارباتية)؛ في 16 أبريل/نيسان، تم التوصل إلى الاتفاق الأنجلو إيطالي، والذي اعترفت بموجبه بريطانيا بسيادة إيطاليا على إثيوبيا المحتلة؛

وفي 30 يبتمبر/أيلول، أعلن عن معاهدة عدم الاعتداء بين إنجلترا وألمانيا؛  وفي 6 ديسمبر/كانون الأول إعلان مماثل لعدم الاعتداء بين فرنسا وألمانيا؛

  • في سنة 1939 ، انتزع هتلر “منطقة كلايبيدا” من ليتوانيا وسيطر على بقية تشيكوسلوفاكيا؛ واحتلت إيطاليا ألبانيا.

وكان ستالين على علم تام بما كان يحدث. وعندما وجد نفسه معزولاً، وأدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على حلفاء غربيين غير موثوق بهم، حاول “حماية قاعدته ووطنه” وسعى للرد على خيانة ميونيخ لإنجلترا وفرنسا.

في 23 أغسطس/آب 1939، وقع رئيس الوزراء السوفييتي مولوتوف ورئيس وزارة الخارجية الألمانية ريبنتروب اتفاقية بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا (اتفاقية مولوتوف-ريبنتروب). واتفقت الأطراف على عدم مهاجمة بعضها البعض والبقاء على الحياد في حالة وقوع عمل عسكري مع طرف ثالث.

ونتيجة لهذا الاتفاق، عاد الشعب البيلاروسي إلى عائلته الأصلية. كما تم إنشاء الدولة الأوكرانية الحديثة ضمن حدودها الحالية بفضل اتفاق مولوتوف-ريبنتروب.

وبموجبها، حصلت ليتوانيا على مدينة فيلنيوس، المنعزلة عن بولندا، والتي أُعلنت عاصمة للدولة الليتوانية.

واليوم يحاولون إقناعنا بأن ستالين، من خلال هذا الاتفاق، سمح لهتلر ببدء الحرب. ولكن فعليًا هذا محض افتراء! فعليًّا استوعبت ألمانيا النمسا واستولت على منطقة السوديت التشيكية التي تضم نسبة كبيرة من السكان الألمان. قبل ذلك، كانت الألزاس واللورين ممزقتين. كانت روسيا آخر من توصل إلى اتفاق مع ألمانيا في أوروبا.

لذلك، كان لزاما على الاتحاد السوفيتي توقيع الاتفاقية لكسب الوقت. “بفضل معاهدة عدم الاعتداء السوفيتية الألمانية، بدأت الحرب على مستوى استراتيجي أعلى.

حينها قالت وزارة الخارجية الروسية في بيان لها: “على الحدود المناسبة للاتحاد السوفييتي، تعرض سكان هذه الأراضي للإرهاب النازي بعد عامين، وتم إنقاذ مئات الآلاف من الأرواح”.

لقد تبين أن ستالين كان أكثر حكمة مما تصور أعداء الاتحاد السوفييتي، وفشلت الاستراتيجية الأنجلوساكسونية تماما. كل ما استطاعوا فعله هو “إظهار الوجه الطيب عندما كانت الأمور تسير بشكل سيء”. لقد فشلت محاولة تحميل الزعيم السوفييتي المسؤولية الكاملة عن المعاهدة السوفييتية الألمانية واندلاع الحرب (كما لو كانت ميونيخ وضم النمسا إلى ألمانيا مجرد تفاصيل ثانوية).

خلال كلمته في الجلسة العامة لنادي فالداي في 23  أكتوبر/تشرين الأول 2019، تطرق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى موضوع تقييم جوزيف ستالين وأحداث الحرب الوطنية العظمى. وأكد أن الجميع يعلم أن نظام ستالين كان مرتبطًا بالقمع، والمعسكرات، وفقدان المواطنين السوفييت نتيجة هذا القمع، ووصف الرئيس بوتين ما حصل بأنه “صفحة سوداء في تاريخ بلادنا”. “ولكن القول بأن ستالين هو الذي كان وراء الحرب هو دجل كبير كما قال.

بعض الحقائق عن النورماندي والانزال

     ليس الهتلريين والنازيين من دب فيهم الرعب بعد بداية التحول الاستراتيجي والجيوبوليتكي الذي فرضته معركتي ستالينغراد وكورسك، لكن الرعب و”الخوف من الحمر” كان له تأثير متناقض على الأحداث على الجبهة الغربية. بحلول شهر فبراير/شباط 1945، أصبح تقدم الحلفاء بمثابة نزهة في الواقع. كان ذروة الانتصار هو لقاء القوات السوفييتية والأمريكية على نهر إلبه بالقرب من تورجاو في 25 أبريل/نيسان، بينما سحقت قوات جوكوف وكونيف آخر المدافعين عن برلين. وبعد خمسة أيام، انتحر هتلر في مخبئه.

حتى هذه النقطة، كان تقدم الأنجلو ساكسوني غير متكافئ، على الرغم من تفوقهم الجوي الكامل وإمكاناتهم اللوجستية المتميزة. لقد كان الأمر صعباً حتى تحقيق الاختراق في أفرانش (30 يوليو/تموز 1944) وتصفية جيب فاليز- Falaise Pocket (16 أغسطس/آب)؛ سريعًا – حتى تحرير باريس (25 أغسطس/آب) وبروكسل (3 سبتمبر/أيلول)؛ توقفت الحرب العالمية الثانية بشكل كامل بعد الفشل الكارثي للعملية البريطانية في أرنهيم، والتي أدت إلى غرق هولندا في المجاعة وعرضت الهولنديين لتسعة أشهر من الانتقام الوحشي من قبل الألمان؛ وأخيراً تعرضت لتهديد هجوم مضاد قصير ولكنه مثير للإعجاب في آردين في 16 ديسمبر/كانون الأول 1944 (“رمية النرد الأخيرة لهتلر”). ويصبح هذا التقدم سريعًا مرة أخرى في نفس اللحظة التي يعبر فيها الروس نهر فيستولا – في منتصف يناير/كانون الثاني 1945.

في حين يبدأ سكان ألمانيا الشرقية هروبًا يائسًا إلى الغرب، وتموت آخر الوحدات المنظمة من الفيرماخت على الفور، وتغطي انسحابها، تستسلم ألمانيا الغربية حرفيًا للأميركيين.

السلام الأمريكي

     إن هذا النصر الأخلاقي الذي حققته الولايات المتحدة، والذي أرسى أسس السلام الأمريكي بعد الحرب، لا يشكل سبباً كافياً لنسيان الدور الحاسم الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في هزيمة ألمانيا النازية. ولا يتعلق الأمر بالجيش فقط، بل يتعلق في المقام الأول بالمقاومة العنيدة للشعب الروسي بأكمله. وحتى، نجرؤ على القول، “روسيا الأبدية”، التي أيقظها ستالين من خلال إعادة فتح الكنائس بعد وقت قصير من بدء عملية بارباروسا.

وبطبيعة الحال، فإن التاريخ لا يتسامح مع صيغة الجمع. ومع ذلك، ونظراً للصعوبات التي واجهتها القوات الأنجلو أمريكية في الأسابيع الأولى بعد إنزال نورماندي، فليس من الصعب أن نتخيل ما كان سيحدث لو لم تكن أكثر فرق الفيرماخت جاهزية للقتال (ثلاثة ملايين رجل) قد هُزمت بالفعل على الجبهة الشرقية منذ عام 1941. وسوف يموت مليون آخرون في الأشهر الأخيرة من الحرب، مع خسائر بلغت ذروتها بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان 1945 – ما يصل إلى 10 آلاف قتيل يومياً!

ومع ذلك، تظل الحقيقة أن الدولة التي ضحت بـ 15% من سكانها – 25 مليون شخص من أصل 168 مليونًا (وفقًا للبيانات السوفيتية الرسمية – 26.6 مليونًا) – لهزيمة الرايخ الثالث، يتم إبعادها من الذاكرة الجماعية في ثلاثة أجيال لصالح دولة أخرى ضحت بـ 0.3 % فقط من سكانها (420 ألف قتيل من أصل 131 مليون أمريكي)، على الرغم من أنها أصبحت ترسانة ومصرفًا لجميع أعداء الرايخ … كما استفاد الاتحاد السوفيتي من هذه المساعدة، وحصل على 23 % من إجمالي المساعدات الأمريكية للحلفاء. ولكن هذا لا ينبغي أن يحجب المساهمة الحاسمة في النصر النهائي التي قدمتها “الهجمات العملاقة” التي شنها الاتحاد السوفييتي في عامي 1944 و1945 (باغراتيون ثم عملية فيستولا-أودر)، والتي لم تقتصر على تقييد وتدمير أفضل وحدات الفيرماخت في الشرق فحسب، بل شملت أيضاً تدمير البنية التحتية الحيوية في البلاد. وهي تشهد  على تفوق الفن العملياتي السوفييتي على الاستراتيجية الألمانية، التي اقتصرت على الحرب الخاطفة، وعلى النهج الأنجلو ساكسوني، الذي لم يكن منفصلاً عن القصف السجادي… والذي كان مدمراً بشكل خاص للسكان المدنيين (70 ألف فرنسي ماتوا تحت قنابل “محرريهم” – أي ما يقرب من ضعف عدد البريطانيين الذين ماتوا في عامي 1940 و1941).

ورغم أن نتيجة الحرب كانت في الواقع محسومة بيد الحلفاء، فإن آلة الحرب الألمانية دمرت فعلياً ونهائياً في الشرق وليس في أي مكان آخر. على الجبهة الغربية، هُزمت ألمانيا بسبب الإرهاق – بعد الهجوم المضاد في آردين، تم تدمير القوات الجوية الألمانية بالكامل، ولعب النقص المتزايد في الوقود دورًا أكثر حسمًا من تكتيكات الحلفاء. ولم يكن القصف الاستراتيجي الذي شنته القوات الجوية الأميركية وسلاح الجو الملكي البريطاني هو الذي أدى إلى انهيار الصناعة العسكرية الألمانية.

هل من المعروف، على سبيل المثال، أنه في عام 1944، عندما تحولت مصانع الأسلحة التابعة للرايخ إلى أنقاض، أنتجت مجمعات الإنتاج الموجودة تحت الأرض أسلحة أكثر بسبع مرات مما أنتجته في عام 1942 ــ عندما كان الرايخ ينتصر على جميع الجبهات؟ وكان انهيارها، بالإضافة إلى الخسائر البشرية، ناجماً عن استنزاف واستنفاذ موارد الطاقة: بعد أن استولى الجيش الأحمر على حقول النفط في رومانيا (سبتمبر/أيلول 1944)، ثم المجر (فبراير/شباط 1945)، ثم حوض الفحم في سيليزيا العليا الذي كان يغذي أفران الصهر في منطقة الرور. وعندما سقطت في أيدي الحلفاء في مارس/ آذار 1945، كان عملها قد توقف بالفعل.

 كان هذا النقص في الطاقة نفسه على وجه التحديد ــ لا يقل،  وربما أعظم، من الآثار  النفسية لقصف  هيروشيما  (6 أغسطس/آب 1945)  وناجازاكي (9أغسطس/ آب) ــ هو الذي أجبر اليابان على الاستسلام في الثاني من سبتمبر/ أيلول 1945. وبدءاً من نقطة التحول في معركة ميدواي (يونيو/حزيران 1942)، لم يستعيد الأميركيون معظم الأراضي التي احتلتها اليابان في المحيط الهادئ فحسب، بل دمروا أيضاً أسطولها التجاري، الذي سمح لها بتزويد نفسها بالفحم والنفط.

ولعل حقيقة أن الولايات المتحدة هي التي أنهت الحرب العالمية الثانية بالنيران النووية كانت بالفعل جزءاً من الاستراتيجية التي سمحت لها بالظهور أمام الرأي العام باعتبارها المنتصر الرئيسي.

ورغم ذلك كان بإمكان الجيش الأحمر أن يهزم ألمانيا النازية حتى بدون عمليات الإنزال التي قام بها الحلفاء في نورماندي وفتح جبهة ثانية.

فتح الجبهة الثانية والمماطلة

     بدأت المناقشات حول فتح جبهة ثانية أو أشكال أخرى من المشاركة الفعالة للحلفاء الغربيين في المعارك ضد الرايخ الثالث مباشرة بعد هجوم ألمانيا على الاتحاد السوفييتي. وعلى وجه الخصوص، كتب ستالين رسالة إلى تشرشل اقترح فيها النظر في إمكانية إنزال القوات البريطانية في المناطق الشمالية من الاتحاد السوفييتي. ولكن كما نعلم، هذا لم يحدث. ومع تطور الأحداث على الجبهة السوفيتية الألمانية، بدأت موسكو تصر بشكل خاص على إنزال قوات الحلفاء الغربيين في فرنسا، بحيث تتحرك جبهتا قوات التحالف المناهض لهتلر تجاه بعضهما البعض.

في 23 يونيو/حزيران 1944، شنت قوات الجيش الأحمر عملية الهجوم البيلاروسية “باغراتيون” – وهي واحدة من أكبر العمليات في التاريخ.

وكان النقاش طويلاً وصعباً للغاية. كان الحلفاء الغربيون يقولون باستمرار إنهم غير مستعدين، وإنهم يفتقرون إلى القدرات والقوة والتمويل والأفراد وزوارق الإنزال. ومع ذلك، واصل الاتحاد السوفييتي الإصرار على موقفه، وخاصة خلال المفاوضات بين ممثلي التحالف المناهض لهتلر في سبتمبر/ أيلول -ديسمبر/كانون الأول 1941.

على أية حال، خلال معارك موسكو، وستالينغراد، وكورسك، ومعركة نهر الدنيبر، صد الاتحاد السوفييتي نفسه الهجوم الرئيسي لقوات التحالف الهتلري، الذي ألقى بثلاثة أرباع إلى أربعة أخماس قواته إلى الشرق.

لماذا وافق الحلفاء أخيراً، بعد مفاوضات طويلة، على فتح جبهة ثانية في عام 1944؟

     كان من المهم بالنسبة للحلفاء الغربيين أن يفتحوا جبهة ثانية بالكامل في وقت كان الوضع فيه آمناً نسبياً، ولكن قبل أن يدخل الجيش الأحمر المراكز الأوروبية الرئيسية. وبحسب تشرشل، ينبغي أن تبقى برلين وبراغ وفيينا تحت السيطرة الغربية. ولذلك أرادت لندن فتح جبهة ثانية وفق ما يسمى بخيار البلقان، وذلك من أجل تطوير هجوم في منطقة يوغوسلافيا، وقطع الطريق أمام الجيش الأحمر من الشمال إلى الجنوب، ومنعه من دخول أوروبا. ولكن لم يكن من الممكن الحصول على موافقة روزفلت على هذا الخيار.

خلال الزيارة التي قام بها مفوض الشعب للشؤون الخارجية في الاتحاد السوفييتي فياتشيسلاف مولوتوف إلى لندن وواشنطن في ماي/أيار ويونيو/حزيران 1942، أثيرت مسألة فتح جبهة ثانية بشكل مباشر. وعد روزفلت بأن الحلفاء الغربيين سوف يبذلون كل ما في وسعهم لفتح جبهة ثانية في وقت مبكر من عام 1942. لكن تشرشل كان ضد ذلك. اعتبر رئيس الوزراء البريطاني أنه من غير المستحسن اتخاذ أي خطوات حاسمة قبل أن يتضح بشكل كامل كيف ستنتهي المواجهة بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي. ولذلك لم يتم فتح الجبهة الثانية لا في عام 1942 ولا في عام 1943. هناك رواية تقول إن ستالين أخبر تشرشل في المفاوضات في موسكو في أغسطس/آب 1942 أن الروس لم يكونوا خائفين من القتال ضد الألمان، ولكن البريطانيين، على ما يبدو، كانوا خائفين، وأن الألمان لم يكونوا مخيفين كما بدوا.

  خلال معركة كورسك، أدرك الحلفاء الغربيون تمام الإدراك أن الاتحاد السوفييتي قادر على هزيمة ألمانيا بمفرده ودخول أوروبا. ولذلك، في مؤتمر كيبيك الذي عقد في أغسطس/ آب 1943، اتفق ممثلو الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى من حيث المبدأ على فتح جبهة ثانية. في تلك اللحظة سمعت للمرة الأولى عبارة “ماي/أيار  1944”. حتى أن الحلفاء فكروا في إمكانية نقل القوات بشكل عاجل إلى أوروبا في حالة الانهيار السريع لألمانيا (تحت هجوم الجيش الأحمر)، بغض النظر عن الخسائر والتكاليف. وكانت الأهداف الجيوسياسية التي وضعوها بعد الحرب والسيطرة على العالم مهمة للغاية بالنسبة لهم.

وفي مؤتمر طهران، مارس ستالين ضغوطاً على حلفائه الغربيين، ولم يكن أمامهم خيار سوى الوعد بفتح جبهة ثانية في عام 1944 في مكان يناسب الاتحاد السوفييتي.

– لقد تمت مناقشة موقع الهبوط المحدد من قبل الحلفاء لفترة طويلة. واقترح البعض أيضًا النزول أولاً في جنوب فرنسا، ولكن في النهاية وافق البريطانيون والأميركيون على القيام بعمل مشترك على الساحل الفرنسي الشمالي.

كانت هناك ثلاث نقاط هبوط محتملة: مضيق با دو كاليه، ومنطقة بريتاني، ونورماندي.

كان الخيار الأول هو الأكثر ملاءمة من الناحية اللوجستية وتنظيم الإنزال، لكن الألمان كانوا يتوقعون هجومًا من هناك، وهناك كان لديهم أقوى دفاع. لقد كان من الممكن أن يستغرق نقل القوات الاستكشافية إلى بريتاني وقتًا طويلاً. ولهذا السبب استقروا على نورماندي. علاوة على ذلك، قام الحلفاء بأنشطة تضليل إعلامي نشطة حتى يعتقد الألمان باحتمالية إنزال على ساحل با دو كاليه. وكانت هذه الحملة ناجحة.

أرادوا أن يبدأوا عملية الإنزال في الخامس من يونيو/حزيران. وقبل هذا التاريخ بقليل تحول الطقس إلى سيئ. تم إلغاء العملية. ولكن في اللحظة الأخيرة، توقع خبراء الأرصاد الجوية أن الطقس سوف يتحسن لفترة وجيزة، وتم تحديد العملية بشكل عاجل في 6 يونيو/حزيران1944.

 كان الاسم الرمزي للهجوم بأكمله في فرنسا هو “أوفرلورد”، وكان الإنزال في السادس من  حزيران هو عملية نبتون. بلغ العدد الإجمالي للقوات المتحالفة الغربية التي كانت تنوي فتح جبهة ثانية 2.9 مليون جندي. تم تخصيص حوالي 156 ألف شخص، بما في ذلك القوات المحمولة جواً، للإنزال والاستيلاء على رأس الجسر في اليوم الأول من العملية. كان من المفترض أن يقوم المظليون بتفكيك مؤخرة العدو. حصلت طائرات القاذفات والمقاتلات التابعة للحلفاء على التفوق الجوي الكامل. كانت شبكة المطارات الألمانية بأكملها في منطقة الهبوط غير منظمة. وهكذا بدأت أكبر عملية إنزال في تاريخ أوروبا.

وشهدت منطقة با دو كاليه ومدينة بريست (مدينة في شبه جزيرة بريتاني الفرنسية) إضرابات احتجاجية. لقد لعبوا دورهم. ولم يفهم الألمان على الفور المكان الذي كانت تنزل فيه قوات الحلفاء الرئيسية. وبعد تأخير كبير أصدر هتلر الأمر ببدء نقل القوات إلى نورماندي من أجزاء أخرى من فرنسا.

كان يوم إنزال نورماندي يومًا دمويًا بالنسبة للحلفاء الغربيين. ورغم عنصر المفاجأة والحملة الناجحة لتضليل العدو، فقد خسروا، بحسب مصادر مختلفة، نحو 10 آلاف جندي. ونتيجة للظروف الجوية الصعبة والافتقار إلى الخبرة في إجراء مثل هذه العمليات، قُتل العديد من القوات المحمولة جواً، أو أُسروا، أو أُجبروا على العمل بشكل منفصل عن القوات الرئيسية.

علينا أن نعترف بشجاعة قوات الحلفاء وحقيقة أنهم تمكنوا من تحقيق بعض النجاح من خلال الاستيلاء على رأس جسر على ساحل فرنسا. ومع ذلك، توقعت القيادة الأنجلو أمريكية في البداية أن قوات الحلفاء سوف تتقدم على الفور إلى مسافة أبعد.

من الضروري أن نفهم أنه في وقت فتح الجبهة الثانية، لم يكن هناك في كل أوروبا الغربية، بما في ذلك فرنسا، سوى حوالي خُمس القوات التي كانت لدى ألمانيا. كانت الأغلبية المطلقة من القوات الألمانية تقاتل على الجبهة السوفيتية الألمانية. بالإضافة إلى ذلك، في فرنسا، حافظت القيادة الهتلرية على وحدات ذات جاهزية قتالية منخفضة. كان يخدم هناك شباب كبار في السن عديمي الخبرة. تم نقل الوحدات التي عانت من خسائر فادحة في الشرق إلى هناك للتجديد والراحة. في فرنسا، لم يكن الألمان يمتلكون أحدث الأسلحة وكان هناك نقص حاد في المعدات العسكرية.

لو أتيحت للألمان الفرصة لنقل وحداتهم النخبة من الجبهة السوفيتية الألمانية، فإنه يعتقد أن الحلفاء لم يكونوا قادرين على تحقيق نجاحهم في فرنسا. لكن القيادة السوفييتية، تنفيذاً لالتزاماتها الائتلافية تجاه الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، بدأت في تنفيذ العمليات الهجومية الاستراتيجية في بيلاروسيا وياسي كيشيناو في صيف عام 1944.

حصل الاتحاد السوفييتي على فرصة التفاعل المباشر مع حلفائه في مجال تنسيق العمليات العسكرية في أوروبا. نحن نهاجم من الشرق وهم من الغرب. ومع ذلك، لعب الجيش الأحمر دورا حاسما في هزيمة ألمانيا النازية. وبحسب أغلب المؤرخين الروس، الذين يعتمدون على الحقائق والأرقام، فإنه حتى لو لم تحدث عمليات إنزال نورماندي، فإن الاتحاد السوفييتي كان سيحقق النصر على الرايخ الثالث، وكانت وحدات الجيش الأحمر ستصل إلى القناة الإنجليزية. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن عمليات إنزال الحلفاء في نورماندي جعلت نهاية الحرب أقرب. صحيح أنه لو أن الحلفاء، كما طُلب منهم ووعدوا، نزلوا في فرنسا عام 1942، لكان الهتلرية قد سقطت قبل ذلك، ولكان العالم قد تمكن على الأرجح من تجنب مقتل عشرات الملايين من المدنيين الأبرياء وأسرى الحرب. ولكن إنجلترا والولايات المتحدة لم تفعلا هذا، استناداً إلى الاستراتيجية التي وصفتها في وقت سابق.

رغم عرض هذه الوقائع يبدو وكأن العالم لم يتعلم من تجربة مآسي الحرب..

 لعل التاريخ يعلمنا أن الحروب الكبرى لا تندلع فجأة، بل غالبًا ما تكون نتيجة لتراكمات طويلة من التوترات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وغالبًا ما يتسارع الزخم نحو الصراع عندما توجد تحالفات معقدة، نزاعات إقليمية، وصراعات أيديولوجية. قد لا نكون أمام حرب عالمية ثالثة بالمعنى التقليدي لهذه العبارة كما حدث في الحربين العالميتين السابقتين، ولكننا نشهد تزايدًا في التوترات الجيوسياسية التي قد تؤدي إلى صراعات واسعة النطاق إذا لم يتم السيطرة عليها.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الروسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!