المسرح والرقية الشرعية
نجيب طلال
التشخيص:
مبدئيًا، ندرك بأن أغلبية المسرحيين لا تعجبهم أفكارنا ولا طروحاتنا (حق مشروع)؛ لأنها لا تنسجم مع أهوائهم وأهدافهم. هي ليست متطرفة، بل خارج منظومة اللوبيات المسرحية، والعصابات الانتهازية، وبعيدة عن مساطر الإملاء والانضباط المصلحي. لكن الأروع، وما يزيدنا افتخارًا، هو المضي في نهجنا؛ لأنهم يتخوفون، نعم يتهيبون من مجاراتنا ومحاولة دحض معطياتنا، ومما لم يستطع أحد لحد الآن أن يجارينا سواء عبر التفنيد أو الجدل الأدبي والأخلاقي.
ولهذا لم يحاول ولو من له غيرة على “مسرحنا” مناقشة ما أشرنا بقوله: (المسرح في المغرب يحتاج للرقية الشرعية) (1). فالتدوينة ليست مزحة أو تفكُّهًا أو تزجية فراغ في [فيسبوك] كما يفعل العديد(!). وهؤلاء شخصيًا أسميهم مراهقو فيسبوك (2). ولكن الإشكالية أن “المراهقة” طفحت بكيلها في شتى المجالات، بخلاف ما كنا نعرفه في علم النفس التربوي بأنها مرحلة من مراحل العمر التي تعقب الطفولة وتسبق سن الرشد. وبالتالي فالمراهقة، التي هي أساسًا حالة ذهنية وليست مرحلة عمرية كما يتوهم العديد من العباد، أصابت ما هو فكري وفني، واستفحلت بشكل غير مسبوق، مما أوقع انزلاقًا رهيبًا نحو ما يسمى (الهاوية) واضطرابًا في البنى الاجتماعية.
نتيجة عدة عوامل أبرزها الفوضى الخلاقة كرؤية استراتيجية للدول الغالبة، نحو المغلوبة، التي لا تحاول ممارسة الممانعة والمقاومة لبناء شخصية مستقلة رصينة، غير قابلة للاختراق. سندها الأساس ليس السياسي بل الثقافي، باعتباره العامل الأقوى والأجدر في تحصين البنية الثقافية والإمساك بالهوية كقاعدة اعتماد. لكن الإشكالية التي تمظهرت في العقود الأخيرة، فبدل التطور نحو الأجود والناجع، حدث انهيار مكشوف لثقافتنا، بناءً على تمظهر “مراهقات” مختلفة النوع والنوعية، من بينها المراهقة الفكرية والفنية الممزوجة بظاهرة الفوضى الخلاقة. فيوميًا نستيقظ على أخبار فضائح مثيرة للدهشة أو مثيرة للسخرية (غالبًا) محورها إما أخلاقي أو مالي (؟).
ولكن لنركز محور النقاش على مجالنا [المسرح]. فبعد استفحال الريع والدعم الذي سينقضي بانقضاء المهام الموكولة لصناع تدمير ماهية الإبداع وجماليته، انزلق مسرحنا في منعطف المراهقة الفكرية والفنية. ولم يستطع الوصول لعتبة الحكمة والإنتاج الفعال كما كان سلفًا؛ رغم الإمكانيات والإمكانات الضعيفة جدًا. وما يثبت قولنا: فالمسرح في المغرب (حاليا) يمر بمرحلة خطيرة وشديدة الخطورة، وهذا نتيجة الانحدار الفكري والإبداعي. دافعه المراهقة الفكرية والفنية، بحيث أضحينا نلمس هذا بجلاء في كل دورة من المهرجان الوطني للمسرح، الذي لا نعرف هويته ولا سرديته لحد الآن، وفي أي إطار هو: هل في برواز [الاحتراف أم الهواة أم الشباب أم طلبة المعهد أم جمعية خريجي المعهد..]؟
هذا السؤال: “إنه يمثل الإحساس العام والواقع الملموس لأزمة المسرح الذي يشبه في هذه الأيام بطل مسرحية “المرحوم” لـنوشيتش، فقد نفر مما رآه في محيطه مستهجنًا مستنكرًا، فغادر المكان” (3). ولكن أغلبية المسرحيين عندنا لم يغادروا (المكان) بل يمارسون الهمس والوشوشة الشبيهة بوسوسة “الشيطان”، وخاصة بعد كل عرض مسرحي، والأمر لا يتعلق بهذه الدورة ففي كل الدورات التي تقام بمدينة (تطوان).
إذ الأغرب أنهم لم يكلفوا أنفسهم تحليل الأعطاب والخلل الكامن في (أي) تظاهرة، ناهينا عن عدم قراءة وتفكيك [العروض] كما كانوا يفعلون زمن مسرح (الهواة/التجريبي). والسبب يكمن في [الغنائم/الثروة/الدعم] التي تـشل الفكرة لتحضر السكرة، التي تذوقها (حتى) بعض النماذج التي لا يعرفها “ديونيزوس”. فمارسوا (النقد) تجاه بعض العروض المبطن بالمدح والتزلف، ولم يكونوا صادقين مع مرامي النقد ودوره الفعال في الحياة المسرحية، بل صادقين مع مصالحهم الشخصية، ولن نقول الانتهازية (؟). وكيف لا: “وأن جنون الثروة التي ظهرت على أرض الواقع وفي قلب المجتمع هي التي أجبرت فن المسرح على أن يغير من أسلوبه وسياسته. لقد قضت على التراجيديا وجعلت فن الكوميديا يلاحق جنونها في كل تصرفاتها الخرقاء والمذلة لإنسانية الإنسان وقيمه الرفيعة” (4).
حبذا لو كانت (تلك) العروض ذات طابع كوميدي (تجاوزًا)؛ لأن عروض المهرجان الوطني عمليًا نعتبرها زبدة الموسم. فعلى الأقل تكون متميزة إبداعًا وفكرًا وجمالية. لكن فبعد كل عرض ندخل في حالةٍ من الشك المنهجي أمام الثوابت والمسلمات الأولية لماهية المسرح؟ نصوص غير أصيلة وغير متينة البناء ولا أرضية لها سواء فلسفيًا أو إيديولوجيًا (؟). إخراج يتوارى وراء (دراماتورجيا) بطابع غير علمي ولا إبداعي، حاملًا تصورات وأفكارًا هشة، في الغالب لا تكون منسجمة مع السينوغرافيا (؟). وهذا لم ينتبه إليه أحد تقريبًا، وبالتالي لا يمكن أن تصمد فنيًا ولا تترك أثرًا جماليًا يُذكر. والمفارقة أن هنالك طاقات خلاقة ومدهشة في التشخيص والإلقاء، ولكن المؤسف تضيع في مصاف المراهقة الفكرية والفنية.
ولهذا فالذين يمدحون أعمال المهرجان – بالتأكيد – ينافقون أنفسهم وينافقون ماهية النقد الأصيل والمرتكز على مناهج دقيقة، طبعا مرفقة بالذوق والتفاعل الخالص.
لنتفق أن عروضنا لامنهجية ولا رؤية لها، بقدر ما هي أشكال متعددة، تستتر وراء أنماط مختلفة. وغير مضبوطة: تارة يقال إنها تلامس مربع ما بعد الحداثة؟ مفهوم يُهدر المصطلحات والمفاهيم، ولكنه يخفي خلف واجهته آفة تهدم الإبداع. ومرة يُشاع أنه هنالك ثياب التجديد ومواكبة الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة (هولوغرام/hologramme). فهل المسرح في المغرب استطاع أن يؤسس على الأقل “دراما” عاشقة ومدهشة (؟) لكي نستطيع تجاوزها لما بعد الدراما؟ (تلك) أوهام مدرجات وتصورات غربية، تساهم في تهريب الهوية، لتصبح هوية مبتذلة وليست هاربة مؤثرة في الهويات الأخرى.
فالمسرح الذي يسترسل السب والقذف الزنقاوي بشكل متكرر! وتوظيف ألفاظ المراحيض والحانات والمواخير بشكل هابط! أيُعَدُّ خطابًا جماليًا/أدبيًا/فنيًا؟ فالذي يتعرى ويبقى بتبانه (السليب) أمام جمهور مختلف الرؤية والتكوين التربوي، أيُعتبر إخراجًا (؟). والذي لا يعرفه أغلب المسرحيين فالمجتمع “التطواني” لا يزال محافظًا بنسبة عالية، وكُلّ (أي) نعم كُلّ مساجدهم عامرة بالمصلين بشكل يومي: هنا أين الدراماتورجي/السوسيولوجي (؟). وتلك التي تُظهر لحمياتها (النهود) لخلق الإثارة الجنسية أيُعدُّ عرضًا؟ فهل الرقص غير المنسجم مع بلاغة الجسد ولا ببلاغة العرض، ولا بالإيقاع العام. رقص مجاني/تافه/عشوائي/ أيُعدّ إخراجًا؟ هل يجوز مشاركة “ممثلة” في ثلاث عروض في المسابقة؟ وسينوغراف مشارك في عرض وعضو لجنة التحكيم؟ ومدير المهرجان مشارك بعرض مسرحي؟ ورئيس لجنة التحكيم يبرمج كتابه لقراءته؟ ومؤلف يشارك بعملين في المهرجان؟… أين الضبط والمهنية هاهنا وأين الاختصاص وأين روح المشاركة الصادقة؟ وهل حضور الخمرة في جل العروض (يعتبر) إبداعًا ونموذجًا حداثيًا لمسرح حداثي؟ إنها مراهقة أبناء الحواري (؟)؛ لأن الأفكار حالة ملازمة لسلوك الإنسان ولا يكاد يقف عن إنتاجها بتغير الموقف والظروف. وفي إطار الحديث عن نتاج فني يعني أن هناك تعبيرًا ما يعكس طبيعة التفكير ومستواه الذي عادة ما يختلف حَسب نمط التعبير وتأثيره، سواء الذاتي أو البصري أو ما بينهما. وبالتالي فالمراهقة الفكرية والفنية بالكاد تقلل من قيمة قوة المجتمع، والمسرح مرآته بصيغة الفعل وليس بالتنظير المدرسي.
وهذا ناتج عن ضعف المسرحيين وفشلهم، وعدم قدرتهم على التفكير الخلاق والمبدع المنبعث من الواقع المتخيل والمعاش. هذا ما يقود المسرح إلى الفراغ الإبداعي وإلى الفراغ الروحي للممارس في حد ذاته. فروح المسرح “الجمال” وليس طيش الفكر واستحضار جنون العظمة التي أصيب بها “البعض” أو أهواء نفس مريضة اخترقت البعض الآخر؛ الذي توهم القدرة على البحث والكتابة والإخراج في مسائل مجتمعية تفوق مقدرته الفنية والإبداعية والمعرفية.
نحن هنا لسنا فقهاء ولا من رجال الدين، أو من مريدي الشيخ “ابن تيمية”، بل من مريدي مسرح خلاب يحدث فينا إحساسًا جماليًا، مسرح يعمق فينا مشاعر الدفء الإنساني، فعل درامي يشعرنا بانتظام الحياة رغم قبح الواقع، مسرح له عطاء يسمو بنا نحو دنيا التأمل العقلي والوجداني في أبعاده الأربع (الجمالي/الإيديولوجي/المعرفي/التفاعلي). فلا كتابة ولا إبداع بدون استجابة، ولا فكرة بلا رؤية. ولهذا فلا غرو أن نؤمن سويًا بأن: “الفنان جائع للحياة في كل أشكالها من الطعام إلى الأحلام، إن الفنان يأتي إلى الدنيا جائعًا سعيدًا، مندهشًا. فهو أشبه بذلك المسافر الذي قرع ذات ليلة باب قصر شبحي” (5) ليتحداه من أجل ابتكار أساليب لنشر الوعي وتطوير وتقوية الثقافة المسرحية، وخلق إبداع يهم المجتمع الإنساني بغرض النقد البناء والإصلاح وتقديم الحلول للمعضلات التي تقهر المستضعفين من جهة. بدل السقوط في براثن الإسفاف الفني والانغماس في المراهقة الفكرية والفنية، واللهاث نحو أوهام “الدعم”: “إذ أن حيازة الثروة ممن لا ثروة أدبية عنده يعني المزيد من طرح القيم الزائفة الفاسدة المفسدة التي تداعب المشاعر الغريزية وتخلق وضعًا مأزومًا يحول هذه القيم إلى قيم براغماتية واقعية، فينخرط الأفراد في نشاط محموم لتحقيقها، وبذلك تحل الصيغة البراغماتية في الحياة محل الصيغة الأدبية” (6).
فتوى العلاج:
ففي هذا الباب لا يعتقد أي قارئ “مفترض” أنني أتناقض في أطروحاتي، فالأمر ليس دعويًا بل محاولة علاجية بالأساس، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مسرحنا الهجين.
ولهذا فالحمد لله الذي كان له ما كان ويكون أما بعد: فلما كان المسرح من ألذ الفنون وأنفعها وكان كثير من الأنام يرغبون في معرفته وفهمه ومحاولة ممارسته، وهم متهيبين من الركح ومن استهجان الجمهور تجاه تشخيصهم. لكن وقع ما وقع بأيدي وأفواه “المسرحيين” الذين هم الآن يهمسون ويتذمرون أمام ما تختاره (لجَن) انتقاء العروض المسرحية، سواء للدعم أو الترويج أو المشاركة في المهرجان الوطني. ألا يحق البحث عن وصفة علاجية تجاه ما يقع نتيجة المراهقة الفكرية والفنية التي رغم أنها ضرورية في حياة الفرد إلا أنها خطيرة في مجال المسرح والفنون؛ لأنها تخلق اضطرابًا مستمرًا يتحول بتوالي الدورات إلى آفة. وللحقيقة فمسرحنا أمسى [آفة] يحتاج للعلاج. مادام هنالك مسُّ بجنون الثروة. وبما أن هنالك العديد من المسرحيين المصابين بمسّ (الدعم/الثروة) لا يمكن معالجتهم إلا بالرقية الشرعية، فسماحة الشيخ ابن باز يقول: “الرقية تكون بالقرآن وبالدعوات الطيبة هذه الرقية، مع رجاء أن الله يتقبل وينفع بها فينفث عليها بريقه” (7).
طبعًا هناك من القراء المفترضين سيعلن أننا نهلوس، ونحن الذين نحتاج للرقية الشرعية (!) باعتبار أن هنالك اختلاف بين المسرح والرقية؟ أكيد اختلاف من حيث الشكل، أما من حيث الجوهر فأصل المسرح “الدين”، ولهذا فالتداوي مستحب بالأدوية الشرعية المباحة، مرتكزها القرآن الكريم كشفاء:
لأن ثمة شيئًا واحدًا يعرفه أغلب المسرحيين معرفة أكيدة، وهو أنهم يخونون المسرح ويفرغون روحه: “ولا عجب اليوم إذا رأينا الأدب يتقلص وينحصر في زاوية ضيقة. إن المسرح بشكل خاص يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة. لا عجب في ذلك فنحن في أوج جنون الثروة” (9). وهذا الجنون أو المسّ نحو (الدعم/الثروة) الذي ميع نبل الفن المسرحي؛ وسفّه أهدافه ومقاصده. لا يمكن ردعه إلا بالرقية الشرعية. لأن الله تعالى قال بقوله الصادق:
الاستئناس:
1- جدارية – فيسبوك – بتاريخ 5/12/2025
2- انظر لمقالنا – مراهقو فيسبوك – في مجلة: مدارات ثقافية بتاريخ 12/12/2020
3 – حديث الفاجعة – دراسة في مسرح جنون الثروة: لحنا عبود -: ص5 منشورات اتحاد الكتاب العرب/2000
4- نفسه – ص 7
5- آفاق الفن: للأكسندر أليوت – ت/ جبرا إبراهيم جبرا ص9 المؤسسة العربية للدراسات والنشر – ط3/1982
6- حديث الفاجعة – ص11/12
7- انظر لفتاوى ابن باز في إسلام ويب
8- سورة فصلت الآية الكريمة -44
9- حديث الفاجعة – ص16
10- سورة الإسراء – الآية الكريمة -82
