خيانة المثقف المغربي لمادته الرمادية

إسماعيل طاهري
يكتب لي أن أزور صفحات بعض المثقفين المغاربة على الفيسبوك ولا أجد تفاعلا مع الواقع الذي يعيشونه حتى مجال تخصصهم العلمي والثقافي لا يتحدثون فيه الا اذا كانوا موضوعا له أو شاركوا فيه أو حضروه.. لا يعلقون لا يتناقشون لا يتساءلون…ومعظمهم من المثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي.. لذاك لا ينطلق عليهم ما قاله عبد الحليم حافظ:
الرفاق حائرون.يتساءلون…
إنهم ينتظرون مكالمة من الجهات العليا لتولي منصب…أوتعميد على رقاب الجهات الدنيا في مؤسسة عمومية، أويحلمون بتطويبهم تحت أعتاب السدنة.. فالجري وراء الرتبة وخارج السلم يعمي الأبصار ..لا يدونون “حذر الموت”..لقد أضحوا حملا وديعا بوعي أو بدون وعي..
***
مناسبة هذا الكلام وهو صمت المثقفين المغاربة عن الردة الحقوقية.. ومس الحريات الفردية والجماعية في واضحة النهار وبعض الأحيان بالصوت والصورة وأحيانا أخرى على المباشر.
مناسبة هذا الكلام هو صمت المثقفين المغاربة عن الغلاء القاتل لهم كطبقة وسطى والماحق للطبقات الدنيا التي تحتهم، والعجيب أن النار تشتعل في تلابيبهم وهم لا يشعرون.. لا يفكرون الا في النجاة لوحدهم ولو ذهب الشعب الى الغرق في الطوفان..
مناسبة هذا الكلام هو صمت المثقفين عن الحراكات الاجتماعية في الريف وجرادة وزاكورة والحركات الشعبية ضد قادة النموذج التنموي والمغرب الأخضر…..
مناسبة هذا الكلام هو عيش المثقفين على هامش الأحزاب الديمقراطية والنقابات العمالية الجادة. لذاك وبسببه، أضحت كلمة إضراب تقض مضجعهم..فالإقتطاع من الراتب والإنذار والتنبيه أقسى عليهم من تهديدات سيدنا عزرائيل…
لا يكتب المثقفون الا عن جلساتهم المخملية في المقاهي الفارهة والمطاعم الفاخرة وتجديد طاقة التجلي في زرقة البحر وجذبة الغروب.. (بتوع نضال آخر زمن.. تخلفوا حتى عن نضال العوامات الذي عاتبهم عليه الفنان الشبخ إمام) لا ينشرون الا صورا لأولادهم وبناتهم وأحفادهم وحفيداتهم في حفلات الميلاد وأعياده التي لا تنتهي، أو صور وفيديوهات لفلذات أكبادهم وهم يغادرون التراب الوطني عبر المطارات الدولية الى الدراسة في الديار الأوربية والأمريكية والهندية.. أو حين يعودون من رحلاتهم السياحية الى الكعبة أو ملاعب الليغا الإسبانية وكأس العالم… وأضواء باريس العالمة..
هل انتهى دور المثقف العضوي في هذه المملكة السعيدة؟
لماذا بات المثقف العضوي المغربي أو في المغرب خائفا من ظله، متقيا ويل زوجه وبطش وزارة الداخلية وغضب الباطرونة/ الإدارة التي يشتغل فيها ويسابق زملائه لارضاء رؤسائه التافهين ويقبل رؤوسهم ولو كانوا مفسدين خارجين عن القانون.. بل ويتواطأ معهم في بطشهم ضد الشغيلة الزميلة، دفاعا عن مصالحه الرخيصة وأوهامه الكاذبة.
لماذا أصبح المثقف العضوي خنوعا لا يقو على رفع رأسه في الشارع، يسير الهوينى (حويطا حويطا كما يقول التطوانيون) بعد هروبه من المنزل ومن عياله او كابوس العمل لينزوي في مقهاه الفاره ويخبئ وجهه تحت قبعة أمريكية أو طربوش إرلندي (برنيطة) ماكر ومنهم من يفضل ارتداء نظارات سوداء حتى لا يكاد يراه أحد..ويضيع لساعات وراء الفضاء الأزرق ويتحاشى أن يضغط على أزرار الإعجاب “الجيمات” حتى لا يدخل اسمه الى ذاكرة قاعدة بيانات فرق ألإستعلامات. يبحث متشوقا لمعرفة من سقط هذا اليوم من الناشطين والحقوقيين والصحفيين في يد رجال الضابطة الشداد الغلاظ..وهل دخل المهدوي الى السجن أم لازال ينتظر..
وكم بلغت سرعة ضربات البوليس لجماجم المحتجين ضد نظام الغلاء وضد نظام التعاقد ونظام إعدام دستور 20 فبراير؟؟؟ وضد التطبيع…
واذا “سخن رأسه” عليه يكتب تدوينة أو شذرة أو مقطع أول لقصيدة لن تكتمل أو قصة نووية قصيرة جدا تحت تأثير أنزيم شقاء الوعي… وانهيار الإرادة. ثم ما يلبث أن يندم ويمسح ما كتب من ذاكرة هاتفه الذكي بعد أن تنتابه الشكوك بوجود أحد أصحاب الحال في المقهى الفاره دائما..ثم يهتبل سماعه لآذان صلاة الظهر أو العشاء ويغادر ناسيا دفع ثمن قهوته ويعرج على أول حانة ليرتشف كأسه الذي قد تصدق أو لاتصدق (مع الشاعر الطنجاوي فرج الروماني) وما أيدلف المكان يتملى طويلا في أرداف قاصرات الطرف الغاديات والرائحات بين الأرائك يتربصن بالعيون الزائغة بشبق الى عبدة الإله باخوس..وعندما يتأكد مثقفنا العضوي جدا من رضى أصحاب الحال الذين يحتلون الفضاء يرتشف ما تبقى من فنجان مائه المقدس ويغادر الى المنزل ليجد الأهل والعيال نائمون فيتسرب كحية تسعى الى مضجعه دون أن يفكر في خطة للنجاة…. ولا يفكر حتى في قراءة كتاب أو مجلة لكي لا يوقظ ذات الجنب..يغمض عينه ويقطع الأنفاس في انتظار سكرات النوم..يتأمل ماضيه وشعارات الفترة الطلابية وانشقاقات اليسار واتحاداته، ومجد الإتحاد وزهو الاستقلال وأيام المنظمة “أ”و”ب” وزمن يعتة والسرفاتي وماو وخروتشوف وصدام حسين وبنبركة ومصيره وبنجلون وسعيدة ورحال وحمامة والمودن تحت عجلات ضخمة وعزيز بلال وسط اللهب.. يبكي دمعتين ويقبل زوجته قبلة واحدة على الخفيف ويخر ساجدا لملك النوم..وقد امتلأ دماغه بصور تجاعيد الأسد.. وزمن البارود.. وفي المنام يتحسس مادته الرمادية ولا يجدها..لقد تبخرت في السديم..
وبعد شروق الصباح يستيقظ منتعشا ويعود الى كابوس العمل وهكذا تمضي الأيام والجدل قائم حول الخلط بين المال والسلطة. حول الثقافة والسياسة واسباب غلاء اللحوم والطماطم والبطاطس والمازوط… والدستور وتنزيلاته والتطبيع وتطبيقاته.. وأنصاره ينتظرون موقفه الذي يأتي ولا يأتي..
وفي المساء يعود إلى حليمته القديمة… القادمة..