سؤال عن أسبقية الوجود: حياد أكسيولوجي أم فضيلة معرفية؟

سؤال عن أسبقية الوجود: حياد أكسيولوجي أم فضيلة معرفية؟

د. محمد الشرقاوي

             يجازف من يلوّح بفكرة #الحياد_الأكسيولوجي” بتجويف القيم من فحواها ومضمونها المستمدّ من المثل العليا المتواترة في المجتمع وتجاهل تراكماتها الأنثروبولوجية عبر الزمان والمكان. وهي ترتبط بالفضيلة أكثر من الأخلاق، ولذلك أتمسك بأهمية #علم_الفضيلة science of morality، فيما يسميه آخرون #علم_الأخلاق” بمعنى ethics أو “الأخلاقيات العلمية”، ضمان مسار التنافس التاريخي بين الخير والشرّ، سواء في منحاه المجتمعي المتوارث عبر الأجيال أو عبر معيارية النصوص الدينية التي تتوخّى تنظيم العبادات والمعاملات.

تشمل أساليب تحقيق ذلك غرس الفضائل الصريحة، وبناء نقاط قوة الشخصية، وتكوين روابط ذهنية. وتتطلب هذه الأمور عمومًا مستوى معينًا من التفكير العملي. ولا أجاري من يقول إن “العلم ليس لديه ما يقوله بشأن موضوع القيم الإنسانية”، لأنهم يجوّفون منظومة القيم من أصلها واستمرارها ضمن الأعراف المنشودة بين الناس.

لو تمسك علماء الاجتماع والنفس والتربية بمقولة “الحياد الأكسيولوجي”، لاستمرّ وأد البنات ونظام العبودية والإقطاع والاستعمار، وأن للشعوب البيضاء احتكار الحضارة والتقدم دون غيرها، فضلا عن قائمة لا منتهية من تجليات الحيف التاريخي بين فئات طاغية وأخرى مغبونة في حقوقها الطبيعية. وأي نشاط علمي ينتج معرفة لا يتملص من مسؤولية مناصرة الخير على الشر، وتغليب المنفعة العامة على المضرة، كما تقول أدبيات علم المقاصد. واليوم، يتمسك علماء الغرب الوضعيرن حتى النخاع بمبدأ do no harm، بألا يؤدي البحث العلمي إلى أي أضرار.

اقترح بعض الكتاب، ومنهم جوزيف داليدن في كتابه “علم الفضيلة: الفرد والمجتمع والأجيال القادمة” (1998) أنه يمكن تعريف الفضيلة” بشكل مناسب على أساس المقدمات الأساسية اللازمة لأي مناقشة تجريبية أو علمانية أو فلسفية، وأن المجتمعات يمكن أن تستخدم أساليب العلم لتقديم إجابات على أسئلة الفضيلة. ولاحظ أن الديانات تغرس شعورًا عمليًا بالفضيلة والعدالة، والصواب والخطأ. كما أنها تستخدم الفن والأساطير بفعالية لتثقيف الناس حول مواقف الفضيلة.

لاحظ منظّر آخر هو جيمس ريست في كتابه بعنوان “التطور في الحكم على القضايا الفضيلة” (1979) أن التفكير المجرد عاملٌ أيضًا في إصدار أحكام الفضيلة، وأكد أنها وحدها لا تتنبأ بالسلوك القائم على الفضيلة: “قد يرتبط حكم الفضيلة ارتباطًا وثيقًا بسلوك المناصرة، والذي يؤثر بدوره على المؤسسات الاجتماعية، والتي بدورها تخلق نظامًا من المعايير والعقوبات التي تؤثر على سلوك الناس“.

تثير مقولة وجود علم فضيلة معياري، ومنه فرغ “الحياد الأكسيولوجي”، انتقادات عديدة بين العلماء والفلاسفة. من بين المنتقدين منظّر الفيزياء شون كارول، الذي يجادل بأن الأخلاق لا يمكن أن تكون جزءًا من العلم. ويستشهد هو وغيره من النقاد بالتمييز الشائع بين “الحقائق” و”القيم”، والذي مفاده أن المنهج العلمي لا يستطيع الإجابة على أسئلة “الفضيلة”، مع أنه يستطيع وصف معايير الثقافات المختلفة. في المقابل، يدافع علماء الفضيلة عن موقفهم القائل بأن هذا الفصل بين القيم والحقائق العلمية، أو “نسبية الفضيلة”، ليس تعسفيًا ووهميًا فحسب، بل يعيق أيضًا التقدم نحو اتخاذ إجراءات ضد الحالات الموثقة لانتهاكات حقوق الإنسان في مختلف الثقافات.

يجادل عالم آخر مهتم بأسئلة الفضيلة بين العلم والثقافة، هو ستيفن جاي غولد، بأن العلم والدين يشغلان “مجالين غير متداخلين”، ويعتدّ بأن العلم يُعنى بمسائل الواقع والنظرية، وليس بالمعنى والفضيلة – أي مجال الدين.

يطرح عالم الفيزياء المجري إدوارد تيلر بعض الأسئلة التصنيفية لتحديد طبيعة التداخل في تركيب مفهوم الفضيلة، فيقول: “ما هو الحق؟ ما هو الصواب؟ ما هو الجمال؟ العلم يدرس ما هو الحق، انطلاقًا من أفكار تكاد تكون مستحيلة (الأرض تدور! المستقبل لا يمكن التنبؤ به!). المهمة هي فهم هذه الأفكار ودمجها في صورة شاملة ومنطقية للكون. أما السياسة فتدرس  ما هو الحق، ويتطلب فهمًا واسعًا وتوافقًا نهائيًا في وجهات النظر التي غالبًا ما تبدو متضاربة. الفن هو تطوير الجمال – سواء من خلال الكلمات، أو النوتة الموسيقية، أو العمارة“.

بينما يميل بعض الكتاب إلى تصور علاقة متداخلة متشابكة بين الحقيقة والفضيلة والجمال، كمجاراة للأمل الذي عقدته البشرية على توافق هذه المُثُل الثلاثة ، يعتد إدوار تيلر بأن الأنشطة الناجحة في العلوم والسياسة والفنون تتباين تباينًا كبيرًا، وأنه “يمكن السعي وراء هذه الأنشطة الثلاثة في البداية دون مراعاة بعضها البعض، أو دون التوفيق بين التناقضات المحتملة”.

تلوّح جل الحكومات في العالم اليوم بوجود تناقض حاد بين نتائج العلم ومتطلبات الفضيلة ضمن مسار التسلح وتطوير الأسلحة النووية، بمستوى أعلى من القلق من تطوير القنابل الذرية في الستينات من القرن الماضي والتي انفجر بعضها في هيروشيما وناكازاكي، وأحدث مآسي إنسانية وكوارث بيئية. وعند غياب الفضيلة العلمية، يواصل العلم تطوير الأسلحة النووية، بينما يبدو أن سرديات الفضيلة الدولية تُلزم بعدم تطبيق هذه النتائج مطلقًا، ووقف الأبحاث المؤدية إليها.

يقول ستيفن شابين في كتابه “التاريخ الاجتماعي للحقيقة. الحضارة والعلم في إنجلترا في القرن السابع عشر” إن “ما نسميه “المعرفة الاجتماعية” و”المعرفة الطبيعية” هما هويتان هجينتان: ما نعرفه عن المذنبات والجبال الجليدية والنيوترينوات يحتوي بشكل لا يمكن اختزاله على ما نعرفه عن هؤلاء الأشخاص الذين يتحدثون عن هذه الأشياء وعنها، تماماً كما أن ما نعرفه عن فضائل الناس يتأثر بكلامهم عن الأشياء الموجودة في العالم“.

أخلص إلى القول إن الفضيلة العلمية التي تنطوي عليها فكرة “الحياد الأكسيولوجي” ليست طاولة جوفاء tabula rasa، بل تنطوي على منظومة القيم والمُثُل التي تتأتى من مباعدات سابقة بين مسار الشر ومسار الخير. وحتى عالم الفيزياء النووية أو عالم الاجتماع أو عالم التربية لا يحلقون في فلك تجريدي صرف، بل يحملون في عقولهم ووجدانهم وعقيدتهم الإنسانية ما يوّجه وعيهم للتمييز بين الطالح والصالح، بين السلبي والإيجابي، بين الرذيلة والفضيلة.

شارك هذا الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!